من الطف تبدأ الحكاية.. دراسة تحليلية تربوية في أطفال عاشوراء
فاطمة مرتضى معاش
2025-08-14 05:22
حين أُخذ سقراط للمحاكمة، سُئل: «ما أعظم أمنية لك في حياتك؟»
فأجاب: «أعظم أُمنيتي أن أرتقي إلى أعلى مكان في أثينا، وأنادي بأعلى صوتي: يا أصدقائي! لِمَ تقضون أجمل سنوات حياتكم في جمع الثروات بشراهة، بينما لا تُعلّمون أبناءكم، أولئك الذين ستتركون لهم هذه الثروات حتماً؟»
إنّ من الحِكمة، في كل مرحلة من حياتنا، أن نخلو بأنفسنا برهة، ونضع حياتنا تحت مجهر التأمل والمحاسبة، لنُعيد النظر في أولوياتنا. ونسأل بصدق: أيُّ موقعٍ يحتله أبناؤنا –وهم أثمن ما نملك– في سلّم هذه الأولويات؟
هل اقتصرت علاقتنا بهم على تأمين الطعام والشراب والكساء، وضمان الروتين اليومي المألوف؟ أم أننا رسمنا لهم خطة تربوية متكاملة، تُهيّئهم لنجاحٍ في الدنيا، وفلاحٍ في الآخرة؟
ورد في الروايات المأثورة أنّ (مؤمن الطاق) المكنّى بـ(أبي جعفر الأحول) أتى الى الامام الصادق (عليه السلام) قادماً من البصرة، ويفهم من سياق الحديث الشريف أنّ اكثر أهل البصرة في ذلك الوقت كانوا من أتباع أهل السنة والجماعة. فسأله الامام (عليه السلام) عن حال الشيعة هناك، وعن مدى إقبال الناس على التشيع والدخول فيه، فأجابه مؤمن الطاق قائلاً: «وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَقَلِيلٌ ولَقَدْ فَعَلُوا وَإِنَّ ذَلِكَ لَقَلِيل»، ثم سأله الامام (عليه السلام): «مَا يَقُولُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟» فقال: «جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهَا لِأَقَارِبِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه واله)»، فَقَالَ (عليه السلام): «كَذَبُوا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا خَاصَّةً فِي أَهْلِ الْبَيْتِ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أَصْحَابِ الْكِسَاءِ»، فقال له الامام (عليه السلام): «عَلَيْكَ بِالْأَحْدَاثِ فَإِنَّهُمْ أَسْرَعُ إِلَى كُلِّ خَيْر»[1]، أي إذا أردت الدعوة إلى الحق والتشيع، فابدأ من الأحداث.
من الناحية اللغوية في اللغة العربية فانه لدينا الصبي والولد والغلام والحدث وكل منها يدل على عمر معين ودلالة معينة، أما «الحدث» في العربية يدل على الطرىُّ السّن[2]، والفتي في السن[3]، وكِنَايَةٌ عن الشَّبَابِ وأَوَّلِ العُمُرِ[4]، كما تأتي بمعنى الجديد.
واما انّه لماذا هذه الفئة العمرية هم (أسرع الى الخير)، فالجواب يفصح عنه اميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله: «وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَب»،[5] فالشباب في مقتبل أعمارهم لم تتشكل شخصياتهم بالكامل بعد، فإنهم يكونون أسرع تأثرا من باقي الأعمار وهم أشبه بصفحة بيضاء أو أرض خصبة؛ فإن أُلقِي فيها الخير تقبّلته، وإن أُلقِي فيها الشر انجذبت إليه، كما قال الامام الصادق (عليه السلام): «بَادِرُوا أَحْدَاثَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ»[6]، وكانت المرجئة فرقة منحرفة في زمن الإمام الصادق (عليه السلام)، تقول إنّ الإيمان مجرد اعتقاد قلبي، وأنّ العمل لا أثر له في أصل الإيمان، وكانوا يفصلون بين ذنوب المؤمن وإيمانه، ولكن دلالة الحديث تنطبق على كل فكر منحرف قد يتسلّل إلى عقول الناشئة مستغلاً براءتهم ليشوّه صفاء وعيهم.
إنّ تصريح الإمام بكلمة «بادروا» يحمل دلالة السرعة والحسم في التربية؛ إذ لم يتقدّم الوالدان إلى غرس المبادئ في نفوس أبنائهم، ولم يجعلوا التربية أولوية حياتهم، فإنّ غيرهم سيملأ ذلك الفراغ، مستغلّين نقاء قلوبهم وخلوّ أذهانهم، ليصبّوا فيها ما يخدم مصالحهم الاقتصادية أو الاجتماعية.
وفي عصر العولمة اليوم، يفتح الأطفال أعينهم منذ نعومة أظفارهم على فضاء إلكتروني مفتوح، يزدحم بالمثيرات واللهو المضرّ بتكوين الهوية والشخصية، ومن جانب آخر الاعلام يعرف بدقة كيف يستثير كيمياء الدماغ بجذب اكثر الانتباه الممكن. فإن لم يبادر الوالدان بالتوجيه والتربية، تكفّل الإعلام بملء عقل الطفل وصياغة هويته على نحو يخدم مصالحه. أمّا إذا كانت المبادرة بيد الوالدين، فإنّ الورقة الرابحة تكون في أيديهم، إذ تشير الإحصاءات إلى أنّ سبعين بالمئة من التأثير على شخصية الأبناء يكون من الوالدين.
ومن أثمن الفرص التي ينبغي اغتنامها في المبادرة إلى التربية، أيامُ محرّم وصفر، حيث تُقام شعائر الحزن على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). فقد شاء الله سبحانه أن يُعلي وينصر دينه بدم الامام الحسين (عليه السلام) وبواقعة كربلاء الخالدة. وكما نقرأ في زيارة الأربعين: «وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الْجَهَالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلَالَةِ»[7]، وفي الحديث الشريف: «إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي السَّمَاءِ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ عَنْ يَمِينِ عَرْشِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِصْبَاحُ هُدًى وَسَفِينَةُ نَجَاةٍ»[8]، الإمام الحسين (عليه السلام) قدّم أغلى ما يملك؛ نفسه الطاهرة وأهل بيته وخواص أصحابه، ليوقظ القلوب من سبات الجهل، ويخرج العقول من متاهات الضلالة إلى نور الهدى، ومن هنا، فإن موسم محرّم وصفر ليست مجرد ذكرى، بل هي منابر حيّة للهداية، وموانئ أمان لكل من أراد النجاة. وهي فرصة ثمينة نغتنمها لكي ننقذ أولادنا ونربيهم على صراطٍ يرضي الله ورسوله وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام).
