على الولايات المتحدة منع قيام حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله
مجموعة الازمات الدولية
2024-09-25 07:06
في الأسبوع الماضي، وبعد أحد عشر شهراً من تبادل الضربات مع حزب الله، صعَّدت إسرائيل على نحو كبير ضرباتها للمجموعة المقاتلة المتشددة في لبنان. يلوح صراع شامل في الأفق. ولذلك ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعل كل ما في وسعها لتجنب وقوع كارثة.
بعد مرور عام على بداية صراعهما المتصاعد، والذي ما يزال قابلاً للاحتواء حتى الآن، باتت إسرائيل والمجموعة اللبنانية المتشددة حزب الله على شفا حرب شاملة. لقد كثَّفت إسرائيل هجماتها، فقتلت عشرات من أفراد حزب الله، إضافة إلى بعض المدنيين، فيما يبدو أنه عملية تفجير أجهزة اتصال وضرب قوات النخبة لدى الحزب. وقد رد حزب الله بوابل من الصواريخ والمسيَّرات، مؤكداً أن قدراته ما تزال لم تُمَسّ، جزئياً على الأقل.
قد يعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن حزب الله، إذا حُشر في موقف دفاعي، لن يردَّ على نحو يتجاوز المستوى الحالي من العنف، وإلّا، فإن حرباً ستكون ضرورية، كما يعتقد القادة العسكريون والسياسيون الإسرائيليون، لإبعاد حزب الله عن الحدود والسماح لسكان شمال إسرائيل بالعودة. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الأفضل أن تخاض الحرب الآن في الوقت الذي يبدو فيه أن حزب الله قد أُضعف. لكن عند الوصول إلى نقطة معينة، فإن حزب الله سيرد.
إن اندلاع حرب يمكن أن تجر إيران والولايات المتحدة إليها، ستكون مدمرة للبنان، وعلى الأرجح لإسرائيل أيضاً. ولذلك ينبغي على الولايات المتحدة أن تضغط أكثر من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة – ليس لتخفيف حدة الأوضاع الرهيبة في القطاع فحسب، بل أيضاً لتهدئة الجبهة الشمالية لإسرائيل. يتعيَّن على إدارة بايدن أن تسعى في الأسابيع التي تسبق الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر إلى إنهاء حرب غزة، بما في ذلك استعمال نفوذها - المتمثل في دعمها العسكري والدبلوماسي لإسرائيل – لتحقيق ذلك الهدف. في غياب ذلك، ينبغي أن تضغط على إسرائيل لوقف ممارسة سياسات حافة الهاوية، وتبنّي مسار دبلوماسي لإبعاد مقاتلي حزب الله باتجاه الشمال.
لقد شهدت الأيام القليلة الماضية تصعيداً حاداً في الصراع في شمال إسرائيل. ففي 17 و18 أيلول/سبتمبر، انفجرت بضعة آلاف من أجهزة الاتصال التي يحملها أفراد حزب الله في الوقت نفسه، فقتلت العشرات وجرحت المئات. يُذكر أن إسرائيل كانت قد اخترقت سلسلة الإمداد بالمعدّات التي طلبها الحزب مؤخراً، وزرعت داخل الأجهزة متفجرات فجَّرتها لاحقاً برسالة مرمَّزة. في 20 أيلول/سبتمبر، وذُكر أن غارة إسرائيلية قتلت ستة عشر من قادة قوات الرضوان النخبوية في حزب الله إضافة إلى مدنيين (بلغ العدد الإجمالي للقتلى 45 حتى الآن) في ضواحي بيروت الجنوبية المكتظة بالسكان، حيث للحزب عدد كبير من المكاتب والمنشآت. وهزَّت ضربات جوية أخرى استهدفت فيما يبدو تدمير مواقع صواريخ حزب الله، أجزاء من لبنان في اليوم التالي، ومرة أخرى صبيحة 23 أيلول/سبتمبر، من أجل منع حزب الله من إطلاقها. كما حذَّر الجيش الإسرائيلي سكان جنوب لبنان بوجوب مغادرة المنازل التي تخزَّن فيها الأسلحة. في 22 أيلول/سبتمبر، يُذكر أن صواريخ حزب الله التي أطلقها على القاعدة الجوية الإسرائيلية رامات ديفيد شرق حيفا، وهي أبعد نقطة تمكَّن الحزب من الوصول إليها حتى الآن، شلَّت شمال إسرائيل. اعترض النظام الدفاعي الإسرائيلي معظم تلك الصواريخ، لكن ضربة مباشرة على منزل في كريات بياليك أدَّت إلى جرح ثلاثة إسرائيليين، وتسببت بأضرار في مبانٍ وأشعلت النار في عدة سيارات.
