الرؤية الثورية للاقتصاد الكنزي؟
حاتم حميد محسن
2015-07-12 10:28
ان الفكرة الجوهرية لدى هذه المدرسة الفكرية هي ان تدّخل الحكومة يمكنهُ إحداث الاستقرار الاقتصادي.
اثناء الكساد الكبير في الثلاثنات من القرن الماضي، لم تكن النظرية الاقتصادية السائدة قادرة على توضيح اسباب الانهيار الاقتصادي العالمي الخطير ولا على توفير حل سياسي عام يكفي لدفع عجلة الانتاج والاستخدام الى الامام.
الاقتصادي البريطاني جون مايرند كنز قاد ثورة في التفكير الاقتصادي قلبت الفكرة السائدة آنذاك والقائلة بان حرية الاسواق تحقق الاستخدام الكامل بشكل اوتوماتيكي – بمعنى، كل شخص يبحث عن عمل سيجدهُ طالما تبقى هناك مرونة لدى العمال في طلب الاجور. النقطة الاساسية في نظرية كنز، والتي حملت اسمه، هو الادّعاء بان الطلب المتراكم (الكلي) – المتمثل بمجموع إنفاق كل من ارباب المنازل والشركات والحكومة – هو القوة ذات الاهمية البالغة في الاقتصاد. لاحقا ادّعى كنز ان الاسواق الحرة لا تمتلك اية آلية للتوازن الذاتي بحيث تقود نحو الاستخدام الكامل. الاقتصاديون الكنزيون يبررون تدّخل الحكومة عبر استخدام سياسات عامة تهدف الى تحقيق الاستخدام الكامل واستقرار الاسعار.
الفكرة الثورية
يرى كنز ان عدم كفاية الطلب الكلي يقود الى فترات طويلة من البطالة العالية. مخرجات الاقتصاد من السلع والخدمات هي عبارة عن مجموع اربعة عناصر: الاستهلاك والاستثمار ومشتريات الحكومة وصافي الصادرات (الفرق بين ما يبيعه البلد وما يشتريه من الخارج). اي زيادة في الطلب يجب ان تأتي من احد هذه العناصر الاربعة اعلاه. لكن اثناء الركود، تبرز قوى كبيرة تضغط على الطلب فيهبط نتيجة لهبوط الانفاق. فمثلا، اثناء الانحدار الاقتصادي تؤدي حالة عدم التأكد الى تآكل ثقة المستهلك، حيث تدفع المستهلكين الى تقليل انفاقهم، خاصة على السلع الاختيارية مثل البيوت والسيارات. هذا الانخفاض في الانفاق من جانب المستهلكين يؤدي الى القليل من الانفاق الاستثماري من جانب الشركات، التي بدورها تقلل الانفاق بسب قلة الطلب على منتجاتها. هذا سيضع مهمة زيادة المخرجات بالدرجة الاولى على اكتاف الحكومة. وطبقا للاقتصاديين الكنزيين، فان تدّخل الدولة ضروري لتخفيف التقلبات في الفعالية الاقتصادية والتي تُعرف بالدورة الاقتصادية.
هناك ثلاثة مبادئ في الوصف الكنزي لكيفية عمل الاقتصاد:
1- الطلب المتراكم يتأثر بالعديد من القرارات الاقتصادية – عامة وخاصة. قرارات القطاع الخاص يمكنها احيانا ان تقود الى نتائج عكسية للاقتصاد الكلي، مثل خفض إنفاق المستهلكين اثناء الركود. هذا الفشل في الاسواق يستدعي سياسات فعالة من جانب الحكومة، مثل حزمة محفزات في السياسة المالية. ولهذا، فان الاقتصاد الكنزي يدعم اقتصادا مختلطا مسترشدا اساسا بالقطاع الخاص لكنه جزئيا يُدار من قبل الحكومة.
2- الاسعار، وخاصة الاجور تستجيب ببطء للتغيرات في العرض والطلب، مما يؤدي الى تقلبات دورية في الفائض والنقص، خاصة في العمل.
