الحضارة المعاصرة والانفصام المجنون
مرتضى معاش
2025-11-26 03:27
في كتابه الموسوم بـ "عالم الغد"، يُسلط المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي الضوء على إشكالية جوهرية، وهي "انفصام الحضارة المعاصرة"، بدء من انفصام الإنسان ذاته، وعازياً أسباب هذا الانفصام بشكل رئيس إلى غياب الانسجام بين فطرة الإنسان وسلوكه الواقعي.
يُعد هذا الكتاب، في جوهره، كتاباً للمستقبل؛ إذ يستكشف الأزمات التي تعصف بعالم اليوم. فقد اعتمد الإمام الشيرازي في أسلوبه على منهجية تحليل الأزمات واستشراف مآلاتها، ومن ثم تقديم الحلول الناجعة للمستقبل. وهو طرح وجودي وضروري لبناء الغد والخروج من حالة الارتجالية الخطرة. فالكتاب عبارة عن إشارات ودلالات عميقة حول: كيف نبحث عن المستقبل؟ وكيف نستشرف عالم الغد؟ وكيف نعيد صياغة عالمنا للخلاص من الأزمات التي تمر بها البشرية أو التي مرت بها سابقاً.
عالم المجانين
لقد عبّر السيد الشيرازي عن هذا العالم المتضخم بالأزمات بـ "عالم المجانين". والمقصود بالجنون هنا هو الإنسان "المستور" الذي حُجب عقله، فلا يستطيع أن يكون منسجماً مع الواقع أو مرتبطاً به، ولهذا أطلق عليه مصطلح "الانفصام".
فالانفصام، كمفهوم، يعني الانفصال، والانقطاع، والانعزال، والانبتات عن الواقع، وعن الفطرة، وعن الذات وعن المجتمع. ولذلك يُطلق على المريض النفسي الذي يعاني من بعض الأمراض العقلية –بسيطة كانت أو معقدة– أنه مصاب بـ "انفصام الشخصية"؛ أي إنه منفصل عن شخصيته الحقيقية، أو لديه شخصيتان، أو يعاني من ازدواجية فيها.
وروي في رواية أخرى عن مفهوم المجنون أنه:
(مر رسول الله صلى الله عليه وآله برجل مصروع وقد اجتمع عليه الناس ينظرون إليه فقال عليه السلام: على ما اجتمع هؤلاء؟ فقيل له: على المجنون يصرع، فنظر إليه فقال: ما هذا بمجنون ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟ قالوا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن المجنون المتبختر في مشيته، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه، فذاك المجنون وهذا المبتلى).
الانفصام عن الفطرة
وقد أكد السيد الشيرازي في كتابه على قضية بالغة الأهمية، وهي أن العالم اليوم –على وجه الخصوص– هو الذي انفصل