الاستبداد الليبرالي

بروجيكت سنديكيت

2018-05-03 06:52

YANIS VAROUFAKIS

 

لشبونة ــ كان من المسَلَّمات البديهية في المذهب الليبرالي أن الحرية ملكية ذاتية غير قابلة للتحويل أو المصادرة. فأنت ملكك الخاص. وكان بوسعك أن تؤجر نفسك لصاحب عمل لفترة محدودة، وفي مقابل سعر متفق عليه بينكما، لكن حقوق ملكيتك لنفسك لا يمكن شراؤها أو بيعها. وعلى مدار القرنين المنصرمين، كان هذا المنظور الفردي الليبرالي يضفي المشروعية على الرأسمالية كنظام "طبيعي" مأهول بوكلاء أحرار.

وكانت قدرة المرء على عزل جزء من حياته، والبقاء محتفظا بسيادته ودافعه الذاتي داخل هذه الحدود، مكونا أساسيا للمفهوم الليبرالي للوكيل الحر وعلاقته بالمجال العام. ولممارسة الحرية، كان الأفراد في احتياج إلى ملاذ آمن يمكنهم التطور داخله كأشخاص حقيقيين قبل أن يتواصلوا ــ ويتعاملوا ــ مع آخرين. وبمجرد تشكلها، كان المفترض أن تتعزز شخصياتنا الفردية بفِعل التجارة والصناعة ــ شبكات التعاون عبر ملاذاتنا الشخصية، والتي جرى بناؤها وتنقيحها لتلبية احتياجاتنا المادية والروحية.

لكن الخط الفاصل بين الشخصية الفردية والعالم الخارجي، والذي أقامت عليه الفردية الليبرالية مفاهيمها في ما يتصل بالاستقلالية وملكية الذات وفي نهاية المطاف الحرية، لم يكن من الممكن صيانته والحفاظ عليه. وقد ظهر أول خرق لهذا الخط عندما أصبحت المنتجات الصناعية الأولى عتيقة الطراز وحلت محلها ماركات وعلامات جديدة استحوذت على اهتمام الناس وإعجابهم ورغبتهم. وقبل أن تمر فترة طويلة، اتخذت عملية إبدال الوسم منعطفا جذريا أضفى على الأشياء "شخصية".

وبمجرد اكتساب الماركات لشخصيات (وهو الأمر الذي عزز بشكل كبير ولاء المستهلك، والأرباح تبعا لذلك)، شعر الأفراد بأنهم ملزمون بإعادة تصور أنفسهم كماركات أو علامات تجارية. واليوم، بعد أن أصبح الزملاء، وأصحاب العمل، والواشون، و"الأصدقاء" يعاينون حياتنا على الإنترنت بلا انقطاع، أصبحنا تحت ضغوط متواصلة تدفعنا إلى التطور باتجاه مجموعة من الأنشطة والصور والتصرفات التي ترقى إلى ماركة جذابة قابلة للبيع. والآن اختفت بالكامل تقريبا المساحة الشخصية الضرورية للتطور المستقل للذات الحقيقية ــ وهي الحالة التي تجعل ملكية الذات غير القابلة للتحويل ممكنة. وعلى هذا فقد بدأ موئل الليبرالية يتلاشى.

هذا التقسيم الواضح للموئل إلى مجالات خاصة وعامة يقسم أيضا أوقات الفراغ من العمل. ولا يجب أن يكون المرء منتقدا راديكاليا للرأسمالية لكي يدرك أن الحق في الاستمتاع بوقت حيث لا يكون المرء معروضا للبيع قد ولى أيضا وبات نسيا منسيا.

لنتأمل هنا الشباب في العالَم اليوم. في الأغلب الأعم، تنتهي الحال بأولئك الذين لا يمتلكون رصيدا ائتمانيا أو دخلا سخيا غير مكتسب إلى واحدة من فئتين. فأكثرهم يُحكَم عليهم بالعمل بموجب عقود لا تحدد ساعات العمل وأجور منخفضة إلى الحد الذي يجعلهم مضطرين إلى العمل طوال الساعات المتاحة لكي يتمكنوا من تغطية نفقاتهم، الأمر الذي يجعل أي حديث عن الوقت الشخصي أو الحيز الشخصي أو الحرية الشخصية مهينا وبغيضا.

