فلسفة الخطوة الحسينية: لماذا تسير الملايين؟ وماذا يكتشفون في درب الأربعين؟
شبكة النبأ
2025-08-09 05:13
في كل عام، ومع اقتراب أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، يتجدد مشهدٌ يهزّ الوجدان، وتتدفق الملايين من البشر من أقاصي الأرض، لا تلويها مسافات، ولا تثنيها صعاب، نحو بقعةٍ من الأرض قدسها التاريخ، كربلاء. هي مسيرةٌ ليست كأي مسيرة؛ لا سباقٌ فيها، ولا غايةٌ دنيويةٌ ظاهرة، بل تتقاطع فيها الطرق، وتتحد فيها القلوب، وتتآخى فيها الأرواح في دربٍ يمتد أميالاً طويلة.
لكن هل فكرنا يوماً، ما سر هذا المد البشري الهادر؟ ما الذي يدفع هذه الحشود الجبارة إلى ترك بيوتها ومشاغلها، لخوض غمار هذه الرحلة المتعبة أحياناً، المتعبة بالجسد، ولكنها المريحة للروح؟ وهل هي مجرد طقوس تُؤدى، أم تجربةٌ عميقةٌ تكشف عن كنوز مخفية في أعماق النفس البشرية على درب الأربعين هذا، الذي بات أيقونةً للتضحية وشعلةً للقيم الإنسانية؟ وما الذي يكتشفه كل زائر في هذا المسير، وما هي الأبعاد التي تتجاوز المشي لتلامس أعماق الوجود الإنساني؟
امتداد لخط الأنبياء
إن المسير الأربعيني ليس وليد اليوم، بل هو امتدادٌ وتجسيدٌ حيٌّ لروح المقاومة والتضحية التي حملها الأنبياء والأوصياء عبر العصور. الحسين (عليه السلام) هو وارث الأنبياء حقاً، وثورته هي تتويجٌ لمسيرة الأنبياء في مقارعة الظلم وإقامة العدل. هذا الدرب، الذي سار فيه الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه شهداءَ إلى الله، أصبح بعد استشهاده محطاً للزيارة التي بدأت مع الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري في أول أربعين، لتُرسّخ بذلك تقليداً يربط الأجيال المتعاقبة بنبض الثورة الحسينية. المسير اليوم هو إحياء لذاكرة الأمة، وتأكيد على هويتها التي لا تنفصل عن قيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، وهو ليس مجرد ذكرى، بل هو تجديد للعهد بأن الظلم لن ينتصر مهما طال الزمان.
سيكولوجية المشي نحو اليقين
المشي لمسافات طويلة في درب الأربعين ليس مجرد حركة جسدية، بل هو عملية نفسية وروحية عميقة. التعب الجسدي الذي يختبره الزائر غالبًا ما يتحول إلى نوع من التحرر الروحي، تصفية للذهن، وفرصة للتأمل في أعماق الذات. إنه تمرين للصبر، وتجسيد لمعنى التضحية، وربط وجداني مباشر بين الزائر ومعاناة الإمام الحسين (عليه السلام) في سبيل الحق. كثيرون يجدون في هذه الرحلة نوعًا من العلاج الروحي والنفسي، متنفسًا للتغلب على ضغوط الحياة وتحدياتها الشخصية، كأنها رحلة تطهير ذاتي تُعيد ترتيب الأولويات وتُجدد الطاقات. مع كل خطوة، تتجلى الروابط الإنسانية في أبهى صورها، حيث تتشارك الأرواح تجربة جماعية فريدة تُنسج منها ذكريات قوية تدوم مدى الحياة.
من وحي أهل البيت: عظمة المسير وفضله
لقد أولى أهل البيت (عليهم السلام) أهمية بالغة لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، مؤكدين على عظيم فضلها وأجرها. فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في فضل زيارته: من أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً، كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة". هذا الحديث الشريف ليس مجرد حثٍ على المشي، بل هو إشارة إلى القيمة الروحية والتحول الداخلي الذي تحدثه هذه الخطوات في نفس الزائر. إنه تأكيد على أن كل جهد يُبذل في هذا الدرب يُثمر تقرباً إلى الله تعالى وتطهيراً للروح. الزيارة المليونية ليست مجرد تجمع بشري، بل هي تجسيد للآلاف من الأرواح التي تسعى لتغذية إيمانها من نبع كربلاء، مستلهمة من الإمام الحسين (عليه السلام) قيم الثبات على الحق، والتضحية من أجل المبادئ السامية، ومقارعة الظلم.
