المرأة في الإسلام: الزهراء نموذجاً
ابراهيم محمد جواد
2018-01-31 05:50
تمهيد:
تتجسم السبل شارعة واسعة ببهارجها وزبارجها أمام المرأة المسلمة المعاصرة، وعلى كل سبيل دعاة ينادونها بكلام ساحر، وخطاب آسر، ويعرضون عليها بضائعهم مزجاة، يسبقها بريقها ولمعانها، وترافقها التزويقات الشهوانية، والتسويلات الشيطانية، والتزويرات التي تبهر العيون، وتأسر القلوب، وتلوي عنان النفوس، والله سبحانه وتعالى يحذرنا اتباع هؤلاء الدعاة، وينهانا عن سلوك سبلهم، واصطناع طرائقهم، وانتهاج مناهجهم الفاسدة المهلكة: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(1).
ومع أننا - في هذا العصر - قد أفلتنا من أيدينا نواصي وسائل الاعلام، بسعتها وانتشارها، التي يستخدمها أولئك الدعاة إلى سبل الشيطان المتفرقة، ورغم تخلف الخطاب الإسلامي، وقصوره عن تقديم الصورة الصحيحة، عن سبيل الله القويم، وصراطه المستقيم، كما عرضها الإسلام، نصوصاً نظرية وسلوكاً عملياً تطبيقياً، من خلال النماذج الكثيرة التي قدمها في حياة الرسول (ص) وبعد وفاته، فإننا سنحاول أن نقدم للمرأة المعاصرة أنموذجاً واحداً من هذه النماذج الكثيرة، من خلال الحديث عن سيدة نساء العالمين، السيدة الزهراء عليها السلام، ابنة داعية، وزوجة عاملة، وأماً مربية، وامرأة عابدة.
الزهراء (الابنة الداعية):
حفلت حياة الزهراء (ع) منذ الصبا وحتى الوفاة، بنشاط واضح ومتميز لدعم رسالة الاسلام، والدعوة إليه قولاً وفعلاً وسلوكاً حياتياً يومياً.
فلقد (شبت في خضم هذا البحر المتلاطم بأمواج الخير والشر، وفي لجة هذا المحيط الزاخر بالصراع المحتدم، بين حلكة الظلام الدامس، وأشعة النور المتلألئة، ووسط هذه الأجواء الملبدة بالغيوم، الحبلى بالأحداث. شبت وهي تسمع وترى وتحس بكل ما يجري حولها، ويطير قلبها شعاعاً كلما أحست بوطأة الشرك، والعنت الشديد الذي يلقاه أبوها (الرسول) من أولئك الجاحدين المعاندين) (2).
(وحل المساء على فاطمة ذات يوم، لتجد نفسها وأمها خديجة، وأباها محمداً، وعمه أبا طالب وأبناءه وجميع بني هاشم وبني عبد المطلب، والمسلمين، معزولين عن الناس، محصورين في شعب أبي طالب (3)، حصاراً ضيق عليهم معيشتهم، وحبس عليهم أنفاسهم، وهدد حياتهم، حتى أكلوا أوراق الشجر وأعشاب الأرض، ويابس الجلود، وطري الحصى، وسفّوا التراب.. وفاطمة الصغيرة ترى نفسها مضطرة لتفعل كما يفعلون، وتأكل مما يأكلون، وتعيش -بينهم ومعهم- الحياة الصعبة التي يعيشون... ولشد ما كانت مرحلة مرة، وفترة قاسية جداً في حياة الزهراء الصغيرة، حفرت ذكرياتها الأليمة في نفس وقلب فاطمة، لكنها(ع) تعلمت فيما تعلمته في تلك المرحلة، أن لا مناص من الصبر، ولا محيص عن التضحية، ولا بديل عن البذل، مهما كانت الظروف والنتائج.. وأن كل شيء على الإطلاق يهون ويرخص، إن كان في عين الله تعالى، وفي سبيله سبحانه) (4).
