كاميرا السبت: أحلام ما قبل الموت!
علي حسين عبيد
2020-04-04 05:00
في الحيّ الذي أسكنهُ يوجد الكثير من المراهقين والشباب، وقد تكون نسبتهم الأعلى من سكان الحي، معظمهم تجمعني بهم لطائف كثيرة كالمزحة السريعة والنكتة المباغِتة، أما التحية والسلام فأتبادلها معهم جميعا، هناك مقهى أو كوفي شوب في الحي، يرتاده معظم الشباب، أحيانا عندما يوجد لدي وقت فائض أو أشعر بالفراغ والوحدة، تأخذني أقدامي إلى مقهى الشباب، ورغم علاقاتي الجيدة بهم إلا أنهم لا يتقرّبون مني، يتركوني وحدي في إحدى زوايا المقهى لأنهم يعرفون بأنني حتى في المقهى أحب التأمل!!
في الحقيقة أنا أتأمل الشباب أنفسهم، وأحاول أثناء وجودي في المقهى أن أكتشف مزايا وملامح كل واحد منهم وما يختلف به عن الآخرين، هنالك شابّان لا يفارقان بعضهما ولا يخالطان الآخرين، يجلسان وحدهما دائما، أحدهما ذو وجه صبوح مشرق متفائل، والآخر وجهه غائم مغطى بطلاء من الكآبة ثقيل، ولا أعرف كيف اجتمع هذان الشبان مع اختلاف طباعهما وملامحهما، ولا أدري كيف يلتقي التفاؤل بالتشاؤم، ثم حاولت أن أقنع نفسي بقانون التوازن الذي يلف كل شيء في الكون، الأبيض يقابله الأسود، النور يقابله الظلام، الخير يقابله الشر وهكذا..... فقلتُ لنفسي لعلهما يكمّلان أحدهما الآخر بهذا الاختلاف.
كنت أجلس قريبا منهما ولكن لا أتدخل في حديثهما، أستمع إليهما دون النظر في وجهيهما، الشاب المتفائل كان حالما يحب الحياة، وغالبا ما كان يطرح مشاريع مستقبلية جميلة (وإن كانت أحيانا بعيدة عن المنطق من حي إمكانية التحقّق)، وكل الأحلام تقريبا تبدو غير قابلة للتحقّق لكنها بالنتيجة تُنجَز وتُصبح فعلا مجسَّدا على الأرض، أحد مشاريع الشاب المتفائل مثلا، إنه يرغب أن يكون كيميائيا ويمتلك في المستقبل مختبرا ويغوص في عالم التركيبات الكيميائية والتحاليل وما شابه، ويجدّ ويجتهد في عمله ويفتتح فروعا أخرى للمختبر الأم في جميع دول العالم وضرب مثلا لصديقه المتشائم بشركة مطاعم مكدونالد التي بدأت بمطعم واحد وأصبح لها اليوم فروع في كل العالم، كان الشباب المتفائل متدفقا حيويا في كلامه وواثقا من أنه سوف يتحقق مستقبلا فيما كان صديقه المتشائم يستقبل الكلام بيأس مطلق ويهز يده دلالة الاستهزاء أو عدم منطقية أحلام صديقه المتفائل.
بعد اجتياح كورونا للعالم، ومن بينه العراق، وصولا إلى مدينتي والحي الذي أسكنه، تم إغلاق المقهى، وتفرّق الشباب الذين كانوا يملأون المقهى صخبا كلٌ في بيته، متحصّنا من الجائحة والفايروس الخطير، لم أعد أرى الصديقين المتلازمين المتفائل والمتشائم إلا نادرا، كأن أذهب إلى التسوّق على عجل فأراهما يهمّان سريعا في الزقاق في طريقهما إلى مكان ما، ثم بعد أيام وأنا أحاول مواصلة رياضة المشي المعتاد عليها قبل كورونا، رأيتهما يجلسان عند باب بيت يعود لأسرة أحدهما، في الباب دكة عالية يجلسان عليها معاً دون أن يلبسا الكمامة أو الكفوف والمسافة الفاصلة بينهما قريبة جدا، فكنت أراهما يتحدثان إلى بعضهما كأنّ كورونا غير موجود أصلا، وهكذا في كل يوم أخرج للمشي في أزقة الحي فأراهما جالسيْن معا بنفس المكان، لاسيما في الأيام الأولى من انتشار الفايروس.
