كيف سيشكل البترول تهديداً لمستقبل مشايخ الخليج؟
حاتم حميد محسن
2015-01-02 10:11
ان قصة مشايخ الخليج تندرج ضمن حكايات الفقر للكاتب الامريكي هورات ايلغر (Horatio Alger). ففي نصف القرن الماضي، حوّل البترول الدول الخليجية الست من حالة الفقر المدقع الى أغنى بلدان العالم.
حقول النفط العملاقة التي اكتُشفت بين الثلاثينات والسبعينات من القرن الماضي، مثل حقل برقان في الكويت وحقل الغوار في المملكة السعودية، وفّرت للعالم الحر مصدراً مثالياً للطاقة. فهو بترول سهل يجثم في مستودعات لا حدود لها يمكن ان تتدفق حالما يتم غرس مثقاب الحفر في باطن الارض. والملفت ايضا، عدم وجود طلب اقليمي لذلك البترول. حيث ان سكان الخليج قلة واقتصادهم متخلف.
وعلى مر السنين، حافظ حكام الخليج على دورهم الدائم في الحفاظ على مصالح الغرب وذلك بتأمين حاجة الاسواق الغربية للبترول في ظل فترة غير مسبوقة من النمو الاقتصادي والسكاني. العوائل الملكية الحاكمة تمكنت من جني مبالغ هائلة لتحسين حياة شعوبها التي كانت آنذاك تعيش في حرمان شديد، حيث القليل من الكهرباء او الماء النقي او الخدمات الصحية او التعليم. تلك العوائل الحاكمة جعلت رعاياها اثرياء ومقتنعين بحياتهم، حيث جسّد انتاج البترول حلقة حميدة.
غير ان تلك القصة القديمة بدأت تتغير. امراء الخليج خلقوا رغبة متزايدة لصادراتهم الرئيسية، التي لو تُركت بلا معالجة، فإنها ستقضي على كل من دورهم القديم كمجهزين عالميين وكحكومات مستقرة في شرق اوسط حافل بالنزاعات. اما بالنسبة لبقية العالم، فان الخسارة المحتملة لرصيد الخليج الهام – انتاج طاقة فائضة – تؤشر لحالة عدم الاستقرار في السوق.
الاستهلاك المفرط للطاقة
استهلاك الطاقة في هذه الدول الست المصدرة للبترول، والذي كان يشكل فقط نسبة ضئيلة جداً من الطلب العالمي قبل عدة عقود، ارتفع من 8% سنويا منذ عام 1972، مقارنة بـ 2% بالنسبة للعالم. أربع من بين الدول الخليجية الست (الكويت، قطر، العربية السعودية، الامارات المتحدة) لديها مجتمعة اقل من 1% من سكان العالم، لكنها تستهلك 5% من الاستهلاك العالمي للبترول. السعودية، التي تستهلك تقريبا ربع انتاجها، هي الآن سادس مستهلك عالمي للبترول، بما يقارب استهلاك روسيا واكثر من استهلاك البرازيل والمانيا على انفراد، وهما دولتان اقتصادهما كبير وكثافتهما السكانية عالية.
اسباب هذه التحولات؟
احد العوامل هو زيادة عدد سكان الخليج وارتفاع دخولهم في العقود الاخيرة، مع تأثير ذلك على الطلب. لكن عاملاً آخر مسؤول ايضا ويكمن كليا ضمن سيطرة الحكومة، هو : السعر.
ان أسعار الطاقة في الخليج رخيصة جدا. هي الارخص في العالم: سعر الكازولين في السعودية حوالي 45 سنت للغالون اي ربع سعر قنينة الماء. في الكويت، كلفة الكهرباء 0.7 سنت لكل كيلوواط/ساعة منذ عام 1966.(الامريكيون يدفعون اكثر من ذلك بحوالي 15 مرة). وفي قطر المجاورة، يستلم المواطنون كهرباء وماء مجانا وبلا حدود. اسعار الطاقة المنخفضة للغاية تسود عادة في الدول الاوتوقراطية او دول البترول الشعبوية في ما وراء الجزيرة العربية، بما فيها الجزائر وبروناي وايران، والعراق، وليبيا، وتركمانستان و فنزويلا.
الطاقة الرخيصة فاقمت الطلب بطريقتين هامتين. الاولى، انها خلقت ممرا للاعتماد على الطاقة المكثفة في مجالات البناء والتكنلوجيا مثل، ناطحات السحاب، سيارات السبورت، والمصانع المنتجة للالمنيوم، والمخصبات، والبتروكيمياويات. ثانيا، السعر المنخفض خلق ايضا سلوكا تبذيريا، بحيث جعل من السهل للعوائل الخليجية ترك مكيفات الهواء تعمل ثم تنفجر اثناء سفراتهم الطويلة.
