تنمية رأس المال البشري ودورها في تحقيق السلم المجتمعي حوار مع الباحث مصعب صالح كاظم
أوس ستار الغانمي
2025-08-09 05:09
في ظل التحديات العميقة التي يعيشها العراق منذ عقدين، بات الحديث عن السلم المجتمعي ليس ترفاً أكاديمياً بل ضرورة وطنية، تتطلب فهماً معمقاً لأسباب تفكك النسيج الاجتماعي، وأدوات إعادة بنائه. ضمن هذا الإطار، شكّلت رسالة الماجستير الموسومة "رأس المال البشري وتحديات السلم المجتمعي في العراق – دراسة اجتماعية ميدانية في مدينة بغداد" التي أعدّها الباحث مصعب صالح كاظم في قسم علم الاجتماع بكلية الآداب – جامعة بغداد، محاولة علمية جادة لفكّ الارتباط بين ضعف الاستثمار في الإنسان وبين تنامي التوترات المجتمعية.
من خلال هذا الحوار، نسلّط الضوء على أهم ما توصلت إليه الدراسة، ونسأل: كيف يُعرَّف رأس المال البشري في السياق العراقي؟ ما العوامل التي تقف عائقًا أمام تحقيق السلم المجتمعي في بغداد؟ وكيف يمكن للتعليم، والصحة، والعمل الجماعي، أن تتحول من شعارات إلى أدوات فعالة في تحقيق الاستقرار والتنمية؟
نقترب في هذا اللقاء من نتائج البحث، ونتناول خياراته المنهجية، ونناقش انعكاسات توصياته على السياسات العامة في العراق. كما نبحث، مع الباحث مصعب صالح، في حدود النظرية وقدرتها على تفسير واقع معقد كواقعنا، وإمكانية تحويل التحديات إلى فرص، في سبيل عراق أكثر عدالة وسلمًا واستقرارًا.
كيف تُعرِّف رأس المال البشري في سياق المجتمع العراقي؟ وهل يختلف هذا التعريف عن المفهوم العالمي؟
يُشكل رأس المال البشري أحد المحركات الأساسية للتنمية الشاملة، ويُعدُّ الاستثمار في الإنسان عن طريق التعليم والصحة والتدريب والتمكين وسيلة فعالة لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وقد بات واضحاً في المجتمعات الحديثة أن تحقيق السلم المجتمعي وثيق الارتباط بمقدار نجاعة السياسات التنموية في تعزيز القدرات البشرية، ولا يمكن فصله عنه، غير أن العراق -بعد عام 2003- واجه تحديات كبيرة في توظيف موارده البشرية بالشكل الأمثل، نتيجة للتداخل بين عوامل الفساد الإداري، والمحاصصة الطائفية، وهشاشة المؤسسات، وضعف الاستثمار في الموارد البشرية.
وقد أسهمت هذه التحديات في تقويض فرص السلم المجتمعي، وأدت إلى تصاعد مشاعر التهميش، واتساع فجوات الفقر والبطالة، وغياب العدالة في توزيع الخدمات والفرص. ومع تفاقم هذه المعضلات، برز سؤال جوهري حول مقدار قدرة العراق على تفعيل رأس ماله البشري لمواجهة التهديدات التي تطال نسيجه الاجتماعي.
أما بحسب سياق المجتمع العراقي، وهو لا يختلف كثيراً عن السياق العالمي فقط فيما يتعلق باختلاف بعض المتغيرات البسيطة؛ فهو مجمل المهارات والمعارف والمؤهلات التعليمية والخبرات الإنتاجية التي يمتلكها الأفراد في المجتمع العراقي، والتي تسهم في رفع مستوى التنمية البشرية وتعزيز قدرات الدولة على تحقيق السلم المجتمعي والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
ما هي أبرز التحديات التي تحول دون تحقيق السلم المجتمعي في بغداد تحديدًا؟
التحديات هي کل أمرٍ يقف أمام تحقيق الهدف، أو يُصعب مهمة تحقيقهِ، وهذا التعريف أن التحديات هي أمور تأتي بشكل جديد ويقوم المجتمع أو بعض الناس بالتصدي لها والتغلب عليها، وقد تكون هذه التحديات لمجتمع كامل أو مجاميع أو الأمم كلها.
