أنثروبولوجيا الديمقراطية في العراق
د. مظهر محمد صالح
2025-12-04 04:06
الديمقراطية والدولة العميقة
تحتلّ مساهمات المفكر الأكاديمي الكبير الدكتور مزهر الخفاجي في سلسلته الأخيرة، ولاسيما مقاله المعنون “الاستثمار السيّئ في الديمقراطية” موقعًا متقدمًا في إعادة فتح أحد أكثر موضوعات الفكر السياسي إثارة: أنثروبولوجيا الديمقراطية، أو ما يمكن تسميته بالاقتصاد السياسي للديمقراطية في الاقتصادات الريعية.
فالديمقراطية في مثل هذه الاقتصادات ليست نصوصًا دستورية ولا صناديق اقتراع فحسب، بل شبكة كثيفة من العلاقات الاجتماعية والثقافية تتقاطع مع تاريخ طويل من إعادة توزيع السلطة والموارد خارج إطار الدولة الرسمية.
هنا، تتدخل الأنثروبولوجيا لقراءة الديمقراطية لا كنظام حكم، بل كممارسة يومية تحكمها قوى غير مرئية تصوغ شرعية الفعل السياسي ومآلاته.
ومن هنا تظهر قوى الدولة الموازية والريع كمدخل لفهم علل الديمقراطية. اذ تمثل الدولة الموازية واقتصاد الريع، المدخلين الأكثر حساسية لفهم اختلالات الديمقراطية في المجتمعات الريعية. فالقوى المشاركة في السلطة عبر آليات المحاصصة السياسية تتجاوز حدود النص الدستوري، وتعمل داخل فضاءات المجتمع وشبكات المصالح، مما يجعل العملية الديمقراطية محكومة بمنطق التمثيل (الطائفي–العرقي) أكثر من كونها تمثيلًا سياسيًا.
وقد شهد الفضاء الديمقراطي العراقي في السنوات الأخيرة تغيرًا لافتًا، خصوصًا مع بروز الجيل Z، الذي يمارس حقوقه الدستورية دون أن يرتبط ولائيًا بأركان القوة التقليدية.
ومع تقدّم دوره كناخب، انكشف أن القوى الممسكة بالسلطة، أو القوى المؤهّلة لاحتكارها، ما تزال ترتكز على ثلاثية الدولة الموازية: "الدين، القبيلة، ورأس المال"، ومن هذه الثلاثية تنبثق الدولة العميقة بوصفها الجهاز الذي يحفظ توازن النفوذ ويمنع الانزياحات الحادة في توزيع الريع.
فكلما تقدّم أحد أركان هذه الثلاثية نحو السلطة عبر صناديق الاقتراع للهيمنة على الريع النفطي، سارعت القوى التقليدية إلى إعادته إلى موقعه داخل الدولة الموازية، أو إلى “لجمه” في إطار الدولة العميقة، بحيث لا يُسمح له بالاستحواذ الكامل على الريع أو تحويل “الهيمنة الانتخابية” إلى انقلاب ديمقراطي.
لقد جاء “التقسيط” واضحًا:
- بدءًا برجال الدين،
- ثم رجال الأعمال،
- وأخيرًا الزعامات القبلية.
كلها قوى تتقدّم إلى السلطة، لكنها تُسحب إلى الظل عند لحظة الهيمنة، لتعود إلى موقعها كجزء من بنية موازية تشتغل تحت السقف الأيديولوجي للأحزاب الطائفية والإثنية.
وبهذا تسير ميكانيكيات منع تشكّل بديل للسلطة ، حيث الحزب يحتكر، والدولة الموازية تبقى في الظل.
لقد نجحت الأحزاب الطائفية والإثنية، خلال العقدين الماضيين، في إنتاج قوة طاردة تمنع سلطات الدولة الموازية الثلاثية من التحوّل إلى كيانات رسمية تتبوأ السلطة مباشرة. فهي تستثمر في هذه القوى، لكنها لا تسمح لها بأن تصبح بديلًا عنها.
هذه الأحزاب تحافظ على مركزية احتكار القوة—بالمعنى الذي يستخدمه لوي ألتوسير في مفهوم “سلطة الاستجواب” Interpellation—وتمنع انتقال السلطة الأيديولوجية الموازية من الظل إلى العلن، ومن “الهيمنة الثقافية–الاجتماعية” إلى الهيمنة المؤسسية الرسمية.
وقد جاء وصف الكاتب السياسي الاجتماعي الكبير إبراهيم العبادي دقيقًا حين قال:
“يعاني المشهد الانتخابي من الرتابة ، الوجوه والشعارات ذاتها، بلا تجديد حقيقي في الخطاب السياسي، فيما يغيب صوت الشباب الباحث عن الفرص والعدالة والكرامة”.
وهنا تأتي الانتخابات البرلمانية كمختبر للصراع ، (حيث الدولة الموازية تريد … والأحزاب تمنع..!)
إذ تحولت الانتخابات البرلمانية في العراق إلى معمل سياسي تختبر فيه الدولة الموازية قدرتها على احتكار السلطة المحاصصاتية لالتقاط الحصة الأكبر من الريع.
لكن القوى السياسية التي تمثّلها ، أو تتغذّى منها ، سرعان ما تتدخل لإسقاط أي محاولة لهيمنة مباشرة من قبل هذا الثالوث (المعتقد–القبيلة–راس المال) حتى حين تستخدم الأخيرة خطابًا دينيًا أو إثنيًا أو قد تتمدد ليبراليًا.
فالخط الفاصل بين السلطة التشريعية التقليدية والسلطة الظلية الأيديولوجية هو خط عمودي، لا يسمح بعبور الدولة الموازية ناحية السلطة الرسمية. لأن السماح بذلك يعني احتكارًا مباشرًا للقوة وتقاسمًا جديدًا للريع، وهو أمر لا تقبل به بنية المحاصصة السياسية .
فالخلاصة، إن جوهر الديمقراطية في العراق، من منظور أنثروبولوجي–اقتصادي، يكمن في صراع خفي بين:
-الدولة الرسمية التي تدير شكل النظام،
-الدولة الموازية التي تمارس فعل النفوذ،
-الدولة العميقة التي تضبط حدود التوازن بينهما.
وبين هذه الثلاثية، يبقى الريع النفطي هو “المحرّك غير المرئي” الذي يعيد تعريف الشرعية، ويمنع تشكّل ديمقراطية فاعلة تُعيد المواطنين إلى مركز الفعل السياسي بدلاً من بقائهم متلقّين لفتات الفائض.
واخيراً، تبقى كلمات المفكر السياسي الانساني الكبير حسين العادلي شاهدة على عمق علم اجتماع السلطة و«أنثروبولوجيتها» وهي تكشف أخطر أصناف الأفيون التي تُخدِّر الوعي وتستلب الإرادة. فهناك (أيديولوجيا تستوطن العقل ) فتحوله إلى مرآة مغلقة، (وعادة تستعبد السلوك ) حتى يغدو الإنسان أسير تكرار لا يملكه، (وسلطة تعمي البصيرة) تمحو المسافات الفاصلة بين الحقيقة والوهم.
تلك هي الأفيونات الثلاثة التي تؤسس في صمت ،لبنية القهر واغتراب الإنسان.