مدرسة القيم: أبعاد إيجابية على الفرد والمجتمع
العمق الروحي والفردي: المسير رحلة داخلية للتأمل والتفكر، تتيح فرصة لمراجعة الذات والتطهّر، وتجديد العلاقة مع الله تعالى. ينمّي في الزائر صبرًا وتجلدًا وعزيمةً، ويعلمه قيمة المثابرة. يكتشف دروساً في الإيثار، والعطاء، والتواضع، والتآخي، وهي قيمٌ مستلهمةٌ من سيرة سيد الشهداء.
التكافل الاجتماعي اللامحدود: تتجلى في هذا المسير أسمى صور التكافل الإنساني؛ فالمواكب الحسينية، بإدارة شعبية تطوعية غير مسبوقة، تقدم الطعام والشراب والمأوى والخدمات الطبية مجانًا للزوار. هذا المشهد، الذي يُعرف بـ "اقتصاد الكرم"، يدحض النظريات الاقتصادية التقليدية القائمة على الربح، ويُثبت أن العطاء اللامحدود يمكن أن يخلق نظامًا مستدامًا ومتكاملًا لإدارة الملايين دون تدخل مركزي كبير.
وحدة تتجاوز الحواجز: تتلاشى الفروقات الاجتماعية والطبقية والقومية والمذهبية، ليتحول الجميع إلى "خادم" أو "زائر"، في علاقة إنسانية نقية تتجاوز الأدوار التقليدية. يعزز المسير الشعور بالوحدة والتضامن بين المشاركين، ويؤكد على أن المبادئ المشتركة أقوى من أي اختلافات سياسية أو اجتماعية.
بعد تربوي وتكويني للشباب: المسير يعتبر منصة تربوية عملاقة لبناء الشخصية، وغرس قيم الشجاعة، والعدالة، ورفض الظلم في نفوس الشباب والأطفال منذ الطفولة. يشارك الأجيال الصاعدة بفاعلية في الخدمة والتنظيم، مما يصقل قدراتهم القيادية ويعزز حس المسؤولية لديهم، ويعلمهم قيمة العطاء غير المشروط.
دبلوماسية شعبية عالمية: يمثل الأربعين شكلاً فريداً من الدبلوماسية الشعبية، حيث يجمع شعوباً من مختلف الأجناس والأديان والمذاهب، متجاوزاً خلافات السياسات والحكومات، ليجسد وحدة إنسانية عالمية. تنتقل رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) الإصلاحية إلى العالم أجمع، مؤكدة على قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، بعيداً عن أي تسييس أو تحريف مقصود.
إن المسير الأربعيني يمثل ظاهرة إنسانية فريدة، ومعجزة تنظيمية، ومدرسة قيمية متنقلة، تتجاوز حدود الزمان والمكان. إنه ليس مجرد طقس، بل هو نبض متجدد يغذي الروح ويعلم الدرس، ويثبت أن الإيمان الراسخ بالقيم قادر على تحقيق المستحيل.
وبناءً على هذه القراءة المتعمقة، نوصي بـ:
1. التوثيق الشامل والعلمي: ضرورة توثيق هذه التجربة الفريدة من جميع جوانبها (الاجتماعية، الاقتصادية، الأمنية، النفسية، الفنية) من خلال البحوث الأكاديمية والدراسات الميدانية، وتقديمها للعالم بمنهجية علمية، لتكون نموذجاً يُحتذى به في إدارة الحشود والتكافل المجتمعي.
2. تعزيز البعد التربوي: استثمار الأبعاد التربوية العميقة للمسير بشكل منهجي في المناهج التعليمية والأنشطة الشبابية، لترسيخ قيم الحسين (عليه السلام) في الأجيال الناشئة.
3. تفعيل الدبلوماسية الشعبية: دعم الجهود الرامية لتعزيز التواصل بين هذه المسيرة والشعوب الأخرى، من خلال توظيف الإعلام الرقمي والتقليدي بشكل احترافي، لنقل الصورة الحقيقية للحدث بعيداً عن التسييس والتحريف.
4. بناء منصات تفاعلية: إنشاء منصات رقمية متعددة اللغات تتيح للزوار والمشاركين حول العالم مشاركة قصصهم وتجاربهم، مما يعمق الأثر الإنساني والمعرفي للزيارة.
5. التفكير في الاستدامة: وضع خطط مستقبلية تضمن استدامة نقاء وعفوية المسيرة مع تزايد أعداد الزوار، مع الحفاظ على روح العطاء والتطوع التي تميزها.
إن فلسفة الخطوة الحسينية تكمن في أنها ليست نقطة نهاية، بل هي نقطة انطلاق في مسيرة متجددة من التزود الروحي والفكري والاجتماعي، مسيرة تبرهن للعالم أجمع أن الإيمان بالقيم السامية يملك القدرة على تحريك الجبال وتوحيد القلوب وإحياء الضمائر.