مساعي الجمهوريين عزل بايدن في مجلس النواب
الخلفيات والحسابات والآفاق
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
2023-09-21 07:30
وجّه رئيس مجلس النواب الأميركي، كيفين مكارثي، في 12 أيلول/ سبتمبر 2023، اللجان المختصة في المجلس للبدء في إجراء تحقيقات بشأن إذا ما كانت هناك أرضية للمضي قُدمًا في إجراءات عزل الرئيس جو بايدن من منصبه، بذريعة ارتكابه مخالفات أو تكسّبه من المعاملات التجارية الأجنبية لابنه هانتر[1]، وذلك كردٍ، على ما يبدو، على التّهم القانونية الموجهة إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وفي حالة لمساواته بالرئيس بايدن. وينفي البيت الأبيض وبايدن هذه التّهم، ويعتبرانها مسيّسة في محاولة من مكارثي لإرضاء الجناح اليميني المتشدد في حزبه، وحرف الأنظار عن عجز النواب الجمهوريين عن التوافق على حزمة إنفاق إضافية نهاية هذا الشهر لتمويل الحكومة الفدرالية حتى نهاية العام[2]، ما يهدد بإغلاق أبواب الوزارات. ومن المعروف أن إدارة بايدن لا تتطرق إلى المحاكمات القضائية التي يتعرض لها ترامب.
طبيعة الاتهامات وإشكالاتها
يتّهم الجهوريون بايدن بأنه وفّر غطاء لابنه هانتر لإجراء صفقات تجارية خارجية، وتحديدًا في أوكرانيا والصين، أو استفاد هو نفسه منها أثناء شغله منصب نائب الرئيس باراك أوباما في الفترة 2009-2017[3]. وعلى الرغم من أنه لا توجد دلائل تؤيد هذه المزاعم، فإن الجمهوريين يقولون إن بايدن كان قد التقى ببعض شركاء هانتر التجاريين خلال تلك الفترة، واصطحبه معه عدة مرات على الطائرة المخصصة لنائب الرئيس في رحلات رسمية إلى الخارج، التقى خلالها ابنه بشركاء تجاريين أجانب.
ويعتمد الجمهوريون في ذلك على شهادة أحد شركاء هانتر، أكدت أن بايدن حضر حفلتَي عشاء مع ابنه وشركائه في واشنطن، وقبِل أيضًا دعوته إلى حضور مكالمات هاتفية مع شركاء تجاريين أجانب، على مدى عشر سنوات، لكن لم تُناقَش في أيّ من هذه اللقاءات أعمال وصفقات تجارية، بل تطرقت إلى قضايا هامشية مثل حالة الطقس وصيد الأسماك[4]. ومع أن هانتر حاول إعطاء انطباع مفاده أنه يملك تأثيرًا في والده، فإنه لا يوجد ما يؤكد أن الأب كان متواطئًا عن وعيٍ وتخطيط في ذلك[5].
لا شك في أن هذه المسألة تمثّل إحراجًا سياسيًا لبايدن[6]، إلا أنه لا دليل على أنها تتضمن خرقًا للقانون. وأقصى ما يمكن أن يُساق ضد بايدن هنا تصريحان سابقان له. الأول في عام 2019 عندما قال إنه "لم يناقش قطّ" و"لم يتحدث البتّة" مع ابنه بشأن تعاملاته التجارية. والثاني في عام 2020، خلال مناظرة رئاسية، عندما قال إن هانتر لم يكسب مالًا في الصين[7]. وهما الأمران اللذان ثبت عدم صحتهما، ولكنهما لا يثبتان، في المقابل، أنه كذب في شأنهما، فلا دليل على الأول، وفي الثاني قد يكون بايدن جاهلًا بتلك المعلومة حينها.