وحين كنت أمرّ قريبا منهما ألقي التحية عليهما وأحاول أن أكتشف التغييرات التي طرأت عليهما بعد تفشي كورونا، كان الشاب المتفائل لا يزال كما هو حيويا بشوشا وجهه يشعّ بالأمل، فيما بقيَ صديقه خافت الوجه مسربلاً بالقنوط، لا تكاد تخرج من فمه الكلمة إلا لماما، فكّرتُ مع نفسي: إن التفاؤل يمكن أن يجعل الإنسان ناجحا، وقد يكون سببا في حمايته من أخطر الأمراض، أما الكآبة والتذمر الدائم والتشاؤم قد يكون سببا في عزلة وموت صاحبه، هذا هو المنطق المعلن من قبل العلماء المختصين وغيرهم...
لكن المفاجأة التي حدثت هي كما يلي:
بعد أنْ انقطعتُ عن عادة المشي مساءً لعدة أيام، واكتفيتُ ببعض التمارين والحركة داخل البيت لأسباب نفسية وسواها، عاودتُ مجدّدا رياضة المشي دون الاختلاط بأحد طبعا، وحين وصلتُ الباب الذي يجلس عنده الشبّان المتفائل والمتشائم، لم أجد لهما أثرا، كانت دكة الباب خالية منهما، استغربتُ حقا وحزنت بعض الشيء وتسلل القلق إلى رأسي، وبدأتُ أتساءل لماذا لم أجدهما في نفس المكان، ما الذي حدث لهما؟، هكذا رحتُ أفكر وقرّرتُ في اليوم التالي أن أطرق الباب وأسأل عنهما.
في مساء اليوم التالي وأنا أعاود رياضة المشي وحين رحتُ أقتربُ من الباب المقصود، رأيت من بعيد شخصا وحيداً يجلس على الدكّة، وعندما تقرّبتُ منه أكثر، بدأتْ ملامحه تتضح لي، إنه الشاب المتشائم يجلس وحيدا، سألتُ نفسي وقد وخزني قلبي: لماذا يجلسُ وحدهُ؟
ثم سألتهُ بصوت واضح متلهّف: لماذا تجلس وحدك اليوم؟؟....
بقي الشاب في حالة صمت، كأنه حجر، وحين كرّرتُ عليه سؤالي، انخرط في نوبة بكاء حارقة، مما زاد في حيرتي ولهفتي لمعرفة ما حدث.......
لقد مات الشاب المتفائل.. هكذا عرفت وفهمت.. ولكن ليس بكورونا، بل بحادث سير طائش، سيارة رعناء صدمت جسده بقوة وهو يعبر الشارع على عجل، وهشّمت رأسه، فلفظ أنفاسه في دقائق، مات الشباب المتفائل، وماتت معه أحلامه وبشاشته ومشاريعه المستقبلية، فيما ظل الشاب المنطفئ وحيدا...
بعد أسبوعين تقريبا وأنا أعاود رياضة المشي مساءً، مررتً بنفس الباب، فوجدتُ شابّين يجلسان جنب بعضهما، أحدهما المتشائم الذي أعرفه ومعه شاب آخر يحمل نفس صفات الشاب الذي مات، عرفتُ فيما بعد أنه أخوه الذي يصغرهُ بسنةٍ...
الجديد في الأمر هو تغيّر الشاب المتشائم، فقد صار حيويا، بشوشا، حالما، متأملا، وحين سألته كيف ولماذا ترك خموله وتذمره وكآبته، قال:
فعلتُ هذا لأمرين، الأول: آمنتُ أنّ الحياة لن تمنح الفرص الجيدة لليائسين.
الأمر الثاني: أريد أن أكون وفيّا لصديقي الراحل، فأصيرُ مثلهُ حالِماً مجتهدا......