نهضة عربية جديدة؟ ليس مقدراً لها أن تكون حتى الآن
بعد عشر سنوات، أين تركت انتفاضات 2011 العالم العربي؟
مجموعة الازمات الدولية
2021-04-08 07:51
بقلم: جوست هيلترمان
بالوقوف في إحدى ساحات تونس، أو القاهرة، أو بنغازي، أو صنعاء أو المنامة في أوائل عام 2011، كان يمكن أن يُغفر للمرء اعتقاده بأن هذه التجمعات الجماهيرية البهيجة التي تشارك فيها الأسر بجميع أفرادها كانت نذير تغيير سلمي جذري في منطقة كانت في أمس الحاجة إليه، لكن نادراً ما شهدته. كان ذلك قبل أن يوجه الحكام المستبدون أسلحتهم نحو المتظاهرين، وقبل أن تندفع روسيا والقوى العربية المضادة للثورة لدعم نظام هرم لم يعد قادراً على الوقوف على قدميه، بينما تنحنحت القوى الغربية بأدب وهي تُعرض عما يحدث؛ وقبل أن تندفع إيران لاستغلال الفراغ السياسي الذي خلفه انهيار الدولة العربية. ومر وقت قبل أن تتحول وعود العاصفة الميمونة إلى أحلام باهتة أو إلى ما هو أسوأ بكثير، إلى كوابيس حية.
بعد عشر سنوات، أين تركت انتفاضات 2011 العالم العربي؟ على مدى قرن من الزمان، واجهت هذه المجموعة من الدول ما بعد العثمانية، التي تُوحِّدها بشكل أساسي اللغة وبعض التقاليد الثقافية المشتركة، مشاكل عميقة، ومزيجاً من الموروثات الاستعمارية والتناقضات المتولدة داخلياً. لقد وصفت هذه المشاكل ببعض التفصيل في مكان آخر. يكفي أن نقول هنا إنها أدت إلى أزمة شرعية متجددة يمكن للنخب الحاكمة السيطرة عليها طالما أنها توفر الأمن، والوظائف، والبنية التحتية والخدمات كجزء من عقد اجتماعي غير مكتوب.
دفعت الانتفاضات هذه الضغوط إلى الواجهة، وأجبرت من هم في السلطة على مواجهتها. لقد شكلت شرخاً، ليس في طبيعة أنظمة الدول، بل في كيفية رؤية العالم لها وكيفية مناقشتها من قبل الناس أنفسهم في المنطقة.
لهذا السبب، يمكننا القول إنه في حين أن كل شيء في المنطقة قد تغير بشكل لا رجعة فيه، فإن كل شيء - على الأقل في الدول التي ما تزال قائمة - يبقى تماماً كما هو.
حتى لو بدت فرص التغيير ضئيلة، فقد تيقظ الناس لقوتهم الكامنة، بينما تبقى الأنظمة الاستبدادية في المنطقة في مواقعها، رغم انتهاء مدة صلاحيتها منذ أمد بعيد.
يُعزى تمكن النظام القديم من البقاء لهذه المدة الطويلة جزئياً إلى المزيج الفعال الذي استخدمه والقائم على الإكراه والاستمالة، وجزئياً إلى ما يشير إليه العلماء باسم "نموذج الاستقرار"، والمتمثل في حسابات الدول الغربية، وروسيا وقوى الوضع الراهن الأخرى بأن أفضل ما يخدم مصالحها هو استقرار النظام العربي. بالنسبة للدول الغربية، كان الاستثمار في الاستقرار، قبل ثورات 2011، أفضل بكثير من تشجيع أي شيء يتجاوز التغيير السياسي التجميلي. لذلك حرصت على أن تبقى جهودها لتعزيز الديمقراطية، حتى عندما تكون مدعومة بالحوافز المالية، خطابية ورمزية إلى حد كبير.
لقد تحدّت الانتفاضات هذا النموذج؛ فهي لم تزعزع استقرار الأنظمة فحسب، بل زعزعت أيضاً فكرة أن استقرارها غير قابل للزعزعة.