أما في هذا المقال ستكون لنا وقفة تأملية ورؤية جديدة في التروي من هَدي الحسين (عليه السلام)، وذلك من خلال تحليل مواقف الأطفال الذين عاصروا واقعة عاشوراء، منهم من أرتقى شهيدًا في رحابها، ومنهم من بقي حيًّا حاملاً ذكراها. فالاصحاب الذين كانوا في كربلاء بعضهم أتى مع عائلته وبعضهم لم يأت، فمثلاً نقل في التاريخ أن زهير بن القين قال لامرأته: «أنت طالق، الحقي بأهلك، فانّي لا أحبّ أن يصيبك من سببي إلا خير»[9]، بينما أختار الآخرون أن يصطحبوا نساءهم وأبناءهم، لكي يواسوا النساء من أهل البيت وكان حضورهن نابعًا من إرادة واعية وإيمان راسخ.
تلك النسوة تحلّين بصفات شخصية لا نظير لها، وربّين أبناءً يحملون من مكارم الأخلاق وعظمة الروح ما لم يشهد له التاريخ مثيلًا. ولو أنّنا درسنا شخصيات أطفالهم، واستخرجنا السمات التي تميّزوا بها، لاستطعنا أن نستلهم من سيرهم دروسًا لحياتنا المعاصرة، وأن نبحث في الوقت نفسه عن السُبُل لغرس تلك الصفات في نفوس أبنائنا. فما هي الصفات التي تحلّى بها أطفال عاشوراء؟ وكيف يمكننا من خلال الاقتداء بهذه الصفات أن نُحسن تربية أطفالنا وأن نغرس القيم اللازمة فيهم؟
وفي سياق هذا البحث، توصّلنا إلى أربع صفات محورية ميّزت أطفال عاشوراء، فجعلت مواقفهم مضيئة في سجل التاريخ:
الصفة الأولى: محورية الله تعالى في الحياة (Theocentrism/a God-centered worldview)
كان يرغب في بناء صرح ذي مواصفات استثنائية، فتحدث بحماس عن سطحه الذي يود أن يضم حديقة غنّاء، وعن أبوابه التي يطمح أن تكون من خشب الجوز بلون يأسر الأبصار. كما وصف نوافذه الزجاجية المزدوجة التي تمنع مرور الصوت والتلوث. أعجبت بأفكاره وخططه، لكني سألته: "هل رسمتَ المخططات الهندسية للمبنى؟ هل أخذتَ في الاعتبار الأساسات وقواعد البناء؟ وهل استشرتَ مهندسًا إنشائيًا؟"
نظر إليّ بدهشة. أدركتُ حينها أنه لم يفكر في هذا الجانب قط.
قصتنا في تربية أبنائنا تُشبه ذلك المثال تمامًا، فكثيرًا ما ننغمس في أساليب التربية وتفاصيلها الدقيقة إلى درجة قد تُبعدنا عن الأساس والمبدأ الجوهري لها.. وفي خضم هذه الأساليب، نواجه حيرة وتساؤلات لا ندري كيف نتعامل معها أو ما هو التصرف الصائب ازاءها. والحقيقة أنّ جذور كثير من هذه الإشكاليات تعود إلى الأساس الذي أقمنا عليه بناء تربيتنا ومبادئها. فإذا كان هذا الأساس راسخًا، تضاءلت مساحة الغموض والتيه إلى أدنى حدّ ممكن.
إنّ معتقدات الإنسان هي التي ترسم مسار حياته، وما يستقرّ في قلبه وعقله هو الذي يوجّه سلوكه وأسلوب عيشه. وكذلك في تربية الأبناء، فالمبادئ التي نؤمن بها هي التي تُشكّل أساليبنا في التعامل معهم. وفي دين الإسلام، تُعدّ (محورية الله تعالى) الركيزة الأهم والعمود الفقري للفكر والسلوك، وحقيقة العبودية لله أن يرى المرء نفسه وما يملك كلّه ملكًا لله، وأن يؤمن أنّ ربّ العالمين هو المدبّر لشؤونه، فيفوّض أعماله إليه، ويستودع أمره عنده، ويبذل أقصى جهده في امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وإذا ألقينا نظرة على الكتاب الحادي والثلاثين من نهج البلاغة، الذي يُعدّ منهجًا أساسيًا في التربية، وجدنا أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكّد على هذه المحورية في وصاياه لابنه الحسن (عليه السلام) بعبارات متتابعة، منها: «إِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ أَيْ بُنَيَّ وَلُزُومِ أَمْرِهِ وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ»، « وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ»، « فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ ورَزَقَكَ وَسَوَّاكَ ولْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ وإِلَيْهِ رَغْبَتُكَ وَمِنْهُ شَفَقَتُكَ».[10]
واذا ألقينا نظرة متأملة في الروايات الشريفة، نجد أنّ الأساس الذي يجب أن ترتكز عليه التربية هو الله تعالى. فقد قال امیرالمؤمنین (علیه السلام): «وَ اللَّهِ مَا سَأَلْتُ رَبِّي وَلَداً نَضِيرَ الْوَجْهِ وَلَا سَأَلْتُهُ وَلَداً حَسَنَ الْقَامَةِ وَلَكِنْ سَأَلْتُ رَبِّي وُلْداً مُطِيعِينَ لِلَّهِ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ قَرَّتْ بِهِ عَيْنِي»[11]، وفي حديث آخر، يصف الإمام الصادق (عليه السلام) منزلة الشاب الذي يهب شبابه وجماله لطاعة الله، فيقول: «إِنَّ أَحَبَّ الْخَلَائِقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى شَابٌّ حَدَثُ السِّنِّ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ جَعَلَ شَبَابَهُ وَجَمَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ذَاكَ الَّذِي يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ فَيَقُولُ هَذَا عَبْدِي حَقّاً».[12]
الحقوق الموجودة على عاتق الوالدين هي حقوق معدودة تُعدّ بالاصابع ولكن نرى أنّ ارتكازية الله في التربية يعدها الامام السجاد (علیه السلام) من اهم حقوق الاولاد على الوالدين في قوله: «وَأَمَّا حَقُّ وَلَدِك.. وَأَنَّكَ مَسْئُولٌ عَمَّا وُلِّيتَهُ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَالْمَعُونَةِ عَلَى طَاعَتِه»[13]، فهذه النصوص المباركة ترسم بوضوح منهجًا تربويًا يقوم على أن تكون غاية الوالدين الأولى غرس المعرفة بالله، وتعليق قلوب الأبناء بطاعته، وجعل حياتهم كلّها تحت راية العبودية له سبحانه.