أما بقيتهم فيقال لهم إنهم لكي يتمكنوا من تجنب الانزلاق إلى حالة من "عدم الاستقرار" المدمر للذات، يتعين عليهم أن يستثمروا كل ساعة يقظة كل يوم. وكأنهم في سجن من تصميم خاص يجعلهم تحت المراقبة بلا انقطاع، لا يمكنهم أن يختبئوا من أنظار أولئك الذين لا يرحمونهم من الانتقادات والضغوط (ولا يمكنهم التعرف على آخرين ربما يرحموهم). فقبل نشر أي مشاركة على تويتر، أو مشاهدة أي فيلم، أو مشاركة صورة أو رسالة دردشة، يتعين عليهم أن يظلوا منتبهين إلى الشبكات التي يريدون نيل رضاها أو إقصائها.

عندما يحالفهم الحظ بالقدر الكافي للحصول على الفرصة لإجراء مقابلة توظيف، يُلمِح القائمون على إجراء المقابلة على الفور إلى إمكانية الاستغناء عنهم. فيقال لهم: "نحن نريدك أن تكون صادقا مع نفسك، وأن تتبع شغفك، حتى وإن كان ذلك يعني اضطرارنا إلى تركك تذهب". وعلى هذا فإنهم يضاعفون جهودهم لاكتشاف "شغفهم" الذي قد يقدره أصحاب العمل في المستقبل، وتحديد موقع تلك الذات "الصادقة" الأسطورية التي يُنبئهم أولئك في مواقع السلطة بأنها قابعة في مكان ما داخلهم.

لا يعرف سعيهم حدودا ولا يحترم أي قيود. ذات يوم استخدم جون ماينارد كينز مثال مسابقة الجَمال لشرح استحالة معرفة القيمة "الحقيقية" للأسهم. فالمشاركون في سوق الأوراق المالية لا يهتمون بالحكم من هو أجمل المتسابقين. بل يستند اختيارهم بدلا من ذلك على التنبؤ بمن يعتقد الرأي المتوسط أنه الأجمل، وماذا يعتقد الرأي المتوسط أنه رأي متوسط ــ وبهذا تنتهي بهم الحال إلى وضع أشبه بهرة تطارد ذيلها.

تسلط مسابقة كينز للجمال الضوء على مأساة العديد من الشباب اليوم. فهم يحاولون التوصل إلى ما يعتقد الرأي المتوسط بين صانعي الرأي أنه الأكثر جاذبية في ذواتهم "الصادقة" المحتملة، ويناضلون في الوقت نفسه لاصطناع هذه الذات "الصادقة" على الإنترنت وخارج الإنترنت، في محل العمل وفي المنزل ــ في كل مكان وكل وقت في حقيقة الأمر. وقد نشأت صناعات كاملة من المستشارين والمدربين، وأنظمة إيكولوجية متنوعة من المواد وسبل المساعدة الذاتية، لإرشادهم وتوجيههم في مسعاهم هذا.

المفارقة العجيبة هنا أن النزعة الفردية الليبرالية انهزمت كما يبدو في موجهة الشمولية الاستبدادية التي ليست فاشية ولا شيوعية، بل نشأت من نجاح الفردية الليبرالية في إضفاء المشروعية على زحف عمليات الوسم وتحويل كل شيء إلى سلعة على حيزنا الشخصي. وربما يستلزم التغلب على هذه المفارقة، وبالتالي إنقاذ فكرة الحرية الليبرالية باعتبارها ملكية الذات، إعادة تشكيل شاملة لحقوق ملكية أدوات الإنتاج والتوزيع وآليات التعاون والتواصل التي أصبحت رقمية على نحو متزايد.

ألن تكون مفارقة رائعة إذا قررنا، بعد مرور مائتي عام على ميلاد كارل ماركس، أننا لكي ننقذ الليبرالية يتعين علينا أن نعود إلى فكرة مفادها أن الحرية تستلزم إنهاء تلك العملية الجامحة من تحويل حقوق ملكية السلع الرأسمالية إلى سلعة وإضفاء الطابع الاجتماعي عليها؟

* يانيس فاروفاكيس، وزير المالية الأسبق في اليونان وأستاذ علوم الاقتصاد بجامعة أثينا
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

لماذا لا يدفعون الثمن؟التنفيذ المركزي واللامركزي في العراق.. التخصيصات الاستثمارية مثالاًالتفكيرُ عراقيَّاًفكرة المشروع الحضاري في المجال العربي.. التطور والنقدالإرهاب الصامت