وصل العداء القديم بين حزب الله وإسرائيل إلى ذروته بعد هجمات حماس في جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عندما أطلق حزب الله ضربات صاروخية في محاولة لتشتيت الانتباه العسكري الإسرائيلي وتقويض حملته في قطاع غزة. حزب الله، الذي أوضح أن حماس لم تستشره مسبقاً قبل هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم يضرب إسرائيل بالقوة التي يبدو أن قيادة حماس كانت تأمل أنه سيستعملها. لكن من الواضح أنه ربط بين الجبهتين الشمالية والجنوبية، وتعهد بأنه لن يوقف إطلاق النار حتى توقف إسرائيل حربها في قطاع غزة. أدت الأعمال القتالية إلى إخلاء 60,000 مواطن من البلدات الواقعة شمال إسرائيل، وغادر 20,000 آخرون أيضاً، الأمر الذي شكَّل ضغطاً على الحكومة لإعادتهم إلى منازلهم. كما أُجبر أكثر من 110,000 لبناني أيضاً على مغادرة منازلهم في الجنوب منذ بدأ الجانبان بتبادل الضربات.
بالنسبة لإسرائيل، لا تشكل صواريخ حزب الله المصدر الوحيد لقلقها؛ إذ لم يكن القادة الإسرائيليون أقل قلقاً من وجود قوات الرضوان قرب الحدود، خشية أن يتمكن مقاتلوها من شن هجوم في الشمال شبيه بذاك الذي شنته حماس في الجنوب. تدَّعي إسرائيل أن الضربة التي وجهتها في 20 أيلول/سبتمبر وقتلت أكثر من عشرة من قادة قوات الرضوان حدثت وهم مجتمعون لمناقشة خطة على غرار خطة 7 تشرين الأول/أكتوبر لاختراق شمال إسرائيل. على مدى سنوات، يبعث المسؤولون الإسرائيليون برسائل بوجوب ابتعاد حزب الله عن الحدود إلى ما وراء نهر الليطاني التزاماً بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي أنهى الحرب الإسرائيلية–اللبنانية عام 2006. وتتفق النخب السياسية والأمنية الإسرائيلية بشكل عام على حتمية قيام عملية إسرائيلية لتحقيق هذه النتيجة، في وقت ما.
على مدى العام الماضي، تطور الوضع على الحدود الإسرائيلية–اللبنانية إلى حرب استنزاف، حيث لحقت بكلا الجانبين أضرار اقتصادية كبيرة وحالة تعطيل اجتماعية. حتى قبل هجمات الأسابيع الماضية – التي من المرجح أن تكون قد ألحقت الضرر بمعنويات حزب الله، وكذلك بجهوزيته وسمعته العسكريتين – كانت إسرائيل تحقق تفوقاً في تلك التبادلات. طبقاً لبعض التقديرات، فإن العمليات التي جرت عبر الحدود، والتي يقدر عددها بـ 8,500 تقريباً، بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و31 تموز/يوليو 2024، شنت إسرائيل أكثر من ثلاثة أرباعها، وقتلت فيها عدداً من كبار شخصيات حزب الله. لكن الجانبين أبقيا التصعيد تحت عتبة معينة، حيث التزم كلاهما بقيود جغرافية وقيود في الاستهداف كشفت عن تفضيل الجانبين لتجنب قيام حرب شاملة.