إن الواقع العراقي، بما يعانيه من ضعف في نظم التعليم، وتدهور في الخدمات الصحية، وضعف في إدماج الشباب في سوق العمل، يمثل تحدياً جوهرياً أمام بناء رأسِ مالٍ بشري فاعل، وبالتالي، فإن غياب الاستثمار الحقيقي في هذا المجال لا يؤدي فقط إلى تراجع مؤشرات التنمية؛ بل يُسهم أيضاً في تفكك النسيج الاجتماعي وزيادة التوترات والصراعات المجتمعية، وهو ما يهدد السلم المجتمعي. إن تبني مقاربة شاملة تدمج بين الاستثمار في رأس المال البشري والتحديث الثقافي والمؤسسي، يمكن أن يمثل ركيزة أساسية لعملية إعادة بناء الدولة والمجتمع في العراق، ولا سيما إذا جرى التركيز على الفئات الأكثر تهميشاً من الشباب والنساء والنازحين، ودمجهم في برامج تنموية مستدامة.
كيف يمكن قياس العلاقة بين التعليم والسلم المجتمعي عمليًا؟ (في ضوء نتائج الفرضية الأولى في الدراسة).
توجد علاقة بين التعليم والمعرفة المجتمعية وبين تعزيز السلم المجتمعي في العراق. هناك نسبة كبيرة تعتقد أن تحسين جودة التعليم في العراق يؤدي إلى زيادة استقرار السلم المجتمعي، في حين يرى البعض عكس ذلك. هذا التباين، على الرغم من أنه يميل بوضوح نحو القناعة الجماعية بأهمية التعليم، فهو يسلط الضوء على وجود شريحة ليست قليلة ترى أن التعليم بمفرده قد لا يكون كافياً لتحقيق الاستقرار من دون توافر عوامل أخرى كالإصلاح السياسي أو العدالة الاقتصادية. وما يشير إلى ضرورة التعامل مع الملف التعليمي في العراق ضمن رؤية شمولية لا تقتصر على تطوير المناهج أو البنى التحتية فحسب؛ بل تمتد إلى ربط مخرجات التعليم بواقع المجتمع وسوق العمل. وبهذا، فإن هذه النتيجة تعكس إدراكاً عاماً بأهمية التعليم كأداة تنشئة اجتماعية تخلق أفراداً قادرين على التفاهم والانخراط السلمي في الحياة العامة، ولا سيما في مجتمع مرّ بتجارب حادة من العنف. فالتعليم هو الوسيلة الأهم للوقاية من الجريمة والانحراف والتطرف العنيف المزعز للسلم المجتمعي.
لماذا اختاريت المنهج الوصفي التحليلي والعينة القصدية؟ وما إيجابيات وسلبيات هذه الخيارات في سياق الدراسة؟
تُعد دراستنا "رأس المال البشري وتحديات السلم المجتمعي في العراق" من الدراسات التحليلية الوصفية التي هدفت إلى وصف الظاهرة قيد الدراسة لتشخيصها واستكشاف أعماقها، وإلقاء الضوء على جوانبها المختلفة، وجمع البيانات اللازمة عنها، وفهمها وتحليلها، من ايجابيات هذا النوع من الدراسات الوصفية التحليلية أنها تفسح المجال أمام الباحثين في وصف الظاهرة الاجتماعية قبل تحليلها، عن طريق استعراض خصائص تلك الظاهرة وميزاتها، وتناولها بشكل مُفصل ودقيق، ومن ثمَ تبويب البيانات والمعلومات التي جرى الحصول عليها علمياً لاستخراج النتائج منها، ولمعرفة ووصف كيفية تأثير رأس المال البشري على السلم المجتمعي ودوره في تعزيز السلم المجتمعي والتحديات التي تواجه السلم المجتمعي عن طريق انخفاض مؤشرات رأس المال البشري.