ويقول الجمهوريون أيضًا إن بايدن وابنه تلقّى كل واحد منهما خمسة ملايين دولار رشوةً من شركة "بوريسما" Burisma الأوكرانية التي كان هانتر أحد أعضاء مجلس إدارتها. وتعود تلك التهمة إلى وثيقة لمكتب التحقيقات الفدرالي، في عام 2020، تشير إلى مزاعم في هذا الصدد مصدرها أحد المخبرين. إلا أن مكتب التحقيقات الفدرالي قرر عدم التعامل مع ذلك الزعم لانعدام دليل يدعمه. فضلًا عن أن رئيس شركة بوريسما، ميكولا زلوتشيفسكي، أكّد من قبل أمام لجنة الرقابة في مجلس النواب أنه لم يكن للشركة أيّ تواصل أو عمل مع جو بايدن أو أيٍّ من مساعديه[8].
ويسوق الجمهوريون اتهامًا آخر ضد بايدن، حيث تقول لجنة الرقابة النيابية إن لديها سجلات بقيمة عشرين مليون دولار لمدفوعات من مصادر أجنبية لأفراد في عائلة بايدن وشركائهم التجاريين. إلا أن تحقيقًا أجرته صحيفة واشنطن بوست خلص إلى أن سبعة ملايين دولار فقط ذهبت إلى أفراد في عائلة بايدن، أغلبها لابنه هانتر، ولم يذهب أيٌّ منها إلى جو بايدن، ولا يوجد أيّ دليل على أنها غير قانونية[9].
أما التهمة الرابعة فتتمثل في زعم الجمهوريين أن بايدن قام خلال عمله نائبًا للرئيس بالضغط على أوكرانيا لإقالة كبير المدّعين العامين، فيكتور شوكين، بهدف حماية شركة بوريسما وابنه من تحقيقات محتملة بالفساد. وكما في التّهم الأخرى السابقة، فإنه لا يوجد دليل يثبت ذلك، بل العكس هو الصحيح؛ إذ إن إدارة أوباما كانت قد خلصت في ذلك الوقت إلى أن شوكين لم يفعل ما يكفي لمحاربة الفساد، بما في ذلك عدم توجيهه تهمًا ضد شركة بوريسما. وأيّد الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي إقالة شوكين على هذه الخلفية. وقد وجد تحقيق أجراه الجمهوريون أنفسهم، في عام 2020، أن الدبلوماسيين الأميركيين اعتبروا تورط هانتر مع بوريسما "محرجًا جدًا"، في حين كانوا يدفعون بأجندة مكافحة الفساد[10]. ولم يشر التحقيق الجمهوري السابق إلى أيّ دليل على ارتكاب بايدن، بصفته نائبًا للرئيس، مخالفات.
حسابات الجمهوريين وهواجسهم
يتسبب إصرار الجمهوريين المتشددين في مجلس النواب على المضي قُدمًا في مسار عزل الرئيس، على الرغم من انعدام أدلة قانونية دامغة تدينه، في القلق لدى زملاء آخرين لهم، خصوصًا الذين فازوا في الانتخابات النصفية الأخيرة، في عام 2022، في دوائر انتخابية فاز بها بايدن في عام 2020[11]. ويخشى هؤلاء معاقبة ناخبيهم لهم إن اتضح أن بايدن يُستهدف لأسباب سياسية، وهو ما قد يكلّف الجمهوريين أغلبيتهم البسيطة في مجلس النواب في الانتخابات القادمة. ويتمتع الجمهوريون بأغلبية بسيطة في المجلس (222 جمهوريًا مقابل 212 ديمقراطيًا)، وحتى يمر أيّ تشريع أو قرار فلا بد من أن يحصل على 218 صوتًا. ويخشى كثير من الجمهوريين، خصوصًا في مجلس الشيوخ، أيضًا أن إجراءات عزل الرئيس المشحونة إعلاميًا ستحرف انتباه الناخبين في الانتخابات العامة عن أزمات إدارة بايدن والديمقراطيين، وتحديدًا الاقتصاد والتضخم، إضافة إلى القلق حول صحة بايدن وكبر سنه، حتى بين الديمقراطيين[12].