يبدو أن ذلك تغيَّر الأسبوع الماضي. ففي 16 أيلول/سبتمبر، جعل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عودة المهجرين الإسرائيليين هدفاً رسمياً للحرب. وبعد يومين، أعلن وزير الدفاع يوآف غالانت مرحلة جديدة في حرب ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، ينتقل فيها مركز الثقل إلى الحدود الشمالية. بتوجيه تهديد بغزو بري لإقامة منطقة عازلة داخل لبنان، يبدو أن إسرائيل تحاول إجبار حزب الله على التخلي عن مطلبه بجعل وقف إطلاق النار في قطاع غزة شرطاً مسبقاً لتحقيق الهدوء في شمال إسرائيل، وأيضاً إجباره على سحب قواته على طول الحدود.
لكن هذا الضغط يمكن أن يشكل أيضاً مقدمة لحملة أوسع. فبعد ما يقرب من العام على بداية الحرب في غزة، ونشر إسرائيل قواتها على نحو متفرق بين قطاع غزة، والضفة الغربية والشمال، ومع بداية شعور الاقتصاد الإسرائيلي بآثار ذلك، يرى بعض المسؤولين وجود مصلحة متنامية لإسرائيل في تحويل حرب الاستنزاف إلى حملة قصيرة وحاسمة تغيِّر “الواقع الأمني” على الأرض، على حد تعبير غالانت، وردع حزب الله عن شن مزيد من الهجمات.
لا تشكل أهداف إسرائيل لغزاً بالنسبة لحزب الله، الذي يتابع وسائل الإعلام الإسرائيلية عن كثب، لكن من غير المرجح أن يتراجع الحزب. أعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله ذلك في خطابه في 19 أيلول/سبتمبر، بعد انفجار أجهزة الاتصالات. منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، أكد حزب الله أن وقف إطلاق النار في غزة هدف غير قابل للتفاوض، وقد قُتِل مئات من مقاتليه في سبيل هذه القضية. وسيرقى تخلّيه عن هذا الموقف الآن إلى هزيمة تاريخية، تُعرِّض مصداقية الحزب إلى ضربة أكثر تدميراً مما عرَّضتها له ثغراته الأمنية.
لقد صرَّح قادة حزب الله على نحو متكرر بوجهة النظر القائلة إن الحرب بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة، وصراعهم الموازي، معركة على التوازن الإستراتيجي في الشرق الأوسط برمَّته، وهي معركة لا يستطيعون تحمّل خسارتها. قد تكون هجمات إسرائيل الأخيرة قد أضعفت الحزب، لكن قدرته على شن الصواريخ – ولا سيما الصواريخ الموجهة بدقة – ما تزال لم تُمَسّ، ويُذكَر أنه يحتفظ بترسانة كبيرة في مخازنه. وما يزال لديه عشرات آلاف المقاتلين تحت قيادته.
ولذلك من الصعب التنبؤ بدقة بالكيفية التي سيسير عليها توغل برّي، باستثناء أنه سيكون مدمراً للبنان. لقد حذر نصر الله من أن غزواً كذاك سيحوّل جنوب لبنان إلى مقبرة للجنود الإسرائيليين، كما كانت الحال عندما دخلت القوات الإٍسرائيلية البلاد في عامي 1982 و2006. مهما كانت الكلفة المترتبة على إسرائيل، فإن الطريقة التي أدارت بها الحرب في قطاع غزة، والموقف المتساهل الذي تبنّته الولايات المتحدة حيالها حتى الآن، يشيران إلى أن الآثار الإنسانية والاقتصادية لحرب شاملة ستكون كارثية على الشعب اللبناني. لا يرى حزب الله في اصطدام أكبر مع إسرائيل هدفاً إستراتيجياً ضرورياً ولا ذكياً، بالنظر إلى أن مثل تلك الحرب ستهدد باستنزاف القدرة العسكرية للحزب وستسحب القبول الشعبي بادعائه بأنه المدافع الرئيسي عن لبنان، الذي سيكون بحاجة لإعادة الإعمار بعد ذلك.