یتمثل النهج التربوي الإلهي في تربية الأبناء على صورتين أساسيتين:
أولاً: اختيار المنهج التربوي المؤدّي إلى التمحور حول الله تعالى، حينما يكون أساس التربية صحيحاً، فإنّ الأساليب التي يتّبعها الوالدان في تعاملهم مع أولادهم تنبع من هذا الأساس الإيماني. من تشجيع الأبناء وتأديبهم، وطريقة تعليمهم الصلاة وسائر العبادات، الى غرس القيم الأخلاقية في نفوسهم. وعلى الوالدين أن يجعلوا حديثهم اليومي مع أبنائهم يكون على محورية الله سبحانه، وأن يربّوهم على محاسبة أنفسهم قبل كل فعل أو نظرة أو استماع: هل يرضي هذا العمل الله تعالى أم لا؟
ثانياً: تعلیم الأبناء نمط الحیاة الإلهي (Lifestyle): تشكل التصرفات اليومية العادية نمط حياة الإنسان، فكل ما يقوم به في يومه، من الأكل والنوم إلى التنقل والعلاقات الاجتماعية، يجب أن يكتسب طابعاً إلهياً، أي إن الله عزوجل يصبح محور قراراته، فيحرص على أن تكون جميع أفعاله وسلوكياته منسجمة مع مرضاة الله تعالى وتكون هذه الأفعال والسلوكيات على الطريقة والتفاصيل المذكورة في الروايات.
ومن بين الأطفال الذين حضروا في كربلاء، برزت السيدة سكينة (عليها السلام)، التي تذكر المصادر التاريخية أنّ عمرها آنذاك كان يقارب العشر سنوات أو أربع عشرة سنة. وقد شهد الامام الحسين (عليه السلام) بنفسه عليها بقوله: «واما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله».[14]
واصل كلمة (الاستغراق) من مادة (غ ر ق) التي تدلّ في اللغة على بلوغ الشيء أقصاه ومنتهاه[15]، فهي (عليها السلام) لم تكتفِ بعبادة الله عزّ وجلّ، بل بلغت الغاية القصوى في الانقطاع إليه، فكأنها لا تجد الأنس إلّا في الطاعة والعبادة. وهذه شهادة من امام معصوم تختلف في قيمتها وصدقها عن شهادة أيّ انسان عادي، وهي شهادة من الإمام الحسين (عليه السّلام) نفسه على تقواها وعلوّ مقامها، مما زادها منزلةً في قلب أبيها وإمام عصرها، حتى استحقت أن يصفها الامام(عليه السلام) بـ«خيرة النسوان» كما ورد حين ودّع (عليه السّلام) عيالاته يوم عاشوراء، لمّا وقف عليها يوم الطّفّ ورآها معتزلة عن النّسوة، باكية نادبة، أجلس سكينة وهو يمسح على رأسها، ويقول:
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة * ما دام مني الروح في جثماني
فإذا قتلت فأنت أولى بالذي * تأتينه يا خيرة النسوان[16]
وهكذا نرى أنّ محورية الله في الحياة رفعت السيدة سكينة (عليها السلام) في مقامها الروحي، حتى بلغت مرتبةً جعلتها من خير النساء في زمانها.
والنموذج الثاني في ذلك هما ابنا مسلم بن عقيل «إبراهيم» و«محمد» إذ تروي المصادر التاريخية أنه بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) أُسر غلامان من معسكره، فأُتي بهما إلى عبيد الله بن زياد فأودعهما السجن. وفي قصة مؤلمة، تمكّنا من الفرار، لكنّهما وقعا في قبضة رجل قاسٍ لا يعرف الرحمة، أراد أن يقطع رأسيهما طمعًا في الجائزة التي يمنحها ابن زياد، فتوسّل الغلامان إليه أن يصحبهما إلى السوق ليبيعهما، فينتفع بثمنهما بدل قتلهما، فأبى، فقالا له: «يَا شَيْخُ إِنْ كَانَ ولَا بُدَّ فَدَعْنَا نُصَلِّي رَكَعَات»، فقال باستهزاء: «صلّيا ما شئتما ان نفعتكما الصلاة»، فصلى الغلامان أربع ركعات ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا: « يَا حَيُّ يَا حَكِيمُ يَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْحَق»[17]، إنها لحظة تكشف عمق التربية الإيمانية التي نشأ عليها هذان الغلامان؛ ففي أشد لحظات الخوف من القتل وسفك الدماء، لم يشغلهما الرعب عن التوجّه إلى الله سبحانه، ولم يجد قلباهما ملجأً إلا بين يديه عزّ وجل. لقد تربّيا على أن تكون محورية الله هي بوصلة الفكر والقلب، حتى إذا واجها الموت، كان آخر ما تلفّظت به ألسنتهما هو التضرع إليه.
الصفة الثانية: المرونة النفسية (Psychological resilience)
المرونة النفسية هي القدرة على التكيّف الإيجابي مع الضغوط والتحديات، واستعادة التوازن النفسي بعد المرور بتجارب قاسية أو مواقف عصيبة. وهي تمثّل سمة داخلية تجعل الفرد قادرًا على امتصاص الصدمات، ومواجهة الأزمات بثبات، ثم العودة إلى حالته الطبيعية أو حتى إلى مستوى أعلى من النضج والخبرة. وإذا امتلك الإنسان هذه القدرة، استطاع أن يتعامل بوعيٍ واتزان مع الضغوط اليومية للحياة، وأن يحوّل المحن إلى فرص للنموّ، بدل أن تجرفه نحو الانكسار أو الاستسلام.
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أُقيمت في صحراء أريزونا تجربة بيئية مغلقة عُرفت بـ«بيوسفير 2»، بهدف إنشاء نظام بيئي مكتفٍ ذاتيًا. ومن بين ما لوحظ، أنّ الأشجار التي نمت داخل هذه البيئة المحمية كانت تنمو بسرعة، لكنها كانت تسقط قبل النضج. السبب أنّها لم تتعرّض للرياح؛ إذ إنّ الرياح ضرورية لنموّ صحي، فهي تدفع الشجرة للانحناء، فتشدّ الجذور من جانب وتضغط الجذع من جانب آخر، مما يحفّز توسّع الجذور وتقوية نسيج الخشب. هكذا تصبح الأشجار التي تمرّ برياح قوية في بداياتها أكثر قدرة على مواجهة العواصف مستقبلًا، بينما الأشجار المحمية تسقط أحيانًا تحت وزنها قبل أن تكتمل.[18]
كما يقول اميرالمؤمنين (عليه السلام): «أَلَا وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَالرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً والنَّابِتَاتِ الْعِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَأَبْطَأُ خُمُوداً.»[19]
(الشجرة البريّة) هي التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه، و(الرَوَاتِع الخَضِرة) هي الأشجار والأعشاب الغضة الناعمة التي تنموا على الماء الدائم، و(النابتات العِذْية) هي النباتات التي لا تسقى الا بماء المطر فتكون أقوى على الاشتعال وابطأ في الخمود، و(الوَقود) هو اشتعال النار. إنّ الشجرة البرية التي تعيش على الطبيعة بدون ري ولا عناية تكون أصلب عوداً وأقوى على تحمل عوامل الزمن القاسية كالانسان الذي لديه مرونة نفسية، بينما الشخص الذي لديه هشاشة نفسية حاله كحال النباتات التي تعيش ضمن عناية ويكون الماء مستمراً على عروقها فإنها لا تقوى على الصعاب والشدائد فبمجرد أن تقسو الطبيعة شيئاً ما تضعف وتذبل وقد تموت وكذلك النباتات التي لا ترتوي إلا بماء المطر وهذه أسرع لاشتعال النار وأبطأ في الانطفاء عكس غيرها ممن يشرب الماء باستمرار.
والمرونة النفسية أوسع من مجرّد الصبر بمعنى أنه عندما يقع الشخص في الضغوط ويخوض تجارب صعبة، يحزن ولكنه لن ينهار ويحفظ توازنه النفسي، فاذا الانسان لم يصبر فسيذهب بتوازنه النفسي وذهاب التوازن النفسي يمكن أن يذهب بالايمان كله، فعن الامام الصادق (عليه السلام): «الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ فَإِذَا ذَهَبَ الرَّأْسُ ذَهَبَ الْجَسَدُ كَذَلِكَ إِذَا ذَهَبَ الصَّبْرُ ذَهَبَ الْإِيمَانُ.»[20]
وعدت منظمة الصحة العالمية (WHO) المرونة النفسية من أهم المهارات الحياتية التي ينبغي للإنسان امتلاكها اذا أراد النجاح في الحياة. وهي ليست صفة فطرية، بل مهارة مكتسبة يمكن بناؤها بالتعلّم والتربية، ولهذا ينبغي على الوالدين أن يكون غرس هذه الصفة في الأبناء من أولويات التربية لديهم.
واليوم على أثر الرفاهية المفرطة التي أوجدت على أثر العولمة، جعلت كثيرًا من الآباء يلبّون كل احتياجات أطفالهم ويجنّبونهم أيّ مشقة، مما يعرّضهم لما يمكن تسميته بـ«الهشاشة النفسية»[21]، فينشأون غير قادرين على تحمّل الضغوط، الأمر الذي يعرقل نجاحهم مستقبلًا. وتُشير إحدى الدراسات الشهيرة إلى أنّ مجموعة من الأطفال قُدّمت لهم الحلوى، وطُلب منهم: من يمتنع عن أكلها الآن سيحصل لاحقًا على كمية أكبر. فأظهرت النتائج أن الأطفال الذين تمكّنوا من تأجيل المتعة الفورية من أجل مكافأة لاحقة نشأوا بشخصيات أكثر صبرًا وقدرة على التحمل، بخلاف الذين استسلموا فورًا، إذ مالوا إلى شخصيات أضعف أمام الإغراءات والصعوبات. وبعبارة أخرى، فإنّ القدرة على تأجيل الإشباع اللحظي مؤشرٌ على نمو شخصية أقوى وأقدر على مواجهة تحديات الحياة.
وأمّا في واقعة عاشوراء، فمع كلّ ما حلّ بالإمام الحسين (عليه السلام) وأبنائه وأصحابه من المصائب المروّعة، نرى الدموع والحزن والاشتياق والعزاء، ولكن لا نرى في سلوكهم أو أقوالهم ما يدلّ على الجزع أو ما يوحي بسقوط مقام الربوبية من القلوب —والعياذ بالله —، بل يظهر أنّ النساء والأطفال قد نشأوا تربيةً جعلت صبرهم ومرونتهم النفسية في أعلى وأكمل صورها.
ونأخذ «حميدة بنت مسلم» مثالًا على ذلك: فقد روي أنّه عندما كان الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى الكوفة، جاءه خبر استشهاد مسلم بن عقيل. فدخل (عليه السلام) خيمة النساء، ودعا حميدة وقرّبها منه، وأخذ يلاطفها ويعطف عليها. فشعرت الصغيرة بشيء من وراء هذا العطف، فقالت: «يا عمّ، أراك تعطف عليَّ عطفك على الأيتام، أفأصيب أبي مسلم؟» فرقّ الحسين لها وجرت دمعته، وقال لها: «يا بنيّة لا تحزني، فلئن أصيب أبوكِ فأنا أبوكِ وبناتي أخواتكِ.» فلمّا سمعت البنت هذا الكلام من الحسين (عليه السلام)، صرخت، فسمع صراخها آل عقيل، فارتفعت أصواتهم بالبكاء، وانتحبوا انتحاباً عالياً، وساعدهم أهل بيت الحسين (عليه السلام) في النّوح والبكاء، وعظم على أبي عبداللَّه المصاب، واشتدّ به الحزن [22]، كل هذا الحزن والعزاء كان مفعماً بالصبر والرضا بالله سبحانه وتعالى، يعلّمنا كيف تجتمع لوعة الفقد مع السكون النفسي والثبات على طريق الايمان.
الصفة الثالثة: الایمان بالمعاد والرؤية الاخروية
الايمان بالمعاد من الأصول الدين الخمسة، والقضايا الحتمية التي تشكّل ركناً أساسياً في حياة الإنسان المؤمن، غير أنّه -للأسف- لا يُؤخذ في التربية بالجدية الكافية؛ فكثيراً ما لا نتحدث عنه مع أبنائنا، أو نهيّئ الأجواء بصورة تجعلهم لا يسمعون شيئاً عنه.
إنّ الاعتقاد بالآخرة ينبع من أصل الإيمان بالمعاد والحياة بعد الموت. وفي الرؤية الإسلامية، الغاية النهائية للإنسان هي الحياة الخالدة في الدار الآخرة، وأنّ الدنيا ليست إلا محطة عابرة ومقدّمة لها، کما قال امیرالمؤمنين (عليه السلام): «الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا وَلَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا»[23]، فالله سبحانه وتعالى أوجد الإنسان في هذه الدنيا، ومنحه الفرصة ليعمل الصالحات، ويكمل نفسه، ويرتقي في درجاته الأخروية.
وعليه، فحياة الإنسان ليست محصورة في حدود هذه الدنيا الزائلة، بل إنّ الدنيا ليست سوى جزء يسير من مسيرة وجوده، أعدّه الله لتكون ميدان ابتلاء، وتمهيداً للحياة الحقيقية الدائمة التي لا انقطاع لها.
ويتألّف الإيمان بالمعاد من شقّين أساسيين:
أ) قبول الموت والاعتقاد به: فقد قال اميرالمؤمنين (عليه السلام): «أَما وَاللَّه، إِنَّهُ لیمْنَعُنی مِنَ اللَّعَبِ ذِکرُ الموت»[24]، إنّ استحضار هذه الحقيقة الكبرى يضع الإنسان أمام مسؤوليته الوجودية، ويجعله أكثر وعيًا لغاية حياته.
ب) العمل الصالح للأخرة: وهو الثمرة الطبيعية للإيمان بالموت وما بعده؛ إذ إنّ من أيقن أن الدنيا ممرّ لا مقرّ، استعدّ للدار الآخرة بزادٍ من الطاعات والأعمال الصالحة.
ويمكن غرس هذه المفاهيم في نفوس الأطفال بصورة إيجابية من خلال أمثلة واستعارات حيّة؛ كالتأمل في تعاقب الفصول الأربعة وكيف يحيي الله الأرض بعد موتها، أو تأمل البذرة التي تبدو بلا حياة ثم تنبت بإذن الله، او يمكن الاستعانة بتشبيه الحياة برحلة قطار من البصرة الى كربلاء، حيث تمثل المقصورة التي نستقلها الدنيا المؤقتة، وأما المحطة النهائية فهي الآخرة، ففي هذا المسير هل نركز نحن على داخل المقصورة وانه كيف نعيش فيها وماذا نأكل بها؟! ام نركز على المقصد الذي سنصل اليه وندخر مواردنا للمقصد ونهيئ المسكن اللازم للعيش في المقصد؟! فبهذه الأمثلة البسيطة يمكن إيصال هذه الحقائق وتبديد التوتر الذي يحيط بالحديث عن الموت، وبناء عقيدة واضحة تجعل مسيرة الإنسان في الحياة خالية من اللهو والعبث.
لكن في ظل العولمة والانغماس الواسع للأطفال والشباب في الفضاء الإلكتروني، بات كثير منهم يقضي معظم وقته في اللعب واللهو، حتى ليخيّل للناظر أن هذه هي غاية حياتهم، مع أن الانشغال المفرط بهذه الأمور يصرف القلب عن الاستعداد للحياة الحقيقية الباقية، تلك التي وصفها القرآن الكريم بقوله: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُون».[25]
ومن المشكلات الأخرى المرتبطة بضعف الرؤية الأخروية، الخوف الشديد والاضطراب من الموت أو من فقد الأحبّة؛ إذ تشير الإحصاءات إلى أن ما بين 50% إلى 75% من كبار السن يعانون من قلق وخوف تجاه الموت، وهذا يدلّ على عدم تشكّل الفهم العميق لمعنى المعاد، والحاجة إلى إعادة بناء هذه الرؤية في نفوسنا وفي نفوس أبنائنا.
إنّ هذه المعتقدات لا تقتصر آثارها على الجانب المعرفي والفكري فحسب، بل تنعكس بعمق على سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي، فتوجّه قراراته، وتحدّد سلم أولوياته، وتصنع طريقة تعاطيه مع الحياة بأسرها.
وأما في ساحة كربلاء، فإنّ القاسم بن الحسن (عليه السلام) يمثّل نموذجًا نادرًا للرؤية الأخروية الراسخة في قلب فتى لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، ولم يبلغ الحلم بعد، وكان سيفه يخط الأرض من صغر سنّه. ومع ذلك، فإنّ موقفه ليلة عاشوراء يكشف عن عمق إيمانه ونظرته البعيدة إلى الحياة والآخرة.
فقد جمع الإمام الحسين (عليه السلام) أهله وأصحابه في تلك الليلة، وخاطبهم قائلًا: «يَا أَهْلِي وَشِيعَتِي اتَّخِذُوا هَذَا اللَّيْلَ جَمَلًا لَكُمْ وَانْجُوا بِأَنْفُسِكُمْ فَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ غَيْرِي وَلَوْ قَتَلُونِي مَا فَكَّرُوا فِيكُمْ فَانْجُوا بِأَنْفُسِكُمْ»، فقالوا اخوته وأهله وانصاره: «لا تركناك أبدا.. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنُصْرَتِكَ وَشَرَّفَنَا بِالْقَتْلِ مَعَكَ»، حين سمع القاسم (عليه السلام) هذا الحوار، فكأنه ساوره القلق من أن يُحرم في الغد من شرف نصرة الإمام، وأن يُستشهد الجميع ويبقى هو حيًّا، فتوجّه إلى عمّه قائلًا: «يَا عَمِّ وَأَنَا أُقْتَلُ؟!»، فأشفق الامام عليه وقال له: «يَا ابْنَ أَخِي كَيْفَ الْمَوْتُ عِنْدَك؟» قَالَ: «يَا عَمِّ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ»، قَال (عليه السلام): «إِي واللَّهِ فَذَلِكَ أَحْلَى لَا أَحَدٌ يُقْتَلُ مِنَ الرِّجَالِ مَعِي أَنْ تَبْلُوَ بَلَاءً عَظِيماً».[26]
وفي نقل أخر قال له الامام الحسين (عليه السلام): «يَا وَلَدِي أَتَمْشِي بِرِجْلِكَ إِلَى الْمَوْتِ؟» فقال له القاسم (عليه السلام): « وَكَيْفَ يَا عَمِّ وَأَنْتَ بَيْنَ الْأَعْدَاءِ وَحِيدًا غَرِيباً، رُوحِي لِرُوحِكَ الْفِدَاءُ، وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْوَقَاء».[27] إنّ هذه الكلمات الصادرة من فتى في ربيع عمره تمثّل أرقى صور الرؤية الأخروية التي ينبغي أن يتربّى عليها المؤمنون، وهي الرؤية التي تجعل الموت في سبيل الله أسمى من متاع الدنيا، وأحلى مذاقًا من كل لذائذها. ومن واجب الآباء أن يسعوا لغرس هذه العقيدة في نفوس أبنائهم، حتى ينشأوا على إدراك حقيقة الدنيا، والاستعداد للحياة الأبدية التي أعدّها الله لعباده المخلصين.
الصفة الرابعة: جعل الولایة لصاحب الزمان (عج) محوراً أساسیاً للفكر والسلوك
تُعدّ الإمامة والولاية من أصول الدين الخمسة التي يجب أن يعتقد بها المؤمن الشيعي اعتقادًا راسخًا، فقد قال اميرالمؤمنين (عليه السلام): «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[28]، من أعظم الوظائف التربوية الملقاة على عاتق الوالدين، أن يعلّموا أبناءهم هذا الأصل المحوري، وأن يغرسوا في قلوبهم حبّ الإمام ومعرفته، لتكون ولايته محور الفكر والسلوك في حياتهم.
ويتحقق ذلك من خلال أربعة محاور:
أوّلها: معرفة امام الزمان من أولى الواجبات في عصر الغيبة الكبرى هو التعرف على شخصية الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بجميع أبعادها، وتعميق المعرفة به، وأنه حي يرزق، ويطلع على أعمال الناس، وأنه إمام هذا العصر والزمان الذي نعيش فيه، وأنه حجة الله على خلقه، وما هي صفاته.
وقد وصف الإمام الرضا (عليه السلام) مقام الإمامة وصفًا بليغًا يجلّي عظمة هذا المنصب الالهي، فقال (عليه السلام): «الْإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ الْمُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَمِ وَهِيَ فِي الْأُفُقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارُ، الْإِمَامُ الْبَدْرُ الْمُنِيرُ وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ وَالنُّورُ السَّاطِعُ وَالنَّجْمُ الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى وأَجْوَازِ الْبُلْدَانِ وَالْقِفَارِ وَلُجَجِ الْبِحَارِ الْإِمَامُ الْمَاءُ الْعَذْبُ عَلَى الظَّمَإِ وَالدَّالُّ عَلَى الْهُدَى وَالْمُنْجِي مِنَ الرَّدَى الْإِمَامُ النَّارُ عَلَى الْيَفَاعِ الْحَارُّ لِمَنِ اصْطَلَى بِهِ وَالدَّلِيلُ فِي الْمَهَالِكِ مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ الْإِمَامُ السَّحَابُ الْمَاطِرُ وَالْغَيْثُ الْهَاطِلُ وَالشَّمْسُ الْمُضِيئَةُ وَالسَّمَاءُ الظَّلِيلَةُ، الْإِمَامُ الْأَنِيسُ الرَّفِيقُ وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ وَالْأَخُ الشَّقِيقُ وَالْأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَة...»[29]، إنّ معرفة الإمام والارتباط به تمثّل ضمانةً من الانحراف والضلال، واستقامةً على طريق الحق، لنا ولأبنائنا، كما نقرأ في الدعاء: «فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي»[30]، ومن هنا، فإنّ على الوالدين أن يصحبوا أبناءهم إلى المجالس الحسينية، وزيارات العتبات المقدسة، والمواكب المباركة، لينقلوا إليهم هذه المعرفة، ويعمّقوا فيهم الولاء لصاحب زمانهم (عجّل الله فرجه الشريف)، حتى تكون معرفة وولاية أهل البيت (عليهم السلام) هي الركيزة التي يقوم عليها فكرهم وسلوكهم.
وعندما نتأمّل في أطفال عاشوراء، نُدهَش من المعرفة العميقة التي كانوا يحملونها تجاه إمام زمانهم، الإمام الحسين (عليه السلام). ومن أروع النماذج «عمرو بن جنادة الأنصاري»، ذلك الفتى الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره. فبعد استشهاد أبيه في المعركة، توجّه إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يستأذنه في القتال، فقال الامام (عليه السلام): «هذا شابّ قتل أبوه (في المعركة) ولعلّ امّه تكره خروجه»، فقال الولد: «إنّ أمي هي التي أمرتني بذلك»، فأذن له الإمام (عليه السلام)، فانطلق عمرو إلى ساحة الوغى، وهو يرتجز أبياتًا تعبّر عن معرفته الراسخة بإمامه وارتباطه العميق به: «
أَمِيرِي حُسَيْنٌ وَنِعْمَ الْأَمِير --- سُرُورُ فُؤَادِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ
عَلِيٌّ وَ فَاطِمَةُ وَالِدَاهُ --- فَهَلْ تَعْلَمُونَ لَهُ مِنْ نَظِير
له طلعة مثل شمس الضحى --- له غرّة مثل بدر منير»[31]
إنه مشهد مهيب لطفل، في قلب معركة ضارية، لا يكتفي بأن يقاتل قتال الأبطال، بل يصدح بشعر ينبض بولائه، ويكشف عن بصيرة نافذة ومعرفة واعية بإمامه، تُترجم إلى استعدادٍ تام لبذل الروح فداءً له.
ثانيها: الاطاعة التامة للإمام (عليه السلام): الامام هو مفترض الطاعة في كل ما يأمر به ولايجوز مخالفته، فقد قال الامام الباقر (عليه السلام): «ذِرْوَةُ الْأَمْرِ وَسَنَامُهُ وَمِفْتَاحُهُ وَبَابُ الْأَشْيَاءِ وَرِضَا الرَّحْمَنِ الطَّاعَةُ لِلْإِمَامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أَمَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَحَجَّ جَمِيعَ دَهْرِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ وَلَايَةَ وَلِيِّ اللَّهِ فَيُوَالِيَهُ وَيَكُونَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ بِدَلَالَتِهِ إِلَيْهِ مَا كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ حَقٌّ فِي ثَوَابِهِ وَلَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَان».[32]
وفي واقعة عاشوراء، نجد أنّ أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته كانوا نموذجًا للطاعة الكاملة في كل ما يأمر به. وفي تتمّة قصة عمرو بن جنادة الأنصاري، نتخذ أمه مثالًا بليغًا في ذلك؛ فبعد استشهاد ابنها، جُزَّ رأسه ورُمي به إلى معسكر الإمام الحسين (عليه السلام). فحملت الأم الثكلى رأس ولدها، وقالت بثبات: «أحسنت يا بُنيّ، يا سرور قلبي ويا قرّة عيني»، ثم رمت برأسه رجلًا من الأعداء فقتلته، وأخذت عمود خيمتها واندفعت نحو القوم، فضربت رجلين فقتلتهما.
ولكن عندما أمرها الإمام الحسين (عليه السلام) أن ترجع إلى الخيمة، أطاعته على الفور[33]، رغم أن قلبها كان مشتعلًا بحرقة الفقد، ومثقلًا بمصاب الزوج والولد، وممتلئًا بالنفور من الظلم الذي جرى على يد الأعداء. لقد رجعت لمجرّد أن أمرها الإمام، ولو كان ذلك على خلاف رغبتها.
وفي زمن الغيبة، تأخذ طاعة الإمام لونًا آخر، يتمثّل في طاعة الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، والأخذ بتعاليمهم، والعمل بما أمروا به، لتبقى هذه الطاعة صلةً حيّةً بين المؤمن وإمامه، وإن حُجِب عن عينه.
ثالثها: نصرة الامام (عليه السلام): النصرة هي الإعانة على تحقيق الغاية، وضدّها الخذلان، وهي قد تكون باللسان، أو بالمال، أو باليد والنفس، أو حتى بالتقوى، وذلك بحسب طبيعة القضية ودرجة حساسيتها وخطورتها. يقول الله تعالى: «فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»[34]، إنّ الفلاح الحقيقي هو لمن نصر الله ووليّه، وسار في ركابه. ولذا يجب أن تكون النصرة -بمختلف صورها- جزءًا راسخًا من حياتنا وحياة أبنائنا، كما نقرأ في الدعاء: «وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِينِكَ وَلَا تَسْتَبْدِلْ بِي غَيْرِي».[35]
ومن أبلغ مصاديق نصرة الإمام من أطفال كربلاء، ما ورد في سيرة «محمد بن أبي سعيد بن عقيل»؛ إذ تروي المصادر أنّه لما صرع الحسين ( عليه السلام ) وهجم القوم على الخيم للسّلب وتصايحت النّساء خرج غلام مذعور وبيده عمود من تلك الأبنية يلتفت يمينا وشمالا فشدّ عليه فارس فضربه بالسّيف فقتله، فسئلت عن الغلام، فقيل: محمد بن أبي سعيد بن عقيل له من العمر سبع سنين لم يراهق.[36]
ويبدو من شدّة صغر سنّه أنّه لم يتعلم فنون القتال بعد، وكان مذعورًا من هول المصيبة التي حلّت بالحسين (عليه السلام) وأصحابه ونسائهم، ولكنه لم يحتمل أن يبقى مكتوف اليدين، بل اندفع بما استطاع، حاملاً عمودًا، ليذود عن إمامه ويدافع عنه، فكانت شجاعته الصغيرة أكبر من سنّه. ولكن الأعداء لم يطيقوا رؤية حتى هذا القدر من النصرة من طفلٍ صغير، فواجهوه بالقتل.
ومثل هذا الموقف نجده في كلمات القاسم بن الحسن (عليه السلام) حين سأله الإمام عن الموت فقال: «في نصرتك أحلى من العسل». إنها كلمة تختصر المعنى السامي للنصرة، ذلك الهدف الذي إذا استقرّ في القلب، استطاع أن يغيّر المعادلات، ويجعل بذل الروح أمرًا هيّنًا إذا كان في سبيل الإمام الحق.
رابعها: التضحية والايثار بالنفس في سبيل الامام: تُمثّل التضحية بالنفس أسمى وأعمق مظاهر تجلّي وارتكازية الولاية في الفكر والسلوك؛ فإذا بلغ المؤمن هذه المرحلة، كان ذلك دليلًا على وصوله إلى أقصى درجات المعرفة والارتباط بوليّ الله.
ومن أبهى النماذج على ذلك من أطفال كربلاء، «عبد الله بن الحسن»، ذلك الفتى الذي لم يتجاوز التاسعة أو العاشرة من عمره. فقد روي أنّه حين أحاط الأعداء بالإمام الحسين (عليه السلام) من كل جانب، اندفع عبدالله —وهو غلام لم يراهق— حتى وقف إلى جانب عمّه. فأسرعت السيدة زينب (عليها السلام) لتحبسه وتحميه من أيدي القوم،، فقال لها الامام الحسين (عليه السلام): «احْبِسِيهِ يَا أُخْتِي»، فَأَبَى وَ امْتَنَعَ عَلَيْهَا امْتِنَاعاً شَدِيداً وَقَالَ: «وَاللَّهِ لَا أُفَارِقُ عَمِّي»، فأهوى (بحر بن كعب) الى الامام الحسين (عليه السلام) بالسيف، فقال له عبدالله بن الحسن: « وَيْلَكَ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ أَ تَقْتُلُ عَمِّي؟» فضربه العدو بالسيف، فاتقاه عبدالله بن الحسن بيده ليحمي عمه الحسين (عليه السلام)، فقطعها حتى تدلت على جلده، فأخذه الامام (عليه السلام) وضمّه الى صدره وقال (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ اصْبِرْ عَلَى مَا نَزَلَ بِكَ وَاحْتَسِبْ فِي ذَلِكَ الْخَيْرَ فَإِنَّ اللَّهَ يَلْحَقُكَ بِآبَائِكَ الصَّالِحِين»[37]، إنّه مشهد مهيب لطفل، في وسط الدماء والضغوط وأهوال المعركة، لا يكتفي بالدفاع عن إمامه، بل يتقدّم بثقة وشجاعة ليؤثر بنفسه فداءً له، فيجعل حياته ثمنًا لحماية وليّ الله، غير آبهٍ بما سيصيبه، موقنًا بأنّ التضحية في هذا المقام هي أرقى ما يقدّمه المؤمن.