وبصورةٍ عامة فإنه لابد على كل باحث أن يقوم باستعمال المناهج التي تكون منسجمة مع مشكلة دراسته وهدفها وطبيعتها إن كانت هناك بعض السلبيات مثل صعوبة الوصول إلى الجهات المعنية وصعوبة جمع الاستمارات من بعض الدوائر والبطء الشديد في ملئها والتراخي في الوقت، وصعوبة إجراء المقابلات الميدانية.
كيف تفسر أن فرضية العمل الجماعي سجلت أقوى علاقة إحصائية (حسب النتائج)؟ هل يعكس ذلك خصوصية الثقافة العراقية؟
بالطبع بحسب ثقافة المجتمع العراقي فإن غياب التنسيق المؤسسي واعتماد العمل الفردي يؤثر بدرجة كبيرة أو كبيرة جداً في تعطيل خطط التنمية حسب غالبية اراء العينة، بينما يرى عدد أقل أن الأثر متوسط أو ضعيف. ترى الدراسة أن هذه النتيجة تسلط الضوء على ضعف الحوكمة المشتركة بين مؤسسات الدولة، وهو ما يؤدي إلى تكرار الجهود، وضياع الموارد، وتنازع الصلاحيات، مما ينعكس سلباً على مخرجات التنمية. وتستنتج الدراسة، أن تعزيز مبدأ العمل الجماعي بين المؤسسات عن طريق تبادل البيانات، والخطط، والرؤية الواحدة، يمثل خطوة جوهرية نحو التفعيل الحقيقي لأطر التنمية المستدامة.
ما حدود الاعتماد على نظرية التحديث كإطار نظري لتحليل واقع العراق؟ وهل هناك نظريات أخرى كانت ستقدم رؤى أكثر دقة؟
إن نظرية التحديث أساساً نظرية خطية مستقيمة، منطلقة من أن جميع المجتمعات البشرية يجب أن تسير وتتبع الخطوات نفسها أو النظام الذي سلكته المجتمعات المتقدمة سابقاً، ولا توجد خيارات أو مسارات بديلة، وعليه فإن تطوير رأس المال البشري في العراق يجب أن يعتمد على دعم الأبعاد المختلفة المؤثرة فيه؛ مثل التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وكل ما له دور مؤثر في تطوير رأس المال البشري وتنميتهِ، توضح كيف أن التحول من القيم التقليدية إلى القيم الحديثة يمثل شرطاً ضرورياً لتقدم المجتمعات، عبر تعزيز مؤشرات مثل التحضر، والمشاركة السياسية، ونمو الوعي المدني. هذه المفاهيم تؤكد أن الارتقاء برأس المال البشري لا يمكن أن يجري بمعزل عن مشروع تحديث اجتماعي شامل يعيد تشكيل المؤسسات والقيم الثقافية والسياسية بما ينسجم مع مفاهيم التنمية الحديثة.
إن نظرية رأس المال البشري لشولتز تقدم رؤى متقاربة عن الواقع العراقي مثل دعم التعليم والصحة، لكن لا يغفل دور نظرية التحديث في بعض جوانبها المهمة والتي تتلائم مع الواقع العراقي.