3- التغيرات في الطلب المتراكم، سواء كانت متوقعة ام غير متوقعة، لها تأثيرها الكبير القصير الاجل على المخرجات الحقيقية والاستخدام، وليس على الاسعار. الكنزيون يعتقدون انه، وبسبب ثبات الاسعار نوعا ما، فان التقلبات في اي من عناصر الانفاق او الاستهلاك او الاستثمار او الانفاق الحكومي، تؤدي الى تغيير في المخرجات. اذا زاد الانفاق الحكومي، مثلا، وبقيت جميع عناصر الانفاق الاخرى ثابتة، عندئذ ستزداد المخرجات. النماذج الكنزية للفعالية الاقتصادية ايضا تضم تأثير (المضاعف) او المتعدد، هذا المضاعف يُستخدم كمقياس لحجم التغيير في الدخل القومي الناتج عن تغيير الانفاق، فاذا قامت الحكومة مثلا ببناء مطار بمليون دولار وادّى هذا العمل الاستثماري الى زيادة الدخل القومي بمقدار ثلاثة ملايين دولار، فهنا تكون قيمة المضاعف تساوي 3، بمعنى، ان المخرجات تتغير بمقدار اكثر من الزيادة او الانخفاض في الانفاق الذي أحدث التغيير.
كنز الاستاذ
الاقتصاد الكنزي اكتسب اسمه ونظرياته ومبادئه من الاقتصادي البريطاني جون مايرند كنز (1883-1946)، الذي اُعتبر مؤسس الاقتصاد الكلي الحديث. عمله الاكثر شهرة، (النظرية العامة للاستخدام والفائدة والنقود)، نُشر عام 1936. لكن عمله السابق (رسالة في النقود)، اُعتبرت اكثر اهمية للفكر الاقتصادي. حتى ذلك الوقت، كان الاقتصاديون يحلّلون فقط الظروف الثابتة. كنز، في الرسالة، خلق اتجاها ديناميكيا حوّل فيه الاقتصاد الى دراسة تدفّق الدخل والانفاق. وبذلك يكون قد فتح افقا جديدا في التحليل الاقتصادي.
في (النتائج الاقتصادية للسلام عام 1919، تنبّأ كنز بان الشروط المدمرة التي فرضتها معاهدة فرساي للسلام على المانيا لإنهاء الحرب العالمية الاولى ستقود حتما الى حرب اوربية ثانية.
هو تذكّر الدروس من معاهدة فرساي ومن الكساد الكبير، حين قاد المفاوضات البريطانية عام 1944 في مؤتمر بريتون وودز- الذي وضع القواعد لضمان الاستقرار في النظام المالي العالمي وسهّل اعادة بناء الامم التي دمرتها الحرب العالمية الثانية. والى جانب مدير الخزانة الامريكي هاري وايت، اُعتبر كنز الاب الفكري المؤسس لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين تمخّضا عن برتن وودز.
إحداث الاستقرار الاقتصادي
لا توجد وصفة سياسية تنطلق من هذه المبادئ الثلاثة وحدها. ما يميز الكنزيين عن الاقتصاديين الآخرين هو ايمانهم بان السياسات النشطة يمكنها تقليل خطورة وحجم الدورة الاقتصادية، التي يصنفونها المشكلة الأعظم اهمية من بين جميع المشاكل الاقتصادية.
لم ينظر كنز الى عدم التوازن في ميزانية الحكومة كشيء خاطئ، بل دعا الى ما سمي بـ"سياسات مالية مضادة للتقلبات" تعمل بالضد من اتجاه دورة الاقتصاد. فمثلا، الاقتصاديون الكنزيون يشجعون الانفاق بعجز على مشاريع البنية التحتية القائمة على كثافة العمل البشري وذلك لتحفيز الاستخدام وخلق حالة من الاستقرار في الاجور اثناء فترات الهبوط الاقتصادي. هم يطالبون بزيادة الضرائب لتهدئة الاقتصاد ومنع التضخم حينما تكون هناك وفرة في الطلب. السياسة النقدية يمكن استخدامها ايضا لتحفيز الاقتصاد – مثلا، عبر تخفيض اسعار الفائدة لتشجيع الاستثمار. الاستثناء يحصل فقط اثناء فخ السيولة، اي عندما تفشل الزيادة في حجم النقود في تخفيض اسعار الفائدة، ومن ثم لا يحصل اي نمو في المخرجات او الاستخدام.
جادل كنز بان على الحكومات ان تحل المشاكل في الاجل القصير بدلا من انتظار قوى السوق لتصحح الاشياء على المدى البعيد، لأننا كما ذكر "جميعنا سنموت في الاجل الطويل". هذا لا يعني ان الكنزيين يدعون الى تغيير السياسات كل بضعة شهور لإبقاء الاقتصاد في مستوى الاستخدام الكامل. في الحقيقة، هم يعتقدون ان الحكومات لا تعرف بما يكفي لعمل التغيير الناجح.