ونتيجة لذلك، ارتفعت نسبة مخلفات الكاربون الملوث لكل فرد خليجي لتصبح موازية لدول التلوث الكبرى مثل استراليا وكندا والولايات المتحدة. مستوي النفايات هو كبير جداً. تقديرات صندوق النقد الدولي تشير الى ان الغاء دعم الطاقة والتي يتركز معظمها في الدول المنتجة للبترول، سيخفّض انبعاث الكاربون العالمي بمقدار 13%.
سياسات الطاقة القصيرة النظر كان يمكن الدفاع عنها في السبعينات، حينما كان مواطنو تلك الدول فقراء وقليلين في العدد. لكنها وضعت الخليج في مسار خطير.
حينما يصبح جميع البترول للاستهلاك المحلي
ان مشاكل المنطقة تمتد الى ما وراء الطاقة التالفة. السعوديون وجيرانهم يضخون كميات هائلة من صادراتهم البترولية الرئيسية الى الاسواق المحلية. هذه النزعة قد تكون مدمرة. الدول الخليجية تشتق ما يقارب 40% من ناتجها المحلي الاجمالي و80% من ميزانياتها الوطنية من صادرات النفط. ولكن اذا استمرت نزعة الاستهلاك القائمة، فان هذه الدول ستكون غير قادرة على ادامة امداداتها الهامة للاسواق العالمية. معظم تلك الدول يشهد سلفا نقصا في الغاز الطبيعي المستخدم في توليد الطاقة، والبعض، بضمنها الكويت والسعودية، تولّد اكثر من نصف احتياجاتها من الكهرباء من النفط الخام والانواع الاخرى للوقود السائل الثمين.
خالد الفيصل، مدير شركة ارامكو، حذر بانه بدون احداث تغيرات هامة، فان استهلاك المملكة قد يرتفع من ثلاثة ملايين برميل يوميا الى ثمانية ملايين برميل بحلول عام 2030. تقديرات اخرى لبنك جدوى للاستثمار(Riyadh’s Jadwa Investment Bank) تشير الى صورة اكثر عتمةً، تبيّن، وفق مستويات النمو الحالي في الاستهلاك، ان قدرة السعودية على انتاج الطاقة الاحتياطية سوف تتضاءل تدريجيا حتى تختفي في وقت ما قبل عام 2020. وباستثناء الاستثمارات الكبيرة الجديدة، فان السعودية ستبدأ بتحويل البترول المخصص للتصدير الى السوق المحلية. ويضيف بنك الجدوى بالقول ان العربية السعودية سوف تستهلك كل طاقتها الانتاجية البالغة 12.5 مليون برميل يوميا في سد احتياجاتها المحلية بحلول عام 2043. اما بيت شاثام بلندن (Chatham House) تنبأ بان المملكة ستصبح مستورد للبترول في عام 2038.
الخيارات المتاحة
هناك طريقة واضحة يمكن فيها لشيوخ الخليج تغيير اتجاه البوصلة: وهي رفع الاسعار المحلية. فمن ناحية، مشيخات الخليج والمصدرين الكبار الاخرين هم محظوظين. هم لا يحتاجون لفرض ضرائب على الطاقة، هم يحتاجون فقط بيعه بسعر معقول. لو ان دول الخليج رفعت الاسعار الى المستويات العالمية، فان الحسابات القائمة على تقديرات متواضعة لمرونة السعر تبيّن ان الطلب سيستجيب بقوة. وفي المدى البعيد، يمكن للكويت خفض طلبها للكهرباء بمقدار 60%، وابو ظبي بمقدار 40%. رفع الدعم للكازولين في العربية السعودية ربما يقلل طلبها المحلي بمقدار الثلث.
وكما في الولايات المتحدة، سوف يتخذ المستهلكون الخليجيون خطوات لتقليل مخاطر التعرض للاسعار المرتفعة، وذلك باتخاذ تدابير مثل عزل المنازل بمواد تقلل او تمنع تدفق الكهرباء، وبالمتاجرة بالاثاث القديمة وعجلات السبورت. الحكومات سوف تحصد المزيد من العائدات، التي قد تساعد في تمويل التحول نحو اقتصاد طاقة اكثر فعالية. وبما ان الاحتياطات الحقيقية في معظم هذه الدول تبقى كبيرة، فهي يمكنها تصدير المزيد من البترول والغاز المخصص للاستهلاك حاليا.
ان عملية الاصلاح، لن تكون سهلة التطبيق. من المعروف ان إعانات الطاقة يصعب التراجع عنها، حتى تلك الاعانات غير المستمرة. الحكومات المركزية، كتلك التي في الخليج، هي بالذات اكثر هشاشة امام ردود فعل الجمهور الغاضب. الربيع العربي علّم الشيوخ ان اثارة عداء الجمهور سيشكل خطورة على بقائها. وكما كتب عالم السياسة تيد كور (Ted Gurr) عام 1970 – وكما اظهر التاريخ منذ ذلك الحين – ان تقليص مساعدات الدولة او حجب برامج الرفاهية الاجتماعية هو من اكثر العوامل اثارة للعنف السياسي. الامثلة عديدة. حكومتا فنزويلا واندونيسيا وهما من اعضاء اوبك، فرضتا زيادة في الاسعار فاثارتا غضب الجماهير التي اطاحت بالحكومتين في عامي 1993 و1998 على التوالي. وفي وقت ليس بعيد، شاهدنا في الدول التي شهدت اضطرابات الربيع العربي من تونس الى عمان ان الغاء المساعدات الاجتماعية جرى التعبير عنه بمثابة ظلم كبير.
مواطنو مشيخات الخليج – كما في اي دولة بترولية في العالم - يعتبرون انفسهم لهم الحق في طاقة رخيصة، الى جانب المحفزات الاخرى التي توفرها الانظمة مقابل التأييد السياسي لها. العديد من المواطنين يرون ان رفع اسعار الكهرباء والكازولين لا يستند على شرعية سياسية.
وبما ان مقدرة مشايخ الخليج على ادامة الصادرات اصبحت امام التحدي، فان معنى الاستحقاق سيكون محك اختبار. حكام الخليج سيحتاجون لوسائل اخرى لتحسين العقد الاجتماعي السائد، بحيث يتم اصلاح نظام الإعانات بطرق تحافظ على الصادرات دون إضعاف تأييد الناس للنظام. الانحدار الاخير في اسعار البترول جعل هذه الاصلاحات مطلباً ملحاً واسهل تنفيذا. لكن المخاطرة تبقى عالية: اذا فشل الشيوخ، فقد لا يحصلون على فرصة اخرى.
نهاية الطاقة الفائضة
ان ارتفاع استهلاك نفط الخليج خلق تهديدا استراتيجيا بقدر ما هو تهديد اقتصادي. في الماضي، كانت اوبك قادرة على اغراق السوق بالنفط المتدفق معظمه من احتياطات العربية السعودية التي تتولى حماية الاقتصاد العالمي من التقلبات الضارة. هذه المقدرة عملت ايضا كرصيد استراتيجي حاسم للولايات المتحدة. عندما تتدخل واشنطن في الشرق الاوسط، هي تستطيع عادة الاعتماد على اصدقائها السعوديون لزيادة انتاجها والتعويض عن الصادرات المفقودة من ايران مثلا، لمنع الارتفاع الحاد في الاسعار. هذه الطاقة السعودية الفائضة، وفي فترات مختلفة، حلت محل الصادرات من ايران والعراق والكويت وليبيا. انها احتياطات تسمح للولايات المتحدة بامتلاك الكيك وتناوله ايضا – تطوير اهداف السياسة الخارجية دون الاخلال بالاقتصاديات، او استعداء سائقي السيارات او تعقيد قرارات الاستثمار.
حينما يكون هناك فائض في العرض والاسعار تتجه نحو الهبوط، فان القليل يفكرون بالقدرة الاحتياطية للسعودية. وعندما يعود الطلب، ربما يجد السعوديون انفسهم اقل قدرة لممارسة دورهم القديم. نقص الصادرات المستقبلية قد يحفز المزيد من التصاعد السام للاسعار كما تنبأ بذلك المستشار الاقتصادي السابق للرئيس جورج بوش روبرت مكنالي عام 2011.الجميع سيعاني بدءاً من موظفي البنوك المركزية الى المستهلكين الامريكيين، والضرر الناتج للاقتصادات القومية والدخول الفردية سوف لن يكون له علاج قصير الاجل.
بالنسبة لأمراء الخليج، سيكون السيناريو اكثر سوءاً. اذا هم فقدوا طاقتهم الاحتياطية، فسيفقدون اهميتهم الاستراتيجية للولايات المتحدة والكثير من دول العالم المستوردة للبترول.
بعض المعلقين رأى ان انتاج الزيت الصخري الامريكي سينهي اعتماد امريكا على بترول الشرق الاوسط. نخب الشرق الاوسط تخشى بان الزيت الصخري سيقلل من التزام الولايات المتحدة بأمن المنطقة.