السؤال الآن يتعلق بالمدى الذي ستذهب إليه إسرائيل في الاستفادة من تفوقها، وما إذا كانت إجراءاتها ستنجح في تأمين المناطق الحدودية إلى الحد الذي يمكِّن المهجَّرين من العودة إلى بيوتهم. يمكن لقيادة عسكرية باتت أكثر جرأة أن تستمر في زيادة حدة الضربات أكثر فأكثر على حزب الله، بحيث تقوِّض قدرات الحزب ومعنوياته. يشعر بعض القادة الإسرائيليين بأن صحة مواقفهم أثبتها الرد الحذر لحزب الله في أواخر آب/أغسطس على قيام إسرائيل بقتل أحد كبار قادته قبل شهر من ذلك. كما يعتقد بعض المسؤولين الأميركيين أن جزءاً من القيادة الإسرائيلية لم يكترث لاستدراج حزب الله إلى شن ذلك النوع من الهجمات التي من الواضح أنه سعى إلى تجنبها، والتي يمكن أن تقدِّمها إسرائيل على أنها ذريعة لتصعيد العمليات في “حرب ضرورة” دفاعية. وإذ لا يبقى سوى أسابيع على الانتخابات الرئاسية الأميركية، تبدو إدارة بايدن عازمة على منع تحقق مثل ذلك السيناريو، إذ أعلنت في 22 أيلول/سبتمبر أن إسرائيل ينبغي أن تمتنع عن التصعيد إلى حد يجعل التوصل إلى حل دبلوماسي أمراً مستحيلاً.
في حين أن من المفهوم أن تكون إسرائيل مصممة على استعادة الأمن على طول حدودها الشمالية وإبعاد مقاتلين عازمين، على الأقل حسب بياناتهم العلنية، على تدميرها، فإن تصعيد الأسبوعين الماضيين يشكل أخطاراً جسيمة. ربما تقترب اللحظة التي يقرر فيها حزب الله أن رداً شاملاً هو وحده الذي يمكن أن يمنع إسرائيل من تنفيذ المزيد من الهجمات التي تضعفه أكثر. وفي حين كان الحزب حريصاً على تجنب تصعيد لا يمكن ضبطه، وتفادي الظهور بمظهر الطرف الذي حوَّل الضربة مقابل ضربة إلى حرب شاملة، فإنه قد يقرر أن الخط الفاصل بين ما يعتقد أن إسرائيل ستفعله ومثل تلك الحرب لم يعد ذا معنى. كما يمكن أن يقرر أنه بحاجة إلى الرد طالما ظل يعتقد أن بوسعه إدارة التداعيات الناجمة عن رد إسرائيلي قوي من شأنه أن يعطل قدرات الحزب في القيادة والتحكم. كما يبدو من غير المرجح أن يرغب قادة المستوى المتوسط في الحزب الوقوف مكتوفي الأيدي وترك القوة الصاروخية التي يفخر بها الحزب دون استعمال كي تدمر إسرائيل تلك الترسانة أيضاً.
وليس من الواضح أيضاً كيف ستتمكن إسرائيل من الدفاع عن نفسها في مواجهة وابل من صواريخ حزب الله. قد تراهن على كفاءة دفاعاتها الجوية المتقدمة، لكن على عكس القبة الحديدية التي اعترضت بفعالية القذائف قصيرة المدى غير الموجهة التي كانت حماس وحزب الله يطلقانها حتى الآن، فإن أنظمتها قد تواجه صعوبة في التعامل مع عدد أكبر من الصواريخ والمسيَّرات تُطلَق في الوقت نفسه، بما في ذلك المئات التي يبدو أن حزب الله زوَّدها بأنظمة توجيه دقيقة من صنع إيراني، ولم يستعملها بعد. وقد أثبت مشغلو مسيَّرات حزب الله قدرتهم على التفوق على الدفاعات الجوية الإسرائيلية.