كيف يمكن ترجمة نتائج الدراسة حول دور الصحة النفسية في تعزيز الاستقرار (الفرضية الثانية) إلى سياسات عامة في العراق؟
إن الاستثمار في الصحة النفسية والجسدية هو رافعة للسلم المجتمعي، يشير هذا البُعد إلى تأثير صحة الأفراد على إنتاجيتهم وفعاليتهم في العمل. يُعتبر الاستثمار في الرعاية الصحية، سواء البدنية أو النفسية، جزءاً أساسياً من رأس المال البشري. يُبيّن خبراء اقتصاديات التنمية استمرار الارتباط الوثيق بين مستوى الدخل والصحة تحسين الصحة الجسدية والنفسية لجميع أفراد المجتمع يسهم بدرجة كبيرة أو كبيرة جداً في تقليل التوترات، ترى الدراسة أن هذا التوجه العام يشير إلى وعي عالٍ بأهمية الصحة النفسية كأداة وقائية ضد النزاعات، والقلق الاجتماعي، والعنف غير المنظور. تستنتج الدراسة، أن تحسين الخدمات الصحية لا يندرج فقط في إطار الحقوق الأساسية؛ بل يمثل حجر أساس في بناء السلم المجتمعي المستدام، ولا سيما في المجتمعات التي مرت بأزمات وحروب، مثل المجتمع العراقي. وتُظهر هذه النتائج دعماً ضمنياً لنظرية رأس المال البشري التي تؤكد أن الاستثمار في الصحة يعزز من قدرة الأفراد على التفاعل السلمي والمنتج مع بيئتهم. إن تحقيق الرفاه والوقاية من الأزمات الصحية للفرد العراقي ينعكس مباشرة على السلم المجتمعي في العراق. وتُعد العلاقة بين الصحة والتنمية علاقة متبادلة.
في ظل الأزمات الاقتصادية وانتشار البطالة، هل ترى أن استثمار رأس المال البشري أولوية أمام الحكومة العراقية؟ ولماذا؟
بالتأكيد؛ وذلك من خلال تضمين مكوّن "رأس المال البشري" كمحور مستقل في جميع استراتيجيات التنمية الوطنية وخططها، وربطه بمؤشرات السلم المجتمعي والعدالة الاجتماعية في العراق.
واعتماد آليات تنسيق فعّالة بين الوزارات والمؤسسات المعنية لتفادي التكرار وتعزيز التكامل في برامج تطوير الموارد البشرية. مراجعة وتحديث المناهج الدراسية في الجامعات والمعاهد التقنية لتتماشى مع متطلبات سوق العمل والتنمية المستدامة.
ودعم مشاريع التعليم المستمر والتدريب مدى الحياة لجميع الفئات، ولا سيما الفئات المهمشة والمناطق الطرفية. تبني برامج وطنية لتدريب وتأهيل العاطلين عن العمل والفئات الأقل حظاً، وربطها بمشاريع تنموية حقيقية في القطاعين العام والخاص. ودعم مراكز التدريب المهني في المحافظات وربط مخرجاتها بخطط إعادة الإعمار والتنمية المحلية. إعادة هيكلة مؤسسات الدولة لتعزيز التنسيق البيني والتقليل من البيروقراطية التي تُعيق تنفيذ برامج رأس المال البشري.
كذلك إطلاق استراتيجية شاملة لتطوير الكوادر الوظيفية، تُبنى على معايير الكفاءة والاستحقاق لا على الولاءات السياسية أو الطائفية. مراقبة آليات تمويل برامج التدريب والتأهيل وتوزيعها في المؤسسات الحكومية لضمان النزاهة والفعالية.
وأهمية محاربة الفساد الإداري الذي يُعد من أبرز المعيقات في تنمية رأس المال البشري، وتعزيز مبادئ الشفافية والمسؤولية المؤسسية. تبني سياسات تمكينية لرفع مشاركة المرأة في برامج التدريب والتطوير القيادي، كجزء من العدالة في تنمية رأس المال البشري.
دعم المبادرات المجتمعية التي تعزز مشاركة النساء في بناء السلام والتنمية المحلية. إطلاق حملات توعوية وطنية حول أهمية رأس المال البشري في التنمية والسلام الاجتماعي، بمشاركة الأكاديميين والقيادات المجتمعية.
توظيف وسائل الإعلام في تعزيز ثقافة العمل الجماعي والمهارات الرقمية وتقدير الكفاءات.
جميع ما ذكر يرفع من كفاءة رأس المال البشري وتقليص البطالة والركود الاقتصادي.