ما حدث منذ عام 2011 هو أن الأنظمة العربية بدأت في إعادة بناء نفسها، وارتداء دروع جديدة للردع، وعند الضرورة، لمنع ظهور تحديات شعبية جديدة. في الوقت نفسه، بدأت القوى الغربية في إعادة تشكيل نموذج الاستقرار الذي تعتقد أنه خدمها كل هذا الوقت. فقد رأت ما يمكن أن ينتج عن الانهيار الممنهج -في شكل لاجئين وصعود جماعات جهادية ذات أهداف عابرة للحدود- ولذا فقد عملت على منع الاضطرابات الإقليمية من تقويض مجتمعاتها من خلال تكييف أنفسها ضمنياً من جديد مع الحكم الاستبدادي.
وهكذا فإن المنطقة عالقة في دائرة غير صحية لا يمكن الخروج منها إلا عبر قطيعة أكثر جذرية.
بالنسبة للأنظمة نفسها، فإن الاستقرار ليس وسيلة لتحقيق غاية، بل غاية في حد ذاته - إنه مرادف لإدامة حكمها. وترقى الوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الغاية إلى درجة متزايدة من القمع، حيث تفقد محاولات الاستمالة من خلال المحسوبية فعاليتها في مواجهة الاقتصادات المتعثرة، وفي بعض الحالات، الموارد المتناقصة.
ومع ذلك، فإن المأزق الظاهري يخلق معضلة. إذ لا يمكن للولاء للاستقرار كغاية في حد ذاته إلا أن يعجل بحلول النهاية الحتمية للاستقرار؛ إذ إن الضغط على غطاء طنجرة الضغط يعني الطلب من القوى المتراكمة تفجير الوعاء، في حين أن رفع الغطاء قليلاً فقط والسماح للوعاء بالتنفيس يعني دعوة جميع محتوياته إلى الفوران، مما يجعل من المستحيل إعادة الغطاء إلى مكانه. وهكذا، فإن أدنى تحرك نحو الإصلاح، بالنسبة لمعظم الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، قد يعرض بقاءها للخطر.
بغض النظر عما حدث في بلدان عربية بعينها، ورغم أن انتفاضات عام 2011 أفرزت مجموعة من النتائج، فإن المنطقة لم تشهد أي تغيير جوهري إلا في تصور الناس لما قد يكون ممكناً.
ربما كانوا يشكون في ذلك منذ فترة طويلة، لكنهم باتوا يعرفون الآن أن الإمبراطور لا يرتدي ثياباً؛ إنهم يرون القوة في عريّها الخام دون أي ملامح تزينها.
يرغم المشهد الثوريين المحتملين بينهم على إجراء حساباتهم الخاصة، أي الاستمرار بالتقدم أو التراجع بانتظار يوم أفضل؟ تتمحور الإجابة حول تكلفة العملية عليهم هم أنفسهم، وعلى أسرهم، وممتلكاتهم وسبل عيشهم، وكذلك على الاستقرار الاجتماعي.
أما التغيير الجوهري الدائم فسيتطلب مكونين لا غنى عنهما. الأول هو جمهور عازم تقوده طليعة متنوعة يمكنها التعبير عن الأمل وعن رؤية بديلة متماسكة تشمل مجموعة واسعة من الآراء وتدعو إلى المشاركة. والثاني، وإن كان بدرجة أقل، هو مجموعة من القوى الخارجية المتسامحة المستعدة للمراهنة على أن فوائد التحول في المنطقة ستفوق في النهاية التداعيات المتزايدة للحفاظ على وضعها الراهن. لكي يحدث التغيير، يجب أن تقنع الرؤية التي يطرحها قادة المعارضة أو المتظاهرون -وما يصاحب ذلك من إعادة تخصيص الموارد- النخب السياسية والأمنية التي تتخذ وضعية الحياد بالتخلي عن الأنظمة التي تشكل هذه النخب ركيزتها. وينبغي أن تقنع القوى الخارجية بعدم إبداء دعمها لحلفائها عندما يتم إخراجهم من السلطة.