تطور الافكار الكنزية
مع ان افكار كنز حظيت بقبول واسع النطاق اثناء حياته، لكنها ايضا تعرضت للتمحيص والنقاش من جانب العديد من المفكرين المعاصرين. وبالذات جداله الرائع مع مدرسة النمسا للاقتصاد، التي اعتقد اتباعها ان الركود والنمو هما جزء من النظام الطبيعي وان تدخّل الحكومة يجعل عملية الانتعاش اكثر صعوبة.
سيطر الاقتصاد الكنزي على النظرية الاقتصادية وعلى السياسة بعد الحرب العالمية الثانية حتى السبعينات من القرن الماضي، حينما عانت العديد من الاقتصادات المتقدمة من التضخم وضعف النمو مجتمعين، وهي الحالة التي سميت بالركود التضخمي. شعبية النظرية الكنزية بدأت حينذاك بالخفوت لأنها لم تعرض سياسة ملائمة في مواجهة الركود التضخمي. الاقتصاديون النقديون شككوا بقدرة الحكومات على تنظيم الدورة الاقتصادية باستخدام السياسة المالية وجادلوا بان الاستخدام الحكيم للسياسة النقدية (السيطرة على عرض النقود للتأثير على اسعار الفائدة) يمكنه تخفيف الازمة. اعضاء من المدرسة النقدية ايضا اكّدوا على اهمية النقود في التأثير على المخرجات في المدى القصير لكنهم اعتقدوا ان سياسة التوسع النقدي في المدى البعيد تقود فقط الى التضخم. الاقتصاديون الكنزيون تبنّوا بشكل كبير هذه الانتقادات فأضافوا الى النظرية الاصلية تكاملا جيدا بين المديين القصير والطويل الاجل وفهماً لحيادية النقود في الاجل الطويل – اي ان تغيير عرض النقود يؤثر فقط على المتغيرات الاسمية في الاقتصاد، مثل الاسعار والاجور، ولن يكون له اي تأثير على المتغيرات الحقيقية، مثل الاستخدام والمخرجات.
الكنزيون والنقديون كلاهما خضع للتمحيص مع بروز مدرسة كلاسيكية جديدة في اواسط السبعينات. هذه المدرسة الكلاسيكية الجديدة ادّعت ان صناع السياسة هم غير كفوئين لأن الافراد المشاركين في السوق يمكنهم توقّع التغيرات في السياسة والتحرك سلفا لمواجهتها. الجيل الجديد من الكنزيين الذي برز في السبعينات والثمانينات جادلوا بانه حتى لو ان الافراد توقعوا بشكل صحيح، فان الاسواق التراكمية قد لا تستجيب بوقت واحد، ولذلك، ستبقى السياسة المالية فعالة في المدى القصير.
ان الازمة المالية العالمية للاعوام 2007-2008 خلقت انتعاشا في التفكير الكنزي. فكانت الاساس النظري للسياسات الاقتصادية في الاستجابة للأزمة من جانب عدة حكومات بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا. ومع اتساع ازمة الركود العالمية في اواخر 2008، كتب البروفيسور في جامعة هارفرد غرغري مانكيو في صحيفة نيويورك تايمز "لو اردنا الالتفات لاقتصادي واحد فقط في فهم المشاكل التي تواجه الاقتصاد، فلاشك ان ذلك الاقتصادي هو جون مايرند كنز". رغم ان كنز مات منذ اكثر من نصف قرن لكن علاجاته للركود والكساد لازالت تشكل الاساس في الاقتصاد الكلي الحديث. كتب كنز" الرجال التطبيقيون الذين يعتقدون انهم متحررون تماما من اي تأثير فكري، هم عادة عبيد لبعض الاقتصاديين الميتين". في عام 2008، لم نجد اي اقتصادي راحل اكثر لمعانا من كنز ذاته.
لكن ازمة عامي 2007-2008 كشفت ايضا عن ان النظرية الكنزية ستكون افضل لو دمجت بين طياتها دور النظام المالي. الاقتصاديون الكنزيون يصححون ذلك النقص بإحداث تكامل بين القطاعين الحقيقي والمالي للاقتصاد.