كيف يمكن معالجة الفجوات الاجتماعية الناتجة عن التفاوت في المهارات التقنية (الفرضية الرابعة) في مجتمع مثل بغداد؟
إن التعليم الحديث والتدريب المستمر يسهمان في تقليل الفوارق الاجتماعية، وبما يشير إلى قناعة عامة بأن تطوير الأفراد ضمن المؤسسات الحكومية يؤدي إلى نوع من المساواة داخل بيئة العمل، ويقلل من الفجوات المبنية على الولاء الشخصي أو الحزبي أو الفئوي. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذا الطرح يتسق مع دراسات سابقة حول العلاقة بين السلم والتنمية، والتي أكدت أن تعزيز الكفاءة داخل المؤسسات يخلق إحساساً بالعدالة ويحدّ من التوترات الطبقية. كوجهة نظر اجتماعية، إن هذا التصور قد لا ينعكس دائماً على أرض الواقع في العراق بسبب استمرار المحاصصة والتمييز الوظيفي في بعض الدوائر، إلا إن وجود هذه القناعة بين الموظفين يُعد مؤشراً إيجابياً نحو قبول فكرة التغيير القائم على الكفاءة.
هذه الفوارق لا تقتصر على مستويات الدخل، بل تمتد إلى مستويات التمكين والعدالة في الوصول إلى الفرص، ما يجعل إصلاح البنية المؤسسية ضرورة لتحقيق مبدأ الإنصاف والتنمية المتوازنة. وأن إصلاح المناهج لا يجب أن يقتصر على المحتوى المعرفي، بل ينبغي أن يشمل القيم المدنية، وتاريخ التعدد الثقافي، ومهارات التفكير النقدي، بما يعزز السلم المجتمعي من الجذور.
هل يُعتبر النزوح الداخلي (المذكور في مقدمة الدراسة) عائقًا أمام تنمية رأس المال البشري أم عاملًا يمكن تحويله إلى فرصة؟
يواجه العراق اليوم تحولات سياسية واقتصادية عميقة، وسط محاولات معالجة البطالة، والفقر، والنزوح، وأمن الحدود، مما يجعل من معالجة تحديات السلم المجتمعي أولوية وطنية، لا سيما في ظل التوجهات الحكومية والدولية نحو تنفيذ خطط التنمية المستدامة 2030، والتي تُعدُ تنمية الإنسان أحد أهدافها الأساسية. وتترتب عبى النزوح الداخلي تكاليف عالية؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية، لكن وبالرغم من ذلك ممكن تحويل التحديات إلى فرص من خلال إعادة دمجهم وتطوير المهارات وإعادة التأهيل للأفراد والاسر النازحة.
كيف يمكن توظيف الخطة التنموية 2030 (التي أشارت إليها الدراسة) لتعزيز السلم المجتمعي عبر رأس المال البشري؟
خطة التنمية الوطنية والخطة الاستراتيجية لوزارة التخطيط تشيران في أكثر محاورهما الأساسية إلى موضوع تعزيز رأس المال البشري ليكون أداة لعجلة التنمية الحقيقية، وتعتمد مرتكزات التنمية البشرية على مجموعة من الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والسياسية، انطلاقاً من أن الإنسان هو الغاية الأساسية لأي مشروع تنموي. ويقوم مفهوم رأس المال البشري على بُعدين رئيسين، هما:
الأول يتعلّق بمستوى نمو الإنسان في مختلف مراحل حياته، بوصفه مجموع لقدراته الجسدية والعقلية، إلى جانب ما يكتسبه من تنشئة اجتماعية ومهارات وقيم روحية.
أما البُعد الثاني، فيرتبط بكون تنمية رأس المال البشري عملية ترتبط باستثمار الموارد والمدخلات والأنشطة الاقتصادية، التي تُنتج الثروة وتُوفّر القاعدة الإنتاجية اللازمة لتطوير تلك القدرات البشرية.
رغم أهمية العنصر البشري، إلا إن مؤشرات الأداء ما تزال دون المستوى المطلوب، ولا سيما في مجالات التعليم النوعي، والتغطية الصحية الشاملة، والتمكين الاقتصادي والاجتماعي للمرأة والشباب، ولذا فإن دمج سياسات تنمية رأس المال البشري مع أهداف التنمية المستدامة 2030 ضرورة ملحة، لتحقيق تنمية شاملة.