هذه المكونات غير موجودة في المنطقة اليوم. فالناس الذين كانوا قد تجمعوا في الساحات مسجونون، أو مشتتون أو محاصرون في منازلهم؛ وكثيرون منهم محبطون، حتى لو إنهم باتوا يدركون إمكانياتهم. فقط في العراق، ولبنان والجزائر، نشهد احتجاجات متفرقة تبني على قاعدة اندلاعها في عام 2019 -بعد ثماني سنوات من أحداث 2011- وتبقى محدودة بسبب عمليات الإغلاق المرتبطة بالوباء. أما بالنسبة للعالم الخارجي، فهو يركز على هواجس أكثر إلحاحاً، ويبدو أنه يكتفي بتمني لو أن مشاكل العالم العربي تختفي وحسب. في غضون ذلك، تستمر في دعم قوى الاستقرار الظاهري القديمة والموثوقة وإن لم تكن محبوبة دائماً؛ رغم إن دعمها يكون على مضض في بعض الحالات أكثر مما يكون في بعضها الآخر.
كما أنه من غير المحتمل أن تظهر مكونات التغيير طالما أن المنطقة تتخللها خطوط صدع يمكن أن تعطل وتشوه أي حركة شعبية تحاول الاندماج والتوحد. لقد كان للصراع الإسرائيلي الفلسطيني هذا التأثير؛ والغضب الشعبي الناجم عن تطبيع إسرائيل للعلاقات مع حفنة من الدول العربية سيستمر في فرض هذا التأثير. وأدى بروز قوة إيران إلى تصلب دفاعات الأنظمة العربية، ودفعها إلى تحالفات جديدة (بما في ذلك مع إسرائيل)، ومنحها ذخيرة خطابية لمحاربة المطالب الشعبية بالتغيير. وكذلك الحال بشأن الخلاف حول دور الإسلام في الحكم، الذي تمت تسويته في الوقت الحالي في إيران ولكنه احتدم في الخليج العربي - خاصة بين قطر والإمارات العربية المتحدة، اللتان سمحت لهما قدراتهما المالية الكبيرة بنقل تنافسهما إلى معارك سياسية وأحياناً عسكرية في دول غير مستقرة في القرن الإفريقي وشمال أفريقيا، مثل الصومال وليبيا. (لقد تنافستا في وقت سابق أيضاً على دعم المتمردين في سوريا، مما أدى إلى اقتتال المتمردين فيما بينهم؛ لكن هذه المناورة انتهت فجأة بتدخل روسيا في أيلول/سبتمبر 2015، مما أقنعهما بأن استثمارهما في هذه الجماعات قد فقد القدرة على تحقيق الفوائد التي كانتا تسعيان إليها.
هذه الانقسامات العميقة، التي يتربط كل منها - بطريقته الخاصة - بجوهر هوية المنطقة، تقاوم التحول الجوهري الذي تحتاجه أنظمة الحكم المتصلبة بشدة فيها.
إذا أردنا أن نصدق خطاب الدولة السائد، فإن نظام مبارك في مصر كان يدافع عن نفسه، ليس ضد التحدي الشعبي للحكم الاستبدادي، بل ضد التطرف الإسلامي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين ومؤامرتها العالمية المفترضة. في غضون ذلك، اتهم النظام الملكي البحريني المتظاهرين في ساحة اللؤلؤة بأنهم عملاء إيرانيون عازمون على انتزاع الجزيرة -الخاضعة لوصاية المملكة العربية السعودية عبر الجسر- من صفوف العرب السنة. في العراق ولبنان، أصبحت المظالم الأصلية للمتظاهرين -استغلالهم من قبل نخب حاكمة ناهبة- يطغى عليها التنافس بين إيران وتحالف الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية.
لكل هذه الأسباب، وفي حين أننا قد نرى حالات أخرى من المعارضة الشعبية -والسجل منذ عام 2011 يثبت ذلك- فإن نشوء حالة من الإحياء العربي الحقيقي، بالمعنى الواسع للتحول الجوهري لكيفية حكم المنطقة، يظل أملاً بعيد المنال.