لم تعد فاطمة تأمن قريشاً على أبيها بعد الخروج من الشعب، فكانت كثيراً ما تتبعه إلى بيت الله (الكعبة الحرام) دون أن يدري بها، أو كانت ترسلها أمها خديجة تبحث عنه كلما افتقدته، وكثيراً ما كان عتاة قريش يتعرضون لها بالضرب أو بالشتم كلما رأوها، فكانت(ع) تتحمل كل ذلك، وتعود لتطمئن أمها خديجة عن مكان أبيها، وتخبرها بما فعل بها أولئك القساة المشركون.
وذات يوم وفيما أبوها رسول الله (ص) ساجد لله في البيت الحرام، إذ أقبل أحد المشركين - بإغراء من قريش - فرمى على النبي (ص) سلا جزور وأحشاءه، بين هزأ المستكبرين وضحكاتهم، فما تمالكت أن هرعت إليه باكية، تزيل الأوساخ عن ظهره، وتميط الأذى عنه بيديها الناعمتين، ويرمق النبي الحليم والأب العطوف الرحيم ابنته فاطمة، بكل ما تشع به عيناه من الحب والحنان والرضى، وبكل ما يفيض به قلبه من الثبات والاطمئنان، ثم يأخذها بين يديه الطاهرتين، ويضمها إلى صدره الشريف وهو يقول: (لا تبك يا ابنتي، فإن الله مانع أباك من كيدهم، ومظهر دينه على الشرك كله ولو كره الكافرون).
وما أقسى ذلك اليوم على فاطمة(ع)، عندما فوجئت بموت أبي طالب عم أبيها، وزعيم قريش وعميد بني هاشم(5).
وشعرت فاطمة بجناح من أجنحة أبيها يتهشم، وركن من أركانه يتهدم؛ لقد فقد الحامي القوي، والسند المتين.
وما هي إلا أيام قلائل، حتى حلت المحنة الأخرى؛ إذ نزلت مصيبة الموت بأمها خديجة(ع)، وهي للنبي (ص) جناح آخر، وتهدم ركنه الثاني.
أتتلقى فاطمة (ع) العزاء بموت أمها التي لا مثيل لها في الأمهات؟ أم تقوم -رغم ما بها من الوهن- فتعزي أباها الذي لا مثيل له في الآباء، بزوجة لا مثيل لها في الأزواج؟!.
وتحاملت فاطمة على نفسها، وكبتت دموعها، وانطلقت بعزم ونشاط إلى أبيها تهدهد عنه الحزن، وتمسح عن خديه الدموع، وتمنحه الدفء والحنان والحب؛ علّ ذلك يعوض عنه بعض الذي فقده في أمها خديجة، وكم وجدت الزهراء(ع) نفسها بعد ذلك وهي تنزع الأشواك عن قدمي أبيها، وتمسح الدماء عن رجليه، وتغسل عن يديه ووجهه التراب، وتزيل عن ظهره وصدره وذراعيه الأوحال والأوشاب.
وما أسعدها يوم رن في أسماعها صوت أبيها (ص)، بلحن عذب يهز القلوب ويطرب الفؤاد:
(ما أسرع ما أصبحت أم أبيك يا فاطمة!! ) (6).
وسيان في عمود النور المتطاول برأسه في عنان السماء، أن تكون فاطمة بنتاً لأبيها وأماً له، بنتاً له في الولادة والنسب، وأماً له في الرعاية والحدب، بنتاً له في التربية والاقتداء، وأماً له في الحياطة والاعتناء، وفي الحالين تبقى فاطمة هي فاطمة.