وقد بات واضحاً في المجتمعات الحديثة أن تحقيق السلم المجتمعي وثيق الارتباط بمقدار نجاعة السياسات التنموية في تعزيز القدرات البشرية، ولا يمكن فصله عنه.
ما دور المؤسسات الدينية والعشائرية في العراق في تعزيز أو تقويض السلم المجتمعي، وهل تناولتها الدراسة؟
نعم هنالك دور كبير؛ حيث إن مستويات السلم لا تقتصر على مستوى واحد: المستوى الدولي والمستوى السياسي والمستوى الثقافي والديني والحضاري وبما يعني احترام التعدديات (الدينية والثقافية والحضارية).
ويُعد تماسك الجبهة الداخلية والانتماء الوطني الجامع بعيداً عن الانقسامات القبلية والطائفية من أهم العوامل التي تعزّز السّلم المجتمعي، وكذلك فإن مواجهة الولاءات الضيقة، ونبذ الانقسامات الدينية أو العرقية؛ يُسهم في ترسيخ الوحدة الوطنية وتقوية النسيج الاجتماعي في مواجهة التهديدات.
ما أكثر نتيجة في دراستك أثارت دهشتك؟ ولماذا؟
من النتائج المثيرة للاهتمام هي دور التدريب على المهارات الحياتية في تقليل التوترات والنزاعات داخل المجتمع، إذ أن 90% من المبحوثين يؤمنون بأهمية المهارات الحياتية في تقليل النزاعات والتوترات المجتمعية. وتُعد هذه من النتائج التي تدعم نظرية السلوك التفاعلي في علم الاجتماع، والتي تركز على أنماط الاتصال والتفاهم كأساس لخفض العنف المجتمعي. وترى الدراسة أن هذه النتيجة تسلّط الضوء على غياب هذا النوع من المهارات في منظومات التعليم والتدريب الرسمية، ما يفسر استمرار الكثير من الأزمات في العراق، على الرغم من وفرة المؤهلات الأكاديمية. وبدلاً من التركيز على الجانب المعرفي فقط، فإن دمج مهارات التواصل، والذكاء العاطفي، وحل النزاعات، وضبط النفس، سيكون له دور جوهري في الحد من العنف الرمزي والمباشر في المؤسسات والمجتمع ككل.
وكذلك أهمية الاستثمار في رأس المال البشري في التقليل من معدلات الجريمة وتعزيز السلم المجتمعي، إذ يسهم بدرجة كبيرة أو كبيرة جداً في تقليل الجريمة وتعزيز السلم. ترى الدراسة أن هذه النتائج تتسق مع الطرح السوسيولوجي الذي يرى في التهميش والبطالة والجهل أسباباً مباشرة للجريمة. وترى الدراسة، أن الاستثمار في الإنسان لا يخفف من الجريمة فقط لأنه يُشغل الأفراد؛ بل لأنه يعيد صياغة القيم والوعي القانوني لديهم، مما يخلق بيئة أكثر أماناً واستقراراً.
إذا أعدت البحث اليوم، هل ستغير في المنهج أو العينة؟ وما التعديلات المقترحة؟
بالطبع أن البحث العلمي في تطور مستمر ويجب مواكبة التطور والبحث العلمي محلياً وعالمياً، مما يستلزم وضع المنهج المناسب واختيار العينة المناسبة لذلك، غالباً المناهج البحثية لا تتغير بسهولة ولكن اختيار العينات يمكن اختيار الأنسب بناء على موضوع الدراسة بعد بناء خبرة واخذ تصورات عن هذا الموضوع، لذلك لو أعيدت الدراسة سوف نضع نظريات تكون أكثر حداثة وملائمة مع الواقع العرقي، وعمل مقابلات أثر تركيزاً مع شخصيات ذات تلامس مباشر مع هذا الموضوع وقد تكون في مناصب عليا وحساسة من الدولة.