ويعبر بعض الخبراء العسكريين الإسرائيليين عن قلقهم من أن الصراع على مدى الأحد عشر شهراً الماضية قد منح الحزب فرصة لدراسة هذه الأنظمة وإيجاد الطرق لتجنبها. وقد يتبين أن التداعيات بالنسبة لإسرائيل قد تكون أكثر شدة من تلك التي ترتبت على هجوم حماس المدمر في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وإذا قررت إيران، وأيضاً حلفاؤها غير الدولتيين في سورية، والعراق واليمن، الانضمام إلى المعركة لحماية حزب الله، الذي بنته على مدى عقود، على الأقل لردع إسرائيل عن مهاجمة إيران نفسها، فإن مثل تلك المواجهة يمكن أن تتصاعد إلى حرب إقليمية من شبه المؤكد أن تَجرَّ الولايات المتحدة إليها.
لقد تمثَّل نهج واشنطن حيال تبادل إسرائيل وحزب الله لإطلاق النار على مدى العام الماضي في محاولة خفض حرارة الموقف، وفي الوقت نفسه الدفع نحو وقف لإطلاق النار في غزة، على أمل أن تمهد مثل تلك الهدنة الطريق إلى تفاهم جديد في الشمال من شأنه أن يؤدي، بين أشياء أخرى، إلى سحب حزب الله لقواته إلى مسافة 7-10 كم شمال الحدود. لقد دعا المسؤولون الأميركيون إسرائيل، خلف الكواليس في كثير من الأحيان، إلى عدم التصعيد، بينما سعوا علناً إلى ردع حزب الله، بما في ذلك من خلال إرسال مجموعات مرافقة لحاملات الطائرات إلى المنطقة.
لقد أخفقت شهور من الجهود الأميركية، إضافة إلى الجهود المصرية والقطرية، في التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين هناك، بسبب تعنّت كلا الجانبين ورفض إدارة بايدن استعمال مصدر واشنطن الرئيسي للنفوذ على إسرائيل، أي الدعم العسكري والدبلوماسي، لدفع نتنياهو إلى القبول بصفقة وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن التي يقول غالبية الإسرائيليين والقادة العسكريين والأمنيين في البلاد إنهم يدعمونها.
قبل أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية الأميركية، يواجه البيت الأبيض كارثة هي جزئياً من صنعه. لقد حاول المسؤولون الأميركيون، الذين لا يرون الآن أملاً بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، حاولوا في آخر جولاتهم الدبلوماسية فصل مسرَحَي العمليات – قطاع غزة والحدود الشمالية – بالدفع إلى التوصل إلى حصيلة في لبنان غير مشروطة بالوضع في غزة. يبدو أن ذلك محكوم بالفشل، بالنظر إلى رفض حزب الله التراجع عن مطلبه بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة قبل وقف هجماته الصاروخية. قد يتطلب سحب قواته اتفاقاً منفصلاً، لكن وقف إطلاق النار في غزة يبقى أكثر الطرق أماناً لتحقيق الاستقرار في الشمال والسماح للمواطنين الإسرائيليين بالعودة إلى بيوتهم. حتى بعض المسؤولين الإسرائيليين الأمنيين السابقين الذين يدعمون خطوات إسرائيل التصعيدية في لبنان ما زالوا يؤكدون على أهمية استعمال هذه الخطوات في التوصل إلى التفافة تمكِّن من التوصل إلى وقف لإطلاق النار وصفقة بشأن الرهائن.