وفي السنة الحادية عشرة للبعثة، وقد ازداد أذى قريش لرسول الله (ص)، وصحبه الذين آمنوا معه، ثم لم يكتفوا بذلك كله، حتى اجتمعت كلمتهم على اغتيال رسول الله.. وسمعت أباها ذات يوم يأمر أصحابه بالهجرة إلى (طيبة).. الهجرة التي لم تكن قد أدركت معناها يوم هاجرت أختها رقية إلى الحبشة، ولكنها ذاقت ولا تزال مرارة الحنين والشوق لأختها الحبيبة.
وقفت الزهراء(ع) في بيت أبيها في مكة، تودع المكان الذي عاشت فيه مع أبيها وأمها وأخواتها أعواماً مليئة بالأحداث، حافلة بالمتاعب، وقد أحست أنه الفراق الذي لا لقاء بعده.
قلبت نظراتها الأخيرة في البيت الذي ولدت فيه وشبت بين جدرانه، ثم لم تلبث أن خرجت باكية تجلل الدموع الغزيرة خديها، وأسلمت نفسها مع الركب لرمال الصحراء المترامية الأطراف، والخطر محدق بها، والمتاعب تحوطها، والأمل يحدوها للقاء أبيها في موطنه الجديد (يثرب)، والأسف يملؤها لهؤلاء الذين حجزتهم مراكزهم الاجتماعية ومصالحهم الشخصية المادية، عن رؤية النور المشع من كلام النبوة، فمضوا في دروب الشك، وآثروا الظلام على النور، وعملوا جادين لإطفاء نور الله، ألا ما ألأم هؤلاء القوم، وما أقسى قلوبهم، وما أجرأهم على الله سبحانه!!.
الزوجة العاملة:
بمهر قليل جداً، ووليمة عرس متواضعة، وبأمر من الله سبحانه، تم زواج النور من النور، وضم بيت الزوجية البسيط، فاطمة الزهراء إلى علي بن أبي طالب(ع)؛ ليكون مركز الإشعاع الذي سيستمر العطاء الإلهي من خلاله، فيملأ الأكوان بنور الإسلام والقرآن، بعد أن اكتمل الدين على يدي رسول الله (ص)، وتمت النعمة على المسلمين، ورضي المولى سبحانه وتعالى الإسلام ديناً للعالمين.
وبكل بساطة رُفض الخاطبون الأغنياء، وقُبل الزواج من الرجل الفقير مالاً، الغني نفساً وإيماناً وعلماً وخلقاً؛ لأنه المرضي عند بارئه، فلا كفء للزهراء سواه؛ وترسخت القاعدة الإسلامية في بناء الأسر المسلمة (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) (7).
وتقاسما العمل فيما بينهما، علي يكفيها من العمل ما كان خارج البيت، وما يستوجب مزاحمة الرجال ومخالطتهم ومخاطبتهم؛ فإن ذلك كان أبغض ما يكون إلى الزهراء، وهي التي كانت تقول: (خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال) (8).
والزهراء(ع) تكفيه من العمل ما كان داخل البيت، مما اعتادت النساء أن يقمن به دون رجالهن، وبذلك تقر المرأة في معقلها الطبيعي، بعيداً عن عيون الرجال، مرتاحة من مخالطتهم، متجنبة أن تزاحم بمنكبيها مناكبهم.
علي (ع) يحتطب ويسقي النخل، ويستسقي الماء ويأتي بالطعام، وفاطمة تطحن وتعجن وتخبز وتغسل وتكنس وتطبخ.
وهكذا دأبت فاطمة(ع) على عملها داخل البيت، تنظفه وترتبه، وتدير بيديها الناعمتين رحى ثقيلة، لتحصل على طحينها فتعجنه وتخبزه، لتقدمه لبعلها كلما عاد إلى البيت، وتقدم له معه كل وسائل الراحة النفسية والجسدية، والمحبة القلبية، والسعادة في الحياة، وتخفف عنه الهموم، وتغسل عن قلبه صدأ الأيام وخُلف الرجال، وانقلاب الناس على الأعقاب.