وهذا تحديدًا ما دفع مكارثي إلى دعوة اللجان المختصة في مجلس النواب إلى فتح تحقيقات بشأن إذا ما كانت هناك أرضية قانونية لعزل بايدن، ولم يدع كامل مجلس النواب للتصويت على ذلك، كما تعهّد من قبل، إذ إنه لا يملك 218 صوتًا لإعطاء طابع رسمي للتحقيقات. ويأمل مكارثي أن تسفر تحقيقات اللجان عن دليل يمكن على أساسه إقناع النواب المتشككين في حزبه لنيل دعمهم للبدء في إجراءات عزل بايدن في مجلس النواب[13].
وعلى الرغم من الشكوك التي تكتنف العملية برمّتها، فضلًا عن إجراءات العزل لن ينتج منها "إقالة" الرئيس في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون (51-49)، حيث يحتاج قرار الإقالة في مجلس الشيوخ إلى تصويت ثلثي الأعضاء (67 من أصل 100)، فإن مكارثي قرر أن يأخذ المجازفة التي قد تكون مكلفة له ولحزبه الجمهوري[14]، نتيجة إصرار الأعضاء اليمينيين في حزبه، الذين يحتاج إلى دعمهم بشدة للبقاء في رئاسة المجلس، على المضي قدمًا في إجراءات عزل الرئيس، ولأن التراجع عن ذلك الآن سيُنظر إليه على أنه هزيمة للجمهوريين وأن القضية برمّتها كانت مسيّسة[15].
إضافة إلى ذلك، كان لضغوط الرئيس السابق ترامب دور في الضغط على مكارثي وأعضاء جمهوريين آخرين لإطلاق إجراءات عزل بايدن[16]، في سلوك انتقامي تجاه محاولات الديمقراطيين عزله عندما كان رئيسًا[17]. وكذلك اعتقاد الجمهوريين بإمكانية تشتيت تركيز بايدن وحملته، تمامًا كما يحصل مع ترامب وحملته[18]، من جراء لوائح الاتهام الجنائية التي يواجهها. وإذا حصل أن تواجه بايدن وترامب مرة ثانية في الانتخابات القادمة، فسيغدو الناخب أمام مرشحَين تعرّض كلاهما لمحاولة عزل وهما في الرئاسة.
حسابات الديمقراطيين وهواجسهم
يسعى الديمقراطيون للإضاءة على انقسام الجمهوريين وبيان عجزهم عن التوصل إلى اتفاق حول تمويل الحكومة إلى نهاية العام، وهو الأمر الذي ينبغي أن يكتمل قبل نهاية أيلول/ سبتمبر الحالي. وكذلك استغلت حملة بايدن إعلان مكارثي لتحشيد الديمقراطيين خلف رئيسهم ولجمع التبرعات، مقدّمةً إياه على أنه هدف لحملة جمهورية متشددة، وتحديدًا من حركة "فلنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" MAGA التي يتزعمها ترامب[19]. وتسعى حملة بايدن الرئاسية إلى توظيف محاولات عزله في مجلس النواب لإحياء جوهر حملته الرئاسية في عام 2020، بأنه مرشح الاستقرار ضد الفوضى والتطرف ومحاولات تسميم الديمقراطية الأميركية وتعطيلها، التي يمثلها ترامب وتياره في الحزب الجمهوري. ويريد الديمقراطيون جعل انتخابات عام 2024 استفتاءً على شخص ترامب وتصرفاته والتّهم الجنائية التي يواجهها، بدلًا من التركيز على سجل بايدن في الحكم.
وعلى الرغم من أن الديمقراطيين لا يخشون إقالة الرئيس، إذ إنهم يسيطرون على مجلس الشيوخ، فإن هذا لا يُلغي الهواجس التي تساورهم من محاولات عزله في مجلس النواب، فهي على الأقل ستسهم في هزِّ صورته. ويدرك الديمقراطيون أيضًا أن عدم التصدي للرواية التي يحاول الجمهوريون ترسيخها عن بايدن، باعتباره مسؤولًا فاسدًا، يمكن أن تصبح هي السائدة. ويأخذ الديمقراطيون والبيت الأبيض وحملة بايدن الرئاسية في اعتبارهم أن التحقيق في عزل الرئيس يأتي في لحظة سياسية هشّة بالنسبة إليه، إذ إنه يعاني تراجعًا في التأييد الشعبي له.