والسيدة رقية مسك الختام لأطفال كربلاء، تعدّ من أعظم النماذج التي جسّدت التضحية في سبيل الإمام، وكان لها دور بالغ في حفظ رسالة دم سيد الشهداء (عليه السلام) وإيصالها إلى العالم. يقول (يحيى بنِ عِمْرَانَ الْحَلَبي)[38]: أُتِيَ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) إِلَى يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَسْرَى فَجَعَلُوهُمْ فِي بَيْتٍ، وَ وَكَّلُوا بِهِمْ قَوْماً مِنَ الْعَجَمِ لَا يَفْهَمُونَ الْعَرَبِيَّةَ. فَقَالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ: «إِنَّمَا جُعِلْنَا فِي هَذَا الْبَيْتِ لِيَهْدِمَ عَلَيْنَا فَيَقْتُلَنَا فِيهِ.» فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِلْحَرَسِ بِالرَّطَانَةِ: «تَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ النِّسَاءُ؟ يَقُلْنَ كَيْتَ وَكَيْتَ.»
فَقَال الْحَرَسُ: « قَدْ قَالُوا إِنَّكُمْ تَخْرُجُونَ غَداً وَتُقْتَلُونَ»،
فَقَال عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): « كَلَّا، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ». ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ يُعْلِمُهُمْ بِلِسَانِهِمْ.[39] فكان يزيد قد دبّر لقتل الامام السجاد (عليه السلام) والأسارى من أهل البيت في تلك الخربة التي كان جدرانها يمكن ان تتحطم عليهم في كل لحظة وتودي بحياتهم، ولكن دموع واشتياق صغيرة الحسين (عليها السلام) كان سبباً في دفع هذا البلاء عن امام زمانها السجاد (عليه السلام). وفق بعض المصادر كانت السيدة رقية (عليها السلام) تعلم باستشهاد ابيها[40] ولكنها كانت تبكيه شوقاً وحنيناً ليلاً ونهارا، ولعلّ هذا الاشتياق الخاص والخالص لامام زمانها الذي اودى بحياتها وهو الذي منحها هذه المنزلة الخاصة عند الله سبحانه حتى صارت باباً لقضاء حوائج المؤمنين.
فلقد ذكر في التاريخ أنه كانت تبكي لفراق أبيها ليلها ونهارها، فرأته ليلة في النوم، فلما استيقظت جزعت جزعاً شديداً وقالت: «ايتوني بوالدي، قرة عيني»، وكلما أراد أهل البيت إسكاتها ازدادت حزناً وبكاءاً، ولبكائها هاج حزن أهل البيت(عليه السلام)، فأخذوا في البكاء ولطموا الخدود، وحثوا على رؤوسهم التراب ونشروا الشعور وقام الصياح، فسمع يزيد صيحتهم، فيظهر هنا أنّ رقية (عليها السلام) ليس فقط ببكائها أفاق يزيد من نومته بل هي ببكائها تسببت ببكاء وجزع جميع أهل البيت الذين كانوا بالخربة فلذا اصبح صوت بكاء يخاف منه بحيث افاق يزيد.
وحين أمر يزيد -لعنه الله- أن تُؤتى برأس أبيها إليها، لم تذكر الطفلة ما لاقته من جوع وعطش وضرب وسياط وتعذيب منذ استشهاد أبيها، بل انصبت كلماتها على ما أصابه هو، قائلة: «يا أبتاه من ذا الذي خضبك بدمائك؟ يا أبتاه من ذا الذي قطع وريدك؟ يا أبتاه من ذا الذي أيتمني على صغر سني؟ يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟...يا أبتاه من بعدك واخيبتاه من بعدك واغربتاه، يا أبتاه ليتني لك الفداء، يا أبتاه ليتني هذا اليوم عمياء، يا أبتاه ليتني توسدت التراب ولا أرى شيبك مخضباً بالدماء!» ثم وضعت فمها على فم الشهيد المظلوم، وبكت حتى غشي عليها، فلما حركوها فإذا هي قد فارقت روحها الدنيا فارتفعت أصوات أهل البيت بالبكاء فلم ير في ذلك اليوم إلّا باك وباكية.[41] فلمّا رأوا أهل البيت ما جرى عليها أعلنوا بالبكاء واستجدّوا العزاء.[42] ويظهر من التاريخ أنّ السيدة رقية (عليهاالسلام) بدموعها وجزعها واشتياقها وتضحيتها لامام زمانها صنعت ثورة وحدثاً غيّر المعادلات وأربك خطط العدو وحفظ رسالة دم الحسين (عليه السلام)، فبلغت رسالته إلى العالم، وظلت ذكراها منارًا للولاء والإخلاص عبر الأجيال.
إنّ الوقوف على سيرة أطفال كربلاء ليس مجرّد مرور على ذاكرة التاريخ، بل هو قراءة واعية في مدرسة متكاملة للتربية الإيمانية والإنسانية. لقد جسّد هؤلاء الفتية، بأعمارهم الصغيرة وقلوبهم الكبيرة، أرقى مراتب محورية الله تعالى في الحياة، وعمق الإيمان بالمعاد والرؤية الأخروية، وثبات الولاية والطاعة والنصرة للإمام الحق، وذروة التضحية والإيثار في سبيله. وهذه القيم ليست شعارات عابرة، بل مبادئ حيّة، متجسّدة في مواقف عملية، استطاعت أن تغيّر مسار الأحداث، وتحفظ رسالة الحسين (عليه السلام) حيّة في ضمير الأمة.
لقد قدّم القاسم، وعمرو، ومحمد، وعبد الله، ورقية، وحميدة، وغيرهم، نماذج خالدة لأطفال تربّوا في أحضان الإيمان، فكانوا أبطالًا في ساحات الوغى، ورسلًا صادقين لرسالة عاشوراء، حتى بعد استشهادهم أو أسرهم. ومن خلالهم نفهم أنّ بناء شخصية الطفل على هذه القيم الأربع يضمن تكوين جيل يمتلك البوصلة الصحيحة، فيعرف وجهته في الحياة، ويحسن التعامل مع تحدياتها، ويقدّم الغالي والنفيس في سبيل الحق.
وفي عالمنا المعاصر، حيث تتكالب المغريات، وتتشابك المؤثرات الثقافية والإعلامية، يصبح من أوجب الواجبات على المربّين والآباء أن ينقلوا هذه القيم إلى أبنائهم، لا بوصفها قصصًا للتأثر العاطفي فحسب، بل كمناهج عملية للحياة. فمحورية الله تضمن نقاء الغاية، والإيمان بالمعاد يرسّخ الهدف النهائي، والولاية والطاعة تضبط المسار، والتضحية والإيثار تمنح الاستعداد لتحمّل الثمن.