احذر الباطل حين يبتسم!
صباح الصافي
2025-07-27 04:43
الباطل في جوهره قبح لا يُجمِّله شيء؛ فهو انحراف عن المسار الطَّبيعي للفطرة، واعتداء على بداهة العقل، وخلل يهدِّد القيم التي تنظِّم حياة الإنسان بسلام وتوازن. غير أنَّ هذا القبح لا يظهر دومًا بوجهه الحقيقي، وكثيرًا ما يدخل إلى العقول والقلوب متنكرًا في ملابس جميلة، أو ملفوفًا بشيءٍ يشبه الحقَّ، فيُستساغ قبل أن يُكتشف؛ ففي عالم اليوم، أصبح يتسلَّل في رداء ناعم، ويقدِّم نفسه بلغة راقية، وشكل أنيق، وتحت عناوين رنَّانة مثل الذَّوق، أو الحريَّة، أو التَّعبير عن الذَّات، أو حتَّى الحبّ.
ولم يعد يتوسَّل القوَّة وحدها ليفرض وجوده؛ وإنَّما صار يستخدم أدوات أكثر خفاءً؛ لكنَّها أشد فتكًا، مثل التَّأثير الإعلامي، والصور المبهرة، واللغة المغلَّفة بالإيحاء، والتَّعابير المصقولة التي تهدف إلى كسب العاطفة وخطف البصيرة. وهذه اللعبة قديمة في جوهرها؛ لكنَّها اليوم أكثر براعة؛ لأنَّها تستمد زخمها من وسائل العصر الحديثة، فتصل إلى أعماق الوجدان من دون استئذان، وتخلق ألفة مع الباطل من حيث لا يشعر الإنسان. وحين يُقدَّم الباطل بهذه الطريقة، لا يبدو غريبًا أن يلقى القبول، ولا عجيبًا أن يتحوَّل مع الوقت إلى قاعدة سلوكيَّة جديدة يُروَّج لها على أنَّها طبيعيَّة، ومحبَّذة. وهكذا، يتحوَّل القبح إلى عادة مألوفة، والباطل إلى وجه يومي مبتسم، لا يثير الرِّيبة، وربما يثير الإعجاب.
وقد نبَّه القرآن الكريم إلى هذه الظَّاهرة الخطيرة بعبارات واضحة تنذر وتبصِّر، وتُظهر لنا مدى انخداع النَّاس عبر التَّاريخ بالمظاهر، حين يُلبَّس الحق بالباطل ويُغطَّى الباطل بثوب الحقِّ؛ قال الله (تبارك وتعالى): (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (1)، وهو نهي صريح عن خلط الأوراق وتشويه الفهم؛ لأنَّ التباس الحقِّ بالباطل هو أوَّل خطوة في تطبيع الباطل في العقول والقلوب.
ولأنَّ الباطل لا يعيش في صورته الحقيقيَّة طويلًا، فهو غالبًا ما يُجمَّل ليُقبل عليه النَّاس، قال (تعالى): (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) (2)؛ فالشَّيطان لا يدفع النَّاس إلى الفساد دفعة واحدة، ولكن يُقدِّم السُّوء في قالب ناعمٍ وجذَّاب، حتَّى يُرى الحرام مألوفًا، والمنكر مقبولًا، والمخطئ جديرًا بالإعجاب.
وإنَّ من أعظم مظاهر الخذلان أن يُصاب الإنسان بعين لا ترى القبح قبحًا، وتتوهمه جمالًا، ويظنُّ أنَّه على هدى وهو غارق في الضَّلال، كما قال (سبحانه): (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (3). وهذه الآية من أكثر الآيات إيلامًا؛ لأنَّها تصف حال من أضاع عمره في مسارات خاطئة، وهو يظنُّ أنَّه على صواب، وقد سُلب نعمة التَّمييز، وتعلَّق بمقياسٍ زائف.
المحور الأوَّل: أدوات العصر في تزيين الباطل.
في زمننا هذا، لم يعد الباطل بحاجة لأن يرتدي ثوب الحجج الفلسفيَّة ليُثبت وجوده أو يبرر نفسه، فقد أصبح يكفي أن يُقدَّم في صورة مؤثِّرة تُلامس المشاعر، أو عبر عبارة ذكيَّة تلتصق بالذهن، أو من خلال صورة بصريَّة ساحرة تخطف الأنظار، أو صوت جذَّاب يوقظ الحواس، حتَّى يتحوَّل في أعين النَّاس إلى أمر طبيعي، وخيار شخصي يُطالب الجميع باحترامه وتقبله من دون نقاش. وهذا التَّحول الذي يعكس قوَّة التَّجميل والإقناع، يمر من خلال التَّلاعب المتقن باللغة؛ إذ تُسرق الكلمات من معانيها الأصليَّة، ويُعطى دلالات جديدة بعيدة كل البعد عن حقيقتها؛ فيصبح الانحراف حريَّة، والتَّمرد على القيم الأخلاقيَّة تحرّرًا. وهذه اللغة المشوهة التي تعيد تشكيل المفاهيم، هي أداة بارعة تُستخدم في صناعة وهم كبير يخدع العقول ويُضلِّل القلوب.
ربما يكون الإعلام القوَّة الأشدّ تأثيرًا في ترسيخ هذه الخدعة؛ إذ يوظِّف أدواته باحترافيَّة عالية لتجميل المنكر، فيقدِّمه في صورة بريئة وجذَّابة، ويُغلِّف الفساد داخل قصص دراميَّة مثيرة تُحرِّك المشاعر وتستدر التَّعاطف. وبهذا الأسلوب، تتحوَّل الانحرافات إلى نماذج يُحتذى بها، وتُرفع الشَّخصيات المشوَّهة إلى مصافِّ الأيقونات الملهمة، فتتلقَّاها الأجيال بلا وعي ولا حصانة.
ولأذكر لكم أمثلة واقعيَّة ومعاصرة تبرز كيف يُجمَّل الباطل في عصرنا، باستخدام أدوات العصر الخادعة، وعلى رأسها الإعلام والتقنيات البصريَّة واللغويَّة الحديثة:
1. الشذوذ الجنسي وتطبيعه تحت شعار "الحريَّة الشخصيَّة".
ما كان في الأمس القريب يُعدُّ شذوذًا واضحًا عن الفطرة، أصبح اليوم يُقدَّم على أنَّه "حق إنساني" يجب احترامه. وتُستخدم أفلام، ومسلسلات، ومنصَّات شهيرة لتسويق المثليَّة بوصفها حبًّا نقيًّا، ويُظهَر أصحابها كضحايا يُكافحون من أجل القبول. وهكذا يُجمَّل الانحراف وتُشوَّه الفطرة باسم التَّسامح والانفتاح، ويُقمع صوت المعترض تحت تهمة "الرَّجعيَّة" و"رهاب الآخر".
2. تمجيد الانفلات الأخلاقي بوصفه "تمكينًا للمرأة".
في كثير من الحملات الإعلاميَّة، تُقدَّم المرأة التي تخلع حجابها، أو ترفض قيم العفَّة والحياء، على أنَّها رمز للتَّحرر والتَّقدم. بينما تُوصف المتمسكة بدينها وبقيمها بأنَّها مقموعة أو متأخرة؛ فتصبح الجرأة على حدود الله (تعالى) دليل وعي، والستر والوقار عقدة نفسيَّة! وهذا قلبٌ للمفاهيم وغشٌ للتصورات.
3. تسويق الإلحاد والعلمانيَّة باسم "العقلانيَّة والعلم".
يُصوَّر التَّدين في بعض الأفلام والحوارات الإعلاميَّة وكأنَّه جهل وانغلاق، بينما يُقدَّم المشككون والملحدون على أنَّهم مفكرون أحرار، وأصحاب أسئلة جريئة. وهكذا يُجمَّل الكفر في ثوب التَّفكير النَّقدي، ويُساق الدِّين في ثوب الجهل أو التَّبعيَّة.
4. تصوير العري والإثارة على أنَّها "فن وحريَّة تعبير".
الفن: في جوهره، رسالة راقية؛ لكن حين يُستغل الجسد، وتُستخدم الإيحاءات الجنسيَّة تحت لافتة "حريَّة التَّعبير" أو "الواقعيَّة"، فإننا أمام تزييف سافر للذوق والجمال. وكثير من الإنتاجات البصريَّة المعاصرة تخلط بين الفن والإباحيَّة، وتلبّس الفاحشة لبوس الجمال!
5. تجميل الاستهلاك والإسراف بوصفه "أسلوب حياة".
تسويق أنماط الحياة الفارغة من المعنى، والمبنيَّة على التَّرف والسطحيَّة، ويُقدَّم اليوم في قوالب فاخرة عبر المؤثرين والمشاهير، فيُغرس في نفوس الشَّباب أنَّ القيمة فيما تلبس وتملك، لا فيما تؤمن وتفكِّر. وهكذا يُزيَّن السَّطح وتُهمَّش الروح، وتُختطف العقول إلى نمط استهلاكي عبثي.
6. تمجيد المجرمين وأنَّهم "أبطال شعبيين".
في كثير من الأعمال الدراميَّة، يُقدَّم القاتل أو المجرم أو المحتال كشخصيَّة "معقَّدة" جذَّابة، لها مبرراتها وظروفها. فتُستدر العاطفة للمذنب، ويُختزل الخير والَّشر في مناطق رماديَّة، حتَّى يضطرب وعي المتلقي، ويبدأ بالتَّعاطف مع الظَّالم و"فهمه" بدل إنكار جرمه.
7. شرعنة الاحتلال والظُّلم العالمي باسم "السَّلام" و"الديمقراطية".
حين تُقصف شعوب بريئة، وتُغتصب أراضٍ، ويُمنع عنها الغذاء والدَّواء، ثمَّ يُقال: إنَّ ذلك من أجل "محاربة الإرهاب" أو "نشر الديمقراطيَّة"، فنحن أمام قمَّة تجميل الباطل، وذروة تزييف المشهد، وتحويل الجلَّاد إلى بطل، والضَّحيَّة إلى متَّهم.
كلُّ هذه الأمثلة تبيِّن كيف تحوَّل الإعلام والتقنيَّة واللغة من أدوات تواصل وبناء، إلى وسائل تزييف وتضليل حين تُسخَّر لتلميع الباطل.
المحور الثَّاني: لماذا يُفتن النَّاس بالباطل المزيَّن؟
ليس كلُّ باطل يُرفَض من اللحظة الأولى، ولا كل قُبح يُدرك بمجرَّد ظهوره؛ فالباطل في هذا الزَّمان بات يتسلَّل متنكِّرًا في ثياب الجمال، ويقدِّم نفسه بمفردات راقية تُغري العقل وتُخدِّر البصيرة. وكم من أمرٍ اليوم يُقابَل بالتَّصفيق والاحتفاء، وهو في حقيقته انحرافٌ عن القيم، مغلَّفٌ بزينة ظاهريَّة تخدع العقول وتُضلِّل الأحاسيس، وهذا الخداع قد يقع فيه حتَّى من يملك نوايا طيِّبة، إذا لم يُحصِّن نفسه بالبصيرة.
فكيف يتحوَّل الباطل إلى أمر محبوب؟
ولماذا يقبل النَّاس ما يناقض فطرتهم وعقولهم؛ فقط لأنَّه قُدِّم بطريقة جميلة؟
فيما يلي أربع نقاط رئيسة تُفسِّر هذه الظَّاهرة بدقَّة:
1. ميول النَّفس إلى الرَّاحة لا إلى الحقيقة.
الإنسان، في بعض الأحيان يبحث عمَّا يوافق رغباته، ويمنحه شعورًا بالرَّاحة أو الطَّمأنينة المؤقتة، حتَّى لو كان ذلك على حساب الحقيقة نفسها؛ فالحقيقة، يمكن أن تكون مرهقة؛ لأنَّها تتطلَّب مواجهة الذَّات، وتحمُّل مسؤوليَّة التَّغيير، ومجاهدة الهوى، وكسر العادات؛ ولهذا، حين يُقدَّم الباطل في صورة جذَّابة أو بإطار عاطفي يلامس الأوجاع والمشاعر، يجد فيه كثير من النَّاس ملاذًا نفسيًا يريحهم من صراع لا يرغبون بخوضه. فهم لا يسألون: هل هذا حق؟
وهل هو مطابق لما يجب أن يكون؟
وإنَّما يسألون، من دون وعي أحيانًا: هل يجعلني أشعر بالرَّاحة؟
وهل يناسب مزاجي أو يبرر لي ضعفي؟
وهنا تنقلب المعايير، ويبدأ العقل بالتَّراجع لصالح الهوى، ويصبح الزَّيف حين يُجمَّل، بديلًا مغريًا عن الحقيقة المتعبة؛ لأنَّه أكثر توافقًا مع الرَّغبة في الهروب من الألم، أو التَّهرب من محاسبة النَّفس.
2. قوَّة التَّأثير الإعلامي ولغة التَّزييف.
في عصر الصُّورة والصَّوت، تحوَّل الإعلام إلى آلة جبَّارة لإعادة تشكيل العقول وتوجيه القلوب، إلى درجة أنَّ الباطل نفسه، يكفي أن يُقدَّم بلغة جذابة وصورة آسرة ليُصدَّق ويُحتفى به.
لقد أصبح الباطل اليوم يُقدَّم إلينا في ثوب ناعم، يراوغ العواطف، ويتسلل بخفة إلى الوجدان قبل أن يطرق باب الفكر. وتُوظف في خدمته أدوات ضخمة ومدروسة: مشاهد درامية تهزُّ النَّفس، وموسيقى تُذيب الحسَّ، وجُمل قصيرة لكنها محمَّلة بإيحاءات عاطفيَّة عميقة، فتُلبِس الانحراف لباس التَّعاطف، وتُجمِّل القبح حتَّى يصبح مقبولًا، ومستحسنًا.
ومع كثرة التكرار، وتأثير البيئة الرقميَّة المُشبعة، تبدأ النفوس بالتَّأقلم مع هذا الباطل، فيفقد الإنسان مناعته الفكريَّة، وتذوب مقاومته الدَّاخليَّة، حتَّى يصبح الباطل مألوفًا، ويُقدَّم في كثير من الأحيان كقيمة اجتماعيَّة متحضِّرة، يُنظر إليها على أنَّها "حق من حقوق الإنسان"، أو "تطور ثقافي"، أو "حريَّة شخصيَّة"، من دون النَّظر إلى جذوره ومآلاته.
وتكمن الخطورة في أنَّ هذا التَّزييف الإعلامي يُقدَّم بوصفه حقيقة ثقافيَّة أو معيار أخلاقي، ممَّا يُربك الوعي العام ويشوش البوصلة الدَّاخليَّة للناس، خاصَّة إذا غاب المعيار الإلهي والمبنى العقلي السَّليم؛ فتصبح مفاهيم الخير والشَّر، والحق والباطل، أسيرة لما يُعرض في الشَّاشات والمنصَّات، لا لما يُزكِّيه العقل أو تُقرّه الشَّريعة.
إنَّ ما يفعله الإعلام المنحرف اليوم هو عمليَّة إعادة صياغة كاملة للوجدان الإنساني، تجعله يستبدل البصيرة بالانفعال، ويستسلم للظَّاهر من دون أن يتأمَّل في الباطن، حتَّى يصبح الإنسان متقبلًا للانحراف وكأنَّه جزء من طبيعته الإنسانيَّة، لا انحرافًا عنها.
3. غياب البصيرة وقصور المعرفة.
حين يغيب نور البصيرة، وتضمر جذوة المعرفة، يصبح الإنسان مثل الرِّيشة في مهب الرِّياح، تتقاذفها التَّيارات الفكريَّة بلا وزن ولا وجهة؛ ومن لا يمتلك أدوات التَّمييز، ولا يروّي عقله بماء العلم، ولا يوقظ قلبه بالتفكُّر، سيُخدع ببريق الباطل، ويُفتن بالمظهر؛ لأنَّه عاجز عن النَّفاذ إلى الجوهر.
ولا بدَّ من التنبيه إلى حقيقة أنَّ الجهل هنا هو فقدان القدرة على التَّفريق بين الحقيقة وزخرفها، وبين المعنى العميق والعبارة البرَّاقة، وبين الحقَّ المجرَّد والباطل المتزين. وفي هذا الغياب للوعي النَّقدي، تتحوَّل عيون النَّاس إلى مرايا عمياء، تنخدع بالشكل من دون أن تسأل عن المضمون؛ فالإنسان الذي لم يتزوَّد بسلاح الوعي، ولم يعتد الوقوف على الأطلال والسؤال عن حقيقتها، يصبح سريع التَّصديق، سريع الانهزام، يصفِّق للزَّيف إن جاء في قالب جميل، ويستنكر الحقَّ إن بدا له خشنًا أو لا يوافق هواه.
المحور الثَّالث: ما السَّبيل إلى تمييز الباطل مهما تزيَّن؟
الوعي هو الدرع الحصين الذي يحمي الإنسان من الوقوع فريسة للزِّينة الخادعة التي قد تغري القلوب وتضلل العقول. وبدون بصيرة تميِّز بين الحقيقي والمزيف، يصبح الإنسان عرضة للخداع بسهولة، خصوصًا حين يغريه المظهر الجذَّاب ويخدعه بريق الزِّينة. وإذا لم يعتد المرء على المحاسبة التي تُراجع أفكاره وأفعاله باستمرار، فإنَّه سرعان ما يجد نفسه يبرر ما يراه أمامه من خلال صورة جميلة؛ لذلك، من المهم أن نربِّي أنفسنا على نوع خاص من الوعي، يزرع في القلب والعقل قدرة حقيقيَّة على التَّمييز، وأن نجعل الجوهر هو المعيار الحقيقي في التَّقييم؛ فالجمال الجدير بالتَّقدير هو ذلك المتوافق مع الحقيقة، المنسجم مع الفطرة السَّليمة، والصَّادق مع الذَّات من دون تزييف أو تصنع.
وفي هذا السياق، فإنَّ الاستعانة بأهل العلم والحكمة، والرُّجوع إليهم للتزود بالمعرفة الحقيقيَّة، يعدُّ سلاحًا لا يُقدَّر بثمن في كشف الستار عن الحقائق المخفيَّة خلف الأقنعة. وحين يتسلَّح الإنسان بمقاييس واضحة وراسخة، ويكوِّن لنفسه منظومة من القيم الثَّابتة، تصبح خدع الباطل صعبة الوقوع فيه، مهما حاول أن يتجمَّل ويتلوَّن. وهكذا، يتحوَّل الوعي إلى بوصلة ثابتة تهدي النَّفس في متاهات الحياة، وتقيها من الانزلاق في فخ التمويه.
وأفضل ما قيل في تمييز الباطل مهما تزيَّن هو قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "وإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً؛ لأَنَّهَا تُشْبِه الْحَقَّ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّه فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ، ودَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى، وأَمَّا أَعْدَاءُ اللَّه فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلَالُ، ودَلِيلُهُمُ الْعَمَى..."(4).
لقد قسَّم الإمامُ (عليه السلام) النَّاسَ إلى فئتين، تبعًا لموقفهم من الشُّبهات وطرق تعاملهم معها؛ أمَّا الفئة الأولى، فهي فئة الواعين، المثقفين، الملتزمين بنور الله (تعالى)، الذين أبصروا الحقيقة بعيون البصيرة، لا بمجرَّد البصر. فإنَّهم أهل العلم والمعرفة، الذين نهلوا من معين الشَّريعة، وتشربت قلوبهم نور اليقين، فساروا بثقة في طريق الحق، متسلحين ببصائر الإيمان ودلائل الهدى. لا تزلهم الشبهات، ولا يتيهون في مفترقات الباطل؛ لأنَّ نور العلم يرشدهم، وسمت الهدى دليلهم.
أمَّا الفئة الثَّانية، فهم أعداء الله (تعالى)، الذين أعرضوا عن نوره، وأغلقوا أبواب قلوبهم أمام الهدى. واستبدلوا ضياء اليقين بظلمة الجهل، واتَّخذوا من الضَّلال راية، ومن العمى دليلًا. إنَّهم يمهِّدون الطَّريق بالشُّبهات، ويتسلَّلون من خلالها إلى ساحات الإفساد والتَّضليل، بلا وعيٍ ناضج ولا علمٍ راسخ. تقودهم الأهواء، وتغمرهم الغفلة، فتغيب عنهم البصيرة، وينطفئ في دربهم نور الهداية.
المحور الرَّابع: بعض الطرق العمليَّة لكشف تزيين الباطل.
هناك وسائل عمليَّة تشبه المحاكمة العقليَّة يمكن اعتمادها عند مواجهة القضايا الباطلة التي تتزيَّن بلباس الحقِّ؛ إذ تُمكِّن الإنسان من التَّثبُّت، وتفكيك الشُّبهات، وتمييز الزُّخرف الخادع من الحقيقة الصافية، بعيدًا عن الانفعال والعاطفة المضلِّلة؛ ولأذكر لكم بعضًا منها:
1. الرجوع إلى المعيار الثَّابت "القرآن الكريم والعترة الطاهرة عليهم السلام".
لا يمكن للإنسان أن ينجو من زخارف الباطل إن لم يكن لديه ميزان واضح وثابت. وحين تحتار، اسأل:
هل ينسجم هذا الكلام أو هذا الفعل مع منهج القرآن الكريم ونهج أهل البيت (عليهم السلام)؟
إذا كان الجواب لا، فمهما بدا جذابًا أو متطورًا أو مريحًا، فهو باطل.
مثال: إذا جرى التَّرويج لفكرة أنَّ الحجاب "يقيِّد حريَّة المرأة"، فإنَّ العودة إلى القرآن الكريم وأحاديث المعصومين (عليهم السلام) تكشف الحقيقة بجلاء؛ فالحجاب لم يُشرَّع ليكون عبئًا اجتماعيًا؛ وإنَّما وُضع لصيانة كرامة المرأة وحفظ إنسانيتها. وهنا يتَّضح وجه التَّزييف: حيث تُقدَّم الحريَّة بمعناها المشوَّه، وتُخفى الحكمة الربَّانيَّة التي تجعل من الحجاب رمزًا للعزَّة لا قيدًا للذَّات.
2. السُّؤال الدَّائم: من المستفيد؟
أي ترويج لفكرة باطلة يجب أن يُسأل عنه: من يربح من انتشارها؟
إذا كانت النَّتيجة تعزيز الاستهلاك، أو تفكيك الأسرة، أو تمييع القيم، فهناك احتمال كبير أنَّ الفكرة مزينة لكنَّها باطلة.
مثال: التَّرويج للعلاقات المفتوحة على هيئة: "حريَّة شخصيَّة"، يخدم صناعات الإباحيَّة والانحلال، ويضرب مؤسسة الزَّواج. والمستفيدون كُثر؛ لكن الضَّحايا هم النَّاس.
3. فك العاطفة عن الحقيقة.
الباطل كثيرًا ما يُقدَّم في قوالب عاطفيَّة تبكي وتُضحك وتُحاكي المشاعر.
لكن المطلوب هو أن تسأل بعد التَّأثر: هل هذه القصَّة أو المشهد تعكس حقًّا شرعيًّا أو قيمة عقليَّة؟
لذلك، لا تجعل دمعتك تقودك بدل بصيرتك.
مثال: مشهد درامي لفتاة تهرب من أهلها بسبب الحجاب، ويُعرض بموسيقى حزينة وحوار مؤثَّر؛ والهدف الحقيقي هو تشويه الحجاب، لا مناقشة معاناة.
4. مقارنة النتائج الواقعيَّة.
اسأل: ما نتائج هذا الفكر أو السلوك على الفرد والمجتمع؟
والعلَّة في ذلك: إنَّ الباطل حين يُجرَّب يظهر ضرره، والحق حين يُطبق يثمر خيرًا.
مثال: الدُّول التي شرَّعت المخدرات لأجل "الحريَّة الفرديَّة" شهدت ارتفاعًا في الجريمة والانتحار؛ وبذلك يتبيَّن أنَّ الزِّينة لم تصمد أمام النَّتائج الواقعيَّة الكارثيَّة.
5. استشارة أهل البصيرة.
عند كلِّ تردد أمام فكرة "مزيَّنة"، استعن بعالم ربَّاني، أو صاحب عقل راجح.
مثال: شاب يسمع محاضرة عن "أنَّ الدِّين اختياري وليس فيه أحكام ملزمة"، وقبل أن يُصدِّق، يستشير أستاذًا متخصصًا في الفكر الإسلامي، فيكشف له التَّلاعب بالمصطلحات.
وبعد كلِّ ما سبق يتبيَّن لنا أنَّ تزيين الباطل هو مشروع منهجي شامل يهدف إلى قلب القيم والمقاييس رأسًا على عقب؛ إذ يصبح القبح معيارًا يُحتذى به، ويتحوَّل الخطأ إلى عادة وثقافة، وينتقل الانحراف ليصبح أسلوب حياة معتادًا يُعاش بلا مقاومة. وهذا الانقلاب يتم عبر أساليب رقيقة وناعمة، تُخاطب المشاعر وتغري الوجدان، وتصنع ألفة مع الخطأ وتجعله يبدو مألوفًا ومحبوبًا؛ ولذلك، إن لم نكن نحن أوَّلًا، ثمَّ أبناؤنا، مؤهلين على التَّمييز الصَّحيح بين الحقِّ والباطل، ونعمل على غرس ذوق رفيع ونقي، يرفض كلَّ ما هو جمال مزيف يُخفي وراءه فسادًا وانحرافًا، فسنبقى محاصرين في دوَّامة لا تُفرِّق بين الحقيقة والزَّيف، وستُصبح حدود الحقِّ والباطل ملتبسة، ويفقد الإنسان طريقه في عالم تسيطر عليه زينة خادعة.