إضافة إلى ذلك، فإن قرار "المحقق الخاص"، ديفيد فايس، المسؤول عن متابعة قضايا قانونية تخص ابن الرئيس بايدن، هانتر، توجيه اتهامات جنائية له فيما يتعلق بالكذب لشراء سلاح ناري في عام 2018، بعد يوم واحد فقط من إطلاق تحقيقات في إجراءات عزل الرئيس في مجلس النواب، ضاعفت خشية بايدن ومساعديه من أن تشكّل ضغطًا سياسيًا كبيرًا على إدارته وتسهم في استنزافها في مواجهة طلبات لجان التحقيق في مجلس النواب، التي قد تشمل عائلة بايدن كذلك.
أمام هذه التحديات، بدأ البيت الأبيض في الاستعداد لعملية عزل محتملة للرئيس في مجلس النواب، منذ آب/ أغسطس الماضي، مستلهمًا استراتيجية اتبعها الرئيس الأسبق بيل كلينتون، الذي تعرّض هو الآخر لإجراءات عزل أواخر تسعينيات القرن الماضي. وتقوم هذه الاستراتيجية على الفصل بين مسار التصدي لإجراءات العزل وبين العمل المستمر للإدارة بهدف عكس صورة من الاستقرار في تسيير شؤون الحكم. وفي هذا السياق، شكّل البيت الأبيض في الأسابيع الماضية فريقًا يضمّ عشرين محاميًا وموظفًا متخصصًا في التشريع، ومستشاري اتصالات لتنفيذ هذه الاستراتيجية. وتستفيد إدارة بايدن من ميزة أساسية، إذ إنه، على عكس عمليتَي عزل ترامب في عامي 2019 و2021، لا دليل بعد على إساءة بايدن استخدام السلطة.
خاتمة
لا يمكن الجزم بمدى تأثير إجراءات عزل بايدن في الانتخابات الرئاسية في عام 2024، إذ إن استطلاعات الرأي غير حاسمة في هذا السياق. فقد وجد استطلاع للرأي أجرته فوكس نيوز، منتصف آب/ أغسطس 2023، أن 40 في المئة من الناخبين الأميركيين يعتقدون أن بايدن فعل شيئًا غير قانوني في قضية ابنه، إلا أن الغالبية لم ترَ ذلك[20]. وأشار استطلاع آخر للرأي أجرته صحيفة وول ستريت جورنال، أواخر آب/ أغسطس، إلى أن غالبية الأميركيين (52 في المئة) لا تؤيد إجراءات عزل بايدن[21]. وأظهر استطلاع للرأي أجرته سي إن إن، أواخر آب/ أغسطس الماضي كذلك، أن 61 في المئة من الأميركيين يعتقدون أن بايدن متورط إلى حد ما في تعاملات ابنه التجارية، غير أن 42 في المئة فقط قالوا إنه تصرَّف على نحو غير قانوني. وبحسب الاستطلاع نفسه، لا تعتقد غالبية المستقلين (61 في المئة) أن بايدن فعل شيئًا غير قانوني، على الرغم من أن 64 في المئة لا يستحسنون عمله رئيسًا[22]. أما استطلاع YouGov الذي جاء بعد يوم واحد (13 أيلول/ سبتمبر) من إعلان مكارثي إطلاق تحقيقات حول بايدن بهدف عزله، فقد وجد أن 45 في المئة من الأميركيين يؤيدون التحقيق، في حين عارضه 40 في المئة، وقال 41 في المئة إن دوافعه سياسية بهدف إحراج الرئيس[23].
وعلى الرغم من أن أحد أهداف محاولة عزل بايدن هو مساواته بترامب أمام الناخبين من حيث تُهم الفساد، فإن استطلاعات الرأي تُظهر أن الاثنين ليسا سواء في محكمة الرأي العام، إذ إن غالبية الأميركيين تعتقد أن ترامب ارتكب جرائم عدة تستحق الإدانة، ولكن هذا لا ينطبق على بايدن[24].