أزمة الوعي ودور جهاد الكلمة

محمد علي جواد تقي

2015-05-26 01:45

ربما بإمكان أي شخص، في أي مكان من بلادنا، الحديث عن أزمات متعددة، مثل الخدمات أو التعليم أو الصحة أو الأمن أو السكن أو فرص العمل وحتى أزمة الثقافة، سوى الحديث عن "الوعي" أو "اليقظة"، فان الجميع يدعّي انه واعٍ يقظ، يعلم بكل شيء ويعرف عما يدور حوله، والسبب بسيط نابع من فطرة الانسان، فهو "الجهول الظلوم"، كما انه المتنفّر من الجهل والغفلة، لانه تترتب عليها سمات وصفات تضر بشخصية الانسان ووجوده في المجتمع.

هل حقّاً هناك أزمة؟

السؤال مردّه الى سهولة الناس الى المعلومة والفكرة خلال لحظات، وبكل سهولة وبالمجان، فكيف تكون هنالك أزمة وعي، مع وجود آلاف المواقع على النت، وشبكات التواصل الاجتماعي على الهاتف المحمول، الى جانب آلاف القنوات الفضائية من مئات الاقمار الصناعية حول كوكبنا الصغير والصاخب؟. لنفترض ان الانسان العراقي او السوري او السعودي او غيره، عرف من يقف خلف الارهاب التكفيري، ومن المحرّض والممول والمساند، وعرفت شعوب الربيع العربي، من الجهات التي أجهضت طموحات الشعوب في التغيير الحقيقي، بل حتى بعض الشعوب تعرف بسوء حال حكامها وضحالة مستواهم السياسي والثقافي، بل وحتى يعرفوا حق المعرفة، عدد المليارات من الدولارات التي نهبت من ثرواتهم. لكن كل هذه المعارف او المعلومات، لن تغير من الواقع شيئا، - اذا لم نقل بازديادها سوءاً- لان هناك عمل ممنهج لوعي من نوع آخر يواكب هذه المعارف التي تثير الغضب والانزعاج، فنلاحظ الحديث عن الغرائز، مثل الجنس والطعام والمال، او محاكاة النزعات الانسانية والنفسية كالاستقواء على الآخرين والاعتداد بالنفس والحرية بلا حدود، وهذه تصدق على الإناث كما تصدق ايضاً على الذكور، بل حتى الاطفال مشمولون بهذه الحملة التوعوية الكبيرة – إن صحّ التعبير-.

والقضية ليست متعلقة بوسائل الاعلام وحسب، إنما هنالك مسارات متعددة في المجتمع تعمل على التسويق مباشرة، نأخذ مثالاً الأزياء وأنماطها وألوانها المختلفة والعجيبة، وايضاً قصات الشعر وحالات التمظهّر، او التطبّع على حالات وسلوكيات لم تكن سابقاً مثل التزام حمل الهاتف النقّال، او التسمّر لساعات على شاشة الحاسوب وغيرها من مظاهر الوعي لاصحابها، بينما المحصلة تقول: أن هذا اللون من الوعي لا يقدم لصاحبه سوى المزيد من الغفلة، فمن سمات المجتمع المستهلك دائماً، انه لا يجد الحاجة كثيراً الى الوعي، لاسيما اذا كان يتعلق بأمور بعيدة المدى، مثل النظام الاجتماعي او النظام الاقتصادي، أو الاكتفاء الذاتي في كل شيء، او ان يعرف الطريق الى الابداع والتطور، لاسيما اذا كان الوصول الى مرحلة الوعي عن هكذا أمور، بحاجة الى مشاوير في المطالعة والدراسة والمتابعة، وهو ما يصدّع بعض الرؤوس! ويثير الملل.

من هنا يمكن القول: أن هنالك وعيا في عديد المجالات، من مأكل وملبس وحتى الجنس، ولكن دون الوعي الفكري والحضاري الذي طالما دعا اليه سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- اضافة الى علماء ومفكرين اسلاميين، فهذا الوعي هو الذي ينتج التغيير الحقيقي في البلاد الاسلامية.

التنوير لا التضليل

كما أسلفنا، فان هنالك وسائل اعلام ووسائل تسويق ثقافي تساعد على انتشار نوع من الوعي بين الناس، كما هنالك الأدوات المتبعة لهذا التسويق، فأصحاب هذا الوعي لا يهمهم اي مقدار من الحقيقة يصل الى الناس، حتى وإن كان واحد بالمئة، او ربما تكون مشوهة او حتى مزيفة اذا اقتضى الامر. في حين الأداة المتبعة لتحقيق الوعي الحقيقي الذي تحدث عنه سماحة الامام الراحل في كتابه "السبيل الى انهاض المسلمين"، عبارة عن "جهاد الكلمة"، بل انه يعد هذا الجهاد "أفضل من الجهاد في المعركة"، بدليل أن الوعي الحقيقي هو الذي يمكّن صاحبه اتخاذ القرار الصحيح والمناسب في الوقت المناسب عندما تشتدّ الازمات وتكون الحاجة ماسّة لخوض المواجهة والتصدّي للمخاطر التي تهدد الامة. كما حصل في العراق، عندما هبّ الناس تلبيةً لنداء علماء الدين لمواجهة خطر تمدد الارهاب التكفيري، وهم يخوضون القتال يضحون بحياتهم المستقرة والآمنة في بيوتهم ثم بأرواحهم في سبيل قيم ومبادئ وعوها من قبل.

ان الدعوات التي اطلقها سماحة الامام الشيرازي منذ عقد الستينات وحتى آخر أيام حياته، بتشييد المكتبات ودور النشر والمؤسسات الثقافية والفكرية، وطباعة ملايين النسخ من الكتب والمجلات، الى جانب دعوات سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي – دام ظله- بتأسيس المزيد من القنوات الفضائية ومواقع النت وغيرها من الوسائل العصرية، كلها تمثل تحدٍ كبير يعتد به حقاً، أمام سيل هادر من المعارف والثقافات التي تشكل وعي جماهيري خاص في الامة، ليس اليوم، وإنما منذ عقود من الزمن.

لذا نلاحظ اصحاب الكلمة الصادقة والرسالة الانسانية هم الاكثر استهدافاً للاتهامات والضغوطات، وأكثر تعرضاً للمشاكل في حياتهم، لانهم إنما يجاهدون بالكلمة بما يرضي ضمائرهم ويخدم الحق والحقيقة، بينما الذي يقف في الطرف المقابل يعمل، وبجد واجتهاد لإرضاء الحاكم او المؤسسات الثقافية ذات الاهداف المشبوهة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي