سلعنة التعليم أم أنسنته؟

د. عبد الحسين شعبان

2025-07-27 04:37

يُعتبر التعليم المدماك الأساس لتحقيق التنمية المستدامة، ورافعة ضرورية لتحقيق التقدّم، لكن بعض البلدان، ولاسيّما النامية، ومنها البلدان العربية، حوّلت التعليم إلى سلعة محكومة بمنطق السوق والربح، في حين أن التعليم هو حق إنساني وحاجة لا غنى عنها لتنمية المجتمع وتطوّره. وقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 26 (فقرة أ) على أن «لكل شخص الحق في التعليم. ويكون التعليم مجانيًا، على الأقل في مراحله الابتدائية والأساسية. ويكون التعليم الابتدائي إلزاميًا".

تدهور مستوى التعليم

تدهور مستوى التعليم في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة وتدنى محتواه، وابتعد كثيرًا عن متطلبات التنمية المستدامة، التي تعني توسيع «خيارات الناس»، في الوقت الذي يزداد فيه اللهاث للحصول على شهادات أكاديمية لا ترتقي إلى معايير الحد الأدنى من المعرفة المطلوبة، ناهيك عن أن بعضها لا تستكمل الشروط الأكاديمية المعروفة.

ولهذه الأسباب طفحت ظاهرة تسليع التعليم، خصوصًا من الجامعات الخاصة لدرجة أصبح منتجًا تجاريًا يُباع ويُشترى، وتحوّل إلى بضاعة استهلاكية تخضع للعرض والطلب يتمّ تسويقها وترويجها بشتّى الطرق القانونية وغير القانونية، لاسيّما بطغيان المنافع الخاصة والمطامح الشخصية، حتى تحوّلت العلاقات السامية بين المعلم والتلميذ والأستاذ والطالب من الاحترام والتقدير إلى الجشع المادي أحيانًا. وتناسى الكثيرون قول الشاعر أحمد شوقي:

قم للمعلم وفه التبجيلا / كاد المعلّم أن يكون رسولا

وأصبحت الدروس الخصوصية مسألة شائعة في العديد من البلدان العربية، وأصبح الكتاب الجامعي أو المدرسي أداة للاسترزاق، بما فيها الملخصات الجامعية وكتابة أطاريح الماجستير والدكتوراه أحيانًا، وزاد الأمر تعقيدًا استسهال البعض استخدام الذكاء الاصطناعي دون تعب يُذكر أو مجهود يُبذل أو مستوى معرفي وعلمي يُذكر، حتى صار اللقب العلمي مثارًا للسخرية تتندّر فيه بعض الأوساط، وبات الحصول على الشهادة، بغض النظر عن مصدرها، وسيلة للارتقاء بالمناصب الحكومية والوجاهة الاجتماعية، والأمر انعكس على مستوى الأبحاث الأكاديمية، التي جاءت بعيدة عن الابتكار والإبداع، بل هي اجترار لما قبلها ونقل وحشو للمعلومات في أحيان كثيرة.

لقد تضخّمت نسبة الحاصلين على شهادات عُليا (بعضها مزور)، فضلًا عن ذلك لا يأخذ بنظر الاعتبار حاجة البلد إلى الاختصاصات، إضافة إلى متطلّبات التنمية، وهكذا واجهت العديد من البلدان العربية جمهورًا عريضًا من الخريجين فائضًا عن الحاجة أو في اختصاصات غير مواكبة للتطوّر، في حين أن بلادنا وعموم البلدان النامية بحاجة إلى الكوادر الوسطية والدراسات المهنية (البوليتكنيك – (Polytechnic، التي ما يزال الاهتمام بها محدودًا.

 فحتى في الغرب الرأسمالي، المحكوم بحريّة السوق، فإن التعليم لا يُعتبر سلعةً، بل إن نسبة الجامعات الخاصة في الولايات المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر، لا تزيد عن 10بالمئة من إجمالي عدد الجامعات ومعظمها مؤسسات تاريخية، أي أن المعايير العلمية هي التي تسود فيها وليس منطق السوق والأرباح المادية، إضافة إلى ذلك فإنها تخضع لرقابة صارمة من جانب الدولة، بما فيها مراقبة أجور الجامعة وضمان جودة برامجها وكفاءة الأساتذة والإداريين، كما أن مخرجاتها يجب أن تتوافق مع خطط التنمية ولا تتعارض مع السياسة التعليمية للدولة ومصالحها.

وإذا كان عصرنا، ونحن على عتبة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، يزدحم بسرعة تدفّق المعلومات لدرجة أقرب إلى الخيال، في ظلّ الطور الرابع من الثورة الصناعية، الذي شهد الطفرة الرقمية «الديجيتال» واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، فإن الحاجة إلى أنسنة التعليم تعتبر مسألة حيوية وهي فرض عين وليس فرض كفاية.

وأنسنة التعليم تعني مراعاة حاجات المتعلمين بهدف تنمية العلاقات الإنسانية وروح التعاون وتعزيز المهارات للتعامل والتفاعل مع الآخرين، من خلال محتوى المناهج وطُرق التدريس وأساليب التقويم وطبيعة العلاقات بين المعلّم والتلميذ والأستاذ والطالب، فضلًا عن الإدارات المدرسية والجامعية.

والأساس الفلسفي لأنسنة التعليم يعتمد على أربعة جوانب؛

أولها – الجانب العقلية، وثانيها – الجانب الوجداني؛ وثالثها – الجانب النقدي؛ ورابعها- الجانب المهاراتي.

وكان عالم النفس الأمريكي كارل روجرز (1902 – 1987) قد وضع معايير للتوجه الإنساني في ميدان التعليم بالتعاون مع عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو (1908 – 1970) الذي اشتهر بنظرية تدرّج الحاجات، فالأول استند على الشروط النفسية للتعليم، إضافة إلى التنمية الوجدانية والمعرفية، فضلًا عن الخبرة، يضاف إليها حريّة التعبير عن الرأي واحترام رأي الآخرين والمساعدة على فهم أنفسهم من خلال فهم الآخر. أمّا الثاني فقد اهتم بدوافع المتعلمين والنمو الاجتماعي ومهارات الاتصال، ووضع هرمًا لحاجات المتعلّم، تقوم قاعدته على الحاجات الفيسيولوجية، أما قمته فهي تحقيق الذات، وهذه يمكن تلبيتها من خلال منح المتعلم مدىً واسعًا من التجارب والخبرات.

يُعتبر المتعلّم هو محور العملية التعليمية، في حين أن المعلّم هو المرشد والمسيّر والموجّه لها، ومهمته إرشاد المتعلمين نحو المعرفة، ولا بدّ من ارتباط المنهج بقضايا المجتمع وحاجات الطلبة واهتماماتهم، وذلك بهدف تحسين جودة التعليم استجابةً لسمة العصر، وتساوقًا مع المستجدات والمتغيّرات والاكتشافات العلمية السريعة، ويبقى الهدف إعداد مواطنين صالحين يمتلكون مهارة التفكير النقدي والمسؤولية الاجتماعية، من خلال توفير بيئة تعليمية ونفسية سليمة بعيدة عن العنف وفرض الرأي، واعتماد الحوار وسيلة للإقناع.

تقرير اليونيسكو

ما تزال بلداننا العربية تواجه العديد من التحديات في مجال التعليم وعلاقته بالتنمية على الصعيدين الفلسفي والنظري من جهة، والعملاني والتطبيقي من جهة أخرى، بما فيه توفر الأدوات اللازمة لتحقيق الأنسنة. وقد أصدرت منظمة اليونيسكو تقريرًا جديدًا عن التعليم تضمّن معالجات مهمة على الصعيد الكوني، وقد قدّم عبد الباسط بن حسن، وهو عضو اللجنة الدولية التي أعدت التقرير ورئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان قراءةً عميقة ومكثفة له في جلسة حوارية لعدد من الخبراء، التأمت في معهد الفنون الجميلة بمدينة سوسة (تونس)، ناقشت مستقبل التعليم وعلاقته بالثقافة والفنون بشكل عام والسينما بشكل خاص على هامش مهرجان سوسة السينمائي الدولي.

الجدير بالذكر أن أكثر من 500 منظمة دولية شاركت في تقديم ملاحظاتها لإنجاز التقرير، وتم فيه استطلاع رأي نحو مليون و500 ألف شخص، علمًا بأن اللجنة التي أعدته مؤلفة من 18 خبيرة وخبير ويرأسها رئيس جمهورية أثيوبيا السابق مولاتو تيشومي، وقد نظّمت مؤتمرًا دوليًا انعقد في سيول (كوريا الجنوبية) شارك فيه نحو 200 معني بقضايا التعليم والتربية، وساهموا في مناقشة الصيغة الأخيرة له، وصدر ﺑ20 لغة.

تحديات وأفكار

ويمكن تأشير التحدّيات الموضوعية والذاتية التي تواجه التعليم، والتي قادت إلى تراجعه وأهمها: الحروب والنزاعات المسلحة والتغييرات المناخية وغياب العدالة الاجتماعية وهيمنة السوق والاستهلاك، إضافة إلى التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف والإرهاب، ومثل هذا التراجع هو انعكاس للتراجع العام في مجالات النفع العام كالصحة والنقل والمستلزمات المتعلّقة بذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها.

ويسلّط تقرير اليونسكو الضوء على أفكار أساسية جوهرها يتعلق بأسباب فشل التعليم، إْذ لابدّ من تشخيص الخلل ومعرفة الأسباب، وبالتالي وضع المعالجات لتجاوز أزمته، وهذا يستوجب مراجعه التجارب السابقة لتحديد الإيجابيات التي ينبغي الحفاظ عليها، ومن ثم البحث فيما تحتاجه لتحسين الأداء التعليمي، إبتداءً من البيئة التعليمية والتربوية والإدارة والمعلم والطالب، استنادًا إلى عدد من المبادئ المهمة:

أولها – جعل التعليم أولوية، وهذا يتطلب «أنسنة» التعليم، ومن خلاله يمكن «أنسنة» المجتمع.

 وثانيها – اعتبار التعليم حق أساس من حقوق الانسان، وهو ما نصت عليها الشرعة الدولية لحقوق الانسان، إذْ لا يمكن الافتئات عليه، سواء للكبار أو لمحو الأمية او للتعليم الشعبي.

وثالثها – الخروج من سلعنة التعليم لأنه منفعة مشتركة وعامة، وليس بضاعة للكسب والاستغلال.

 ورابعها- اعتبار التعليم مسألة تعاونية، وهذا يقتضي مراجعة سياسات الفضاء التعليمي ككل بمشاركة الجميع، فالأمر لا يخص وزارات التعليم والتربية أو هذه الإدارة أو تلك، بل يشمل الجميع لتطوير المهارات والتدريب على الممارسة الحرة وقبول التعددية والتنوع.

 وخامسها – استخدام الحوكمة في مجال التعليم حتى مع نقص الموارد، ولكن بحوكمتها وتنويعها يمكن الوصول إلى نتائج مهمة.

 والمقصود بالفضاء التعليمي معرفة الغير أولا، وبناء الفكر النقدي ثانيًا، في إطار تأهيل المعلمين والمعلمات والمربيين والمربيات لخلق بيئة أمنة اجتماعيًا، وبالتالي تطوير حق التعبير للطلبة ومنظماتهم المهنية.

عقد اجتماعي جديد

ويرتكز تقرير اليونيسكو على فكرة جوهرية أساسها «عقد اجتماعي جديد» يقوم عليه التعليم باعتباره عموميًا ومجانيًا، وهو ما يحتاج إلى أنسنته وتطوير طرقه ومناهجه لرفع مستواه، وذلك بالتعاون مع المجتمع المدني، وخلاصته أن حصيلة الماضي كانت طائفة من الوعود غير المتحققة، الأمر الذي أصاب العديد من المجتمعات بخيبة أمل، فضلًا عن المعنيين بالإصلاح والتجديد، لذلك لا بدّ من التوجه إلى وضع «الأنسنة» مقابل «السلعنة»، فقد قادت سلعنة التعليم إلى تدمير المجتمعات، بجعل التعليم سلعةً وليس حقًا وواجبًا في الآن، الأمر الذي احتاج إلى تنمية الفرص، والاستفادة من جميع المجالات لتحقيق هذا الهدف، ولاسيّما الفنون.

ولعلّ الفنون تُعتبر إحدى السبل الاكثر جدارة على إدراك التصورات العلمية بتغيير الفرص وجعل الثقافة جزءًا لا يتجزأ من الحياة، والفن هو التعويض الأكثر قدرة على إدراك ما أهملناه في الماضي، خصوصًا حرية المعلم في وضع البرامج وتكــــــــــييفها تبعًا لمستوى الطلبة، بحيث تكون العلاقة أفقية في العملية التعليمية، وليست عمودية والفضاءات اجتماعية وأفقية كذلك.

 ﻓ «الأنسنة» تقتضي «العقلنة»، أي جعل العلم ثقافة، والتربية على التفكير العقلاني العلمي طريقة ناجحة بعيدًا عن الغيبيات والخرافات والوثوقية الإطلاقية، وادعاء امتلاك الحقيقة والأفضلية على الآخر.

وهذا يتطلّب إعادة النظر بالعملية التعليمية برمّتها بهدف إصلاحها وتجديدها، إذْ يقتضي الأمر فهم التراث والاستفادة من إيجابيات الماضي وتوظيفها في عمليات التغيير المنشودة، فلا عصرنة دون تراث ولا حداثة دون تاريخ.

ولعلّ ما هو أكثر أهمية، هو الاستفادة من خير ما في الماضي للتجديد والإبداع والابتكار والتطوير لتنمية المهارات والقدرات وتهذيب الذوق الإنساني، وبالثقافة يمكن إدراك العلاقة العضوية بين الحداثة والقدامة والمعاصرة والأصالة، بحيث يمكن توظيف ذلك من خلال المساواة بين الذكور والإناث وبين الريف والحضر، بمعنى توفير الفرص والتمييز الإيجابي، وذلك يحتاج إلى جعل التعليم عموميًا ومؤسسًا بفلسفة المدرسة العمومية.

 وإذا ما حدث أي تطور إيجابي في الوضع العام، فإنه سينعكس إيجابًا كذلك على التعليم، ذلك أن تطوير التعليم يعني تطوير الحياة، وتقديم رؤية إصلاحية للحاضر والمستقبل، تأخذ بنظر الاعتبار التجارب الدولية الناجحة للاستفادة من دروسها وعبرها دون استنساخها أو تقليدها بمراعاة ظروف كل مجتمع ودرجة تطوّره وحاجاته الفعلية.

ذات صلة

الفجوة الكهربائية في العراق.. من أزمة مزمنة الى قطاع قائداحذر الباطل حين يبتسم!مدننا التي لا يريدون أن تُرىموت الصحفيين في غزة جوعاً.. انهيار قواعد القانون الدوليفرنسا ستعترف بالدولة الفلسطينية.. هل لذلك أهمية!