غير ان مثل هذه السيناريوهات ربما ليست دقيقة. بما ان البترول هو سلعة يمكن استبدالها عالميا، فان مصدر العرض اقل اهمية من حجمه. حتى لو ان الولايات المتحدة كانت مكتفية ذاتيا كليا، فان صدمة العرض الخارجية ستبقى تؤثر على اسعار الولايات المتحدة. الزيت الصخري لن يعزل الولايات المتحدة عن الشرق الاوسط، انه فقط يجعلها لا تعتمد مباشرة على نفط المنطقة. حسابات واشنطن الحالية سوف تتغير، ولكن اذا وجدت دول الخليج نفسها غير قادرة على الحفاظ على دورها المنظم للسوق، في تلك الحالة، ستجد الولايات المتحدة نفسها اقل رغبةً في انفاق 50 بليون دولار سنويا لحماية أمن المشايخ.
قواعد لعبة الاصلاح
كما في جميع الدول المصدرة للبترول، ستصل المهمة الرئيسية لمشيخات الخليج لنهايتها، اما من خلال نضوب البترول واحلاله محل الصادرات، او بسبب نقص الطلب العالمي على السلع المسببة للاحتباس الحراري. بعض الدول، مثل الامارات العربية المتحدة وقطر بداتا سلفا توجيه ارباحهما نحو سندات الثروة السيادية وتنويع اقتصادهما، وهي خطوات في الاتجاه الصحيح. لكنها خطوات لا تزال غير كافية لاستبدال المساهمات الاقتصادية العملاقة للبترول. الشيوخ يحتاجون للمزيد من الوقت.
ان ابسط طريقة تستطيع بها هذه المشيخات البترولية للبقاء في الميدان هي انهاء السخاء الاستثنائي في دعم الطاقة. حالما ترتفع الاسعار، ستعقبها الفاعلية في قيادة التغيرات السلوكية والتحسينات التكنلوجية.
الشيء السار ان النموذج الفعال للإصلاح هو قائم سلفا. في عموم الخليج، أثبت العدو القديم ايران، ان الاوتوقراطية المصدرة للبترول يمكنها الشروع بتغيرات هائلة في اسعار الطاقة دون اثارة الاضطرابات الاجتماعية. رغم ان امراء العرب تجنبوا فكرة محاكاة ايران، لكن هناك اسباب للاعتقاد ان السيناريو الايراني في استبدال منافع الطاقة السهلة بمبالغ نقدية ربما ينجح بشكل افضل لدى العرب. في ايران، اوقفت الحكومة اصلاحاتها تحت ضغط التضخم وانهيار قيمة العملة والعقوبات. لكن شيوخ البترول لديهم بيئة اقتصادية ملائمة كثيرا للاصلاحات، طالما ان عملتهم مرتبطة بالدولار ولا يواجهون اخطار العقوبات.
الضغوط الخارجية
ان الضغوط الخارجية ستكون مفيدة ايضا، حيث انها توفر غطاءا سياسيا للحكومات، خاصة في الانظمة المركزية، لتشرع قوانين غير شعبية. قبول العربية السعودية في منظمة التجارة العالمية عام 2005 اعطى المملكة التبرير الكافي لتشريع اصلاحات اقتصادية صعبة. وعندما حذرت مديرة صندوق النقد الدولي كرستيان لاغارد من الموارد المهدورة في الكويت، هي وفرت للحكومة الكويتية الحجة والتبرير العقلاني في اعادة النظر بدعم الكازولين والديزل.
وفي الولايات المتحدة، كان اقتراح وكالة حماية البيئة لمعدلات الكاربون في محطات توليد الطاقة وفر للرئيس اوباما مصداقية جديدة حول تغيرات المناخ. هو يجب ان يستفيد من هذا الزخم عبر الطلب من الدول المصدرة كي تخفض برامج الدعم. بهذا العمل، هو ايضا يعطي غطاءاً سياسيا لحلفائه في الشرق الاوسط الذين هم مستعدون للبدء بالمهمة لكنهم محبطون من القيام بها. تراجع عائدات البترول الى ادنى مستوياتها يوفر حوافز مالية عملية للانطلاق بالعمل.
ومهما كانت الاحداث، فان اصلاح سياسات الدعم سيحدث لسبب بسيط وهو ان البدائل الاخرى اكثر سوءاً. وكما ذكر الملك فيصل مرة بان قصص الانتقال من الفقر الى الثراء لم تنتهي دائما بالنجاح. "في جيل واحد نحن انتقلنا من ركوب الجمال الى ركوب الكاديلاك". "الطريقة التي نهدر بها النقود، اخشى ان تجبر الجيل القادم على ركوب الجمال مرة اخرى".