ودأب علي (ع) على أن يحوطها بكل العناية والرعاية، ويقدم لها ما وسعه من العون والمساعدة في حصتها من العمل داخل البيت، ولا يخفي عنها ما يكنه لها من الحب والتقدير والود والاحترام.
وسارت الحياة بينهما سعيدة لا يعكرها الفقر الذي كانا عليه، ولا الحرمان الذي أحاط بهما من كل جانب، ولا التعب الذي كان ينالهما في كل يوم، حتى مجلت يداها من الطحن بالرحى، واغبرت ثيابها من الكنس، وأثر في صدرها الاستقاء بالقربة، وهي تداري عن علي تعبها، وتخفي عنه آلامها، ولا تشكو إليه ما بها، حباً له ورحمة به، وخوفاً على مشاعره وأحاسيسه وعواطفه، وحرصاً على رضاه.
ولم يكن علي بالذي يجهل ما بفاطمة أو يتجاهله؛ فلقد كان يحس من أعماقه ما تعانيه زوجه فاطمة من تعب، وما تلاقيه من نصب، وكان يرى بعينيه الآثار ظاهرة في يديها البضتين، والتعب يلوح في عينيها المرهقتين؛ فيسرع إلى معاونتها في أعمالها داخل البيت، كلما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وهكذا قاسمها علي (ع) العمل، وقاسمته الهموم، وذاقا معاً مرارة الصبر على المعاناة والألم والجوع، وحملا مسؤولية التربية والتعليم للأولاد ومن بعدهم، وعن طريقهم، للأجيال قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، فكانا طرفي الرحى التي تدور بالحياة، وترمز إلى العلم والعمل، وتبشر بالأمل، وكانا شمس الكون وقمره، اللذين ينيران الوجود في الليل والنهار، وينثران الكواكب في سماء المجد، ويقودان سفن النجاة في البحار اللجية الهوجاء.
بهذه الروحية الطاهرة استمرت حياة الزوجين؛ كل منهما يشعر أن الآخر وديعة عنده، وأنه مكمل له، وأنه لا يستطيع إلا أن يقدم له كل المشاعر الصادقة في انسجام متناغم، وتقابل متكافئ متعادل الدم، متوازي التوجه، متماثل الجهد والقصد، كل يعرف قدر صاحبه ومكانته، ويعرف موقعه وإمكاناته، ويعرف ما أنيط به من أعباء ومسؤوليات.
أيّ بيت مسلم ذلك الذي انطوى على معصومين مطهرين منزهين؟! فكانا أنموذجاً كاملاً للبيت الإسلامي المبارك؟
وأيّ زوجين مسلمين كاملين ضم بيت فاطمة وعلي (ع)، فانطوى على الصفاء والنقاء، والتفاني والاخلاص، والألفة والمودة، والتعاون والرحمة، والمحبة والطاعة؟!.
وكيف لا يكونان كذلك، وقد تربيا معاً في حجر النبوة، يشمان ريح الوحي، ويعيشان شكله وصوته، وتتلقى أذناهما الواعيتان آيات القرآن الكريم من فم رسول الله (ص)، ترنيماً وترتيلاً وصلاة، وتتردد في قلبيهما خضوعاً وخشوعاً، وترف في جوانحهما بمعانيها المقدسة، ولباب جواهرها وكنوزها، فتفيض على الجوارح علماً وعملاً وأدباً وسلوكاً، ليكون علي (ع) نموذجاً كاملاً لكل زوج مسلم، وتكون الزهراء(ع) أسوة وقدوة لكل زوجة مسلمة، ولتكون أسرتهما الصورة النموذجية الكاملة للأسرة المسلمة.