كيف يمكن للباحثين في علم الاجتماع الاستفادة من نتائج دراستك لتصميم مشاريع تنموية على الأرض؟
يمكن ذلك منن خلال الاستفادة من نتائج التي توصلت لها الدراسة والاستفادة من الطرح النظري وكيف تم ربطه بالواقع العراقي ومن بعض النتائج والتوصيات التي وردت وكذلك منن مقترحات العناوين على سبيل المثال ("أثر التعليم المستمر والمهارات الرقمية في تعزيز التماسك المجتمعي في العراق: دراسة ميدانية في مؤسسات الدولة". "دور التنسيق المؤسسي في تعزيز فاعلية برامج رأس المال البشري لتحقيق التنمية المستدامة". "رأس المال البشري كمدخل لمواجهة النزاعات الطائفية والإثنية في العراق".)
هل هناك تجارب دولية ناجحة في ربط رأس المال البشري بالسلم المجتمعي (مثل رواندا أو جنوب إفريقيا) يمكن للعراق الاستفادة منها؟
نعم التجارب كثيرة ومتنوعة وبعضها يقترب من الواقع العراقي وبعضها يتشابه في بعض الجزئيات ويمكن للعراق الاستفادة منها، حقيقةً لم أطرح تجربة في الدراسة كون التجارب ذكرت في دراسات كثيرة ومتنوعة ومنشورة في أبحاث ومجلات، ولكن ذكرت بعض التجارب في مبحث الدراسات السابقة والتي تقترب من موضوع دراستنا.
كيف تقيم دور المنظمات الدولية (مثل الأمم المتحدة) في دعم أهداف بحثك؟ وهل كانت شريكًا فاعلًا أم هامشيًا؟
للأمم المتحدة والمنظمات الدولية دور رئيس وكبير في دعم السلم في دول العالم ودفع عجلة التنمية كونها مراقب لبناء السلام وإعادة تأهيل المجتمعات.
من الصعوبة ايصال البحوث والرسائل العلمية الى برامج الأمم المتحدة والمنظمات الدولية العاملة في العراق وصعوبة التواصل معهم، لكن لو تم فتح افاق للتعاون مع الباحثين ونتمنى ذلك في المستقبل سيسهم في دعم الأبحاث وتنفيذها على ارض الواقع خصوصاً فيما يتعلق بالتنمية وبناء السلام.
في ختام هذا الحوار المعمّق مع الباحث مصعب صالح كاظم، يتبيّن لنا حجم الترابط الوثيق بين تنمية رأس المال البشري وتحقيق السلم المجتمعي في العراق، لا سيّما في ظل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد منذ عقود. لقد سلّطت رسالة الماجستير الضوء على أبعاد جديدة ومركّبة لهذه العلاقة، من خلال تحليل ميداني دقيق لواقع مدينة بغداد، كمؤشر يعكس مشكلات وتطلعات العراقيين في عموم البلاد.
أظهرت الدراسة أن الاستثمار في الإنسان عبر التعليم، والصحة، والتمكين، والعمل الجماعي، والتدريب على المهارات الحياتية، هو السبيل الأنجع نحو بناء مجتمع متماسك، متوازن، وقادر على مقاومة التصدعات والصراعات. كما كشفت عن أهمية دمج سياسات تنمية رأس المال البشري مع استراتيجيات التنمية المستدامة، وتفعيل دور المؤسسات التعليمية والمجتمعية والدينية بشكل متناغم، من أجل صناعة تغيير حقيقي يُبنى من القاعدة المجتمعية نحو قمة القرار السياسي.
ولعل ما يميز هذا العمل البحثي أنه لم يكتفِ بتشخيص الأزمة، بل قدّم رؤية علمية ومقترحات قابلة للتطبيق، ما يجعله مرجعًا مهمًا للباحثين وصنّاع القرار معًا. وبين التحديات والفرص، تبقى الرسالة الأهم: الإنسان هو مفتاح التغيير، وبناؤه هو الطريق إلى سلام دائم وتنمية شاملة.