من المرجح أن يكون البيت الأبيض أكثر حذراً الآن بالتهديد بوقف المساعدات لإسرائيل، مما كان من قبل، على بُعد أسابيع فقط من الانتخابات، وفي وقت يمكن لإسرائيل أن تواجه حرباً شاملة من الشمال. كما أن نتنياهو ليس العقبة الوحيدة؛ إذ إن قائد حماس يحيى السنوار يعارض الصفقة أيضاً. لكن بالتخلي عن وقف إطلاق النار، فإن فريق بايدن قد يجعل الديمقراطيين يدخلون انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر والولايات المتحدة عالقة في حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله. يعتقد بعض الديمقراطيين أن نتنياهو ربما يصعِّد الأمور في الشمال بالتحديد لتقويض احتمال فوز نائب الرئيس كمالا هاريس ولصالح المرشح الجمهوري دونالد ترامب. لكن الدعم غير المشروط تقريباً الذي قدمه البيت الأبيض لإسرائيل منذ هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر ساعد في تمكين نتنياهو على حساب القوى السياسية الأكثر براغماتية في البلاد. لقد أظهرت السنة الماضية التكاليف السياسية الداخلية التي يمكن أن تترتب على تعبير الديمقراطيين عن قدرٍ غير كافٍ من القلق حيال الثمن الذي فرضته الحرب على المدنيين في قطاع غزة – والآن في لبنان.
في غياب اندفاعة أقوى للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، لا تملك واشنطن كثيراً من أوراق اللعب باستثناء فرض المزيد من الضغوط على إسرائيل للتراجع خطوة في الشمال. من المرجح أن تتسبب حرب مع حزب الله بمزيد من التهجير من الشمال وقد ينتهي الأمر ربما بالتوصل إلى اتفاق شبيه بالاتفاق الموجود الآن على الطاولة، لكن بثمن أكبر؛ إذ من الصعب رؤية كيف سيتمكن السكان الإسرائيليون من العودة إلى الشمال ما لم يتم التوصل إلى اتفاق. يمكن للولايات المتحدة ربما أن توصل رسالة إلى حزب الله، من خلال قنوات تمتلكها، بأن إسرائيل قد تكون مستعدة – إذا كان القادة الإسرائيليون مستعدين فعلاً – لخفض حدة الهجمات إلى المستوى الذي كانت عليه في مرحلة سابقة من الصراع إذا رد الحزب على ذلك بالمثل. يمكن لتلك الخطوة على الأقل أن توقف المسار التصعيدي. لن تسمح بعودة المهجرين، لكن حرباً شاملة لن تمكِّنهم من ذلك أيضاً – ليس قريباً على أي حال.
لكن يبقى المسار الأفضل الذي يمكن أن تتبعه إدارة بايدن يتمثل في الدفع لمرة أخيرة نحو التوصل إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في قطاع غزة يشكِّل أضمن طريق للابتعاد عن حافة الهاوية. في حين أن سجل بايدن منذ بداية حرب غزة لا يشير إلى استعداده لتغيير مساره، فإنه لم يعد المرشح الديمقراطي للرئاسة، ومن ثم قد يتمتع بدرجة أكبر من المرونة في التعامل مع الأزمة. وفي حين أن موقفاً أكثر عقلانية لنتنياهو قد لا ’يضمن‘ التوصل إلى اتفاق، لكن من المؤكد أنه ’ضروري’ للتوصل إليه. ليس هناك جواب واضح على السؤال المتعلق بأفضل الطرق لتحقيق التوافق بين استعمال الولايات المتحدة لنفوذها على إسرائيل؛ لكن كي يكون هناك أي أمل في النجاح، يجب جعل المساعدة العسكرية والدعم الدبلوماسي الأميركي مشروطين بالضرورات السياسية الأميركية الداخلية، وفي الوقت نفسه تشجيع درجة من المرونة من قِبَل رئيس وزراء إسرائيلي يعتقد أنه يستطيع الانتظار حتى نهاية رئاسة بايدن. لكن أياً من ذلك لا يبرر الاستسلام. إن نافذة تفادي اندلاع حرب شرق أوسطية قضى بايدن العام الماضي في العمل على تجنبها باتت على وشك الإغلاق. يخاطر بايدن بترك إرث في المنطقة ملطخاً ليس فقط بالمعاناة المرعبة في قطاع غزة واستمرار احتجاز الرهائن، بل بالإخفاق في منع حرب تَجرُّ إليها القوات الأميركية.