الأم المربية:
من بيت الرسالة والنبوة حيث يشع نور الهداية، انتقلت السيدة الزهراء(ع) لتستقر في دار الإمامة والولاية، حيث يتلألأ الضياء الرباني والهداية المحمدية، ومن كريمة للنبي (ص) إلى قرينة للوصي(ع)، إلى أمّ مطهرة للأئمة الأطهار، والقادة البررة الأخيار(ع)، الجوهر هو الجوهر، والنور هو النور، لكنها نقلة طويلة بعيدة، من طور إلى طور، ومن دور إلى دور، إنها مسؤوليات جديدة، وتبعات جسام من نوع آخر، إنها مرحلة العطاء بعد أن تم واكتمل البناء، إنها فترة الإثمار بعد أن غطت الأزهار هام الأشجار، وانتشرت رياحينها على الأقطار.
وهكذا جاء الحسن ثم الحسين(ع) سيدا شباب أهل الجنة، وريحانتا رسول الله (ص) من الدنيا، ثم تلتهما الحوراء زينب الكبرى(ع)، وزادت الأعباء على كاهل الزهراء، وبات عليها أن تتفرغ للاعتناء بالغرس النبوي المبارك، والنسل العلوي المطهر، وتربيته وتعليمه، بالإضافة إلى الاعتناء بالزوج، وتهيئة كل أنواع الراحة المتاحة -ولو نفسياً على الأقل- للزوج الودود العطوف، وللأولاد الذين سيهيئون لما رسم الله لهم من أدوار في قيادة سفينة الإسلام التي لا نجاة لمن تخلف عنها من المسلمين.
وقد أبلت الزهراء -مع زوجها- البلاء الحسن في تهيئة أنقى الأجواء التعليمية والتربوية لأئمة المستقبل، الذين سيستمر بهم الدين إلى أن يظهر على الدين كله ولو كره المشركون والكافرون.
وقد مارست دورها التربوي هذا، عملياً قبل أن يكون نظرياً، وبالأفعال قبل الأقوال؛ فكانت الأم العالمة والعاملة، والقانتة العابدة، والكريمة الباذلة، والمنفقة المؤثرة -على نفسها وزوجها وأولادها- كل يتيم وأسير ومسكين وفقير، المتحملة شظف العيش ومر الحرمان، الزاهدة في الدنيا ومغرياتها، الراغبة في الآخرة ونعيمها.
الــــــزهراء العابــــــدة
ما ترانا نستطيع أن نقول في عابدة آل محمد (ص)؟ وبأي عبارة نصف عبوديتها لله سبحانه وعبادتها له؟ أهناك كلام يفي القانتة العابدة حقها؟.
لنسأل الحسن البصري، فلقد بلغه شيء عن عبادتها، وسنسمعه يجيب قائلاً: (ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة بنت محمد، كانت تقوم حتى تتورم قدماها) (9).
هذا والحسن البصري لم ير الزهراء(ع)، ولم يكن في عصرها، وإنما بلغه ذلك سماعاً عن غيره؛ فلا بد أن ذلك كان مشهوراً متناقلاً بين الناس، أما ابنها الإمام الحسن بن علي(ع)، فيصف لنا ما رآه عياناً وشاهده مراراً وتكراراً، يقول: (رأيت أمي فاطمة (ع) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم) (10).
وحينما سأل النبي (ص) علياً (ع) بعد زواجه من ابنته الزهراء: (كيف وجدت أهلك؟) لم يكن جوابه وجدتها جميلة أو وجدتها لطيفة، أو..أو... وإنما كان الجواب بما يليق بالزهراء وعلي، وبما هو الحق والصواب: (نعم العون على طاعة الله) (11).
هكذا ينبغي أن تكون الزوجة المسلمة، وهكذا ينبغي أن يكون مراد الزوج من زوجته؛ طائعة عابدة لله، ومعينة لزوجها -وأولادها بالطبع- على طاعة وعبادة الله سبحانه.
هذا وقد كان للزهراء(ع) تسبيح عند النوم وعقب كل صلاة، عرف بين المسلمين واشتهر، اسمه (تسبيح فاطمة) (12)، تعلمته من أبيها رسول الله (ص)، وقد قال عنه الإمام الباقر (ع): (ما عبد الله بشيء أفضل من تسبيح فاطمة كل يوم دبر كل صلاة، ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله ابنته فاطمة) (13).
وكانت (ع)كثيرة الدعاء مع الصلاة والتسبيح، تكثر منه إكثارها منهما، لأن الدعاء مخ العبادة، فكانت إذا جنّ الليل وانتشر الظلام، وشرعت في الصلاة، ترفع يديها وينطلق لسانها بليغاً فصيحاً تناجي ربها.. توحده وتنزهه وتسبحه، وتحمده وتشكره، وترجوه وتدعوه، وتتزلف إليه وتتقرب، وهي سيدة النساء القريبة إلى الله، وترتجف أوصالها خشوعاً وبخوعاً وخضوعاً، وهي الآمنة من غضب الله الواثقة برضاه، المبشرة بجنته ورضوانه، ولكنه خشوع الحب والوجد، وبخوع العرفان والصلة، وخضوع الإيمان واليقين.
فهي تسبح الله تعالى بقولها:
(سبحان ذي العز الشامخ المنيف، سبحان ذي الجلال الباذخ العظيم، سبحان ذي الملك الفاخر القديم).
أو تدعوه: (يا من ليس غيره رب يدعى، يا من ليس فوقه إله يخشى، يا من ليس دونه ملك يتقى، يا من ليس له وزير يؤتى، يا من ليس له حاجب يرشى، يا من ليس له بواب يغشى، يا من لا يزداد على كثرة السؤال إلا جوداً وكرماً، وعلى كثرة الذنوب إلا عفواً وصفحا).
أو تسأله: (يا من لا يعلم كيف هو وحيث هو إلا هو، يا من سد الهواء بالسماء، وكبس الأرض على الماء، واختار لنفسه أحسن الأسماء، اللهم إني أسألك بحق كل اسم هو لك، يحق عليك فيه إجابة الدعاء إذا دعيت به، وأسألك بحق كل ذي حق عليك، وأسألك بحقك على جميع ما هو دونك، أن تفعل بي كذا وكذا).
أو تناجيه: (اللهم سيدي، من تهيأ أو تعبأ، أو أعد أو استعبد، لوفادة إلى مخلوق، رجاء رفده وفوائده، ونائله وجوائزه، فإليك يا الهي كانت تهيئتي وتعبئتي، وإعدادي واستعدادي، رجاء رفدك ومعروفك، ونوائلك وجوائزك، فلا تحرمني ذلك يا من لا تحفيه مسألة سائل، ولا تنقصه عطية نائل).
هكذا كانت فاطمة(ع): ابنة داعية، وزوجة عاملة، وأماً مربية، وقانتة عابدة، وكانت إلى ذلك، المتكلمة الفصيحة، والمتحدثة البليغة، والعالمة العارفة.. وصفات أخرى لا يبلغ كنهها المتكلمون، ولا يصل إلى مداها العادّون، ومن أحق أن يكون كذلك سواها؟! وقد استقت من فيض النور الإلهي الذي خلقت منه، وحباها الله به، وقبست من شعلة النبوة التي عاشت في كنفها، ورضعت لبانها الصافي، ونهلت من نبع الإمامة، تشهد تفجره في بيتها، وتسعد بتدفقه وجريانه من بين يديها. ولم لا تكون كذلك؟ وهي بنت سيد المرسلين، وقرينة سيد الوصيين، وأم الأئمة الأبرار المطهرين، وهي في نفسها سيدة نساء العالمين..
فهي الرمز المقدس، والأنموذج الكامل، والمثال الذي يقتدى، والأسوة التي تحتذى، سلام عليها في الأولين، وسلام عليها في الآخرين.. والحمد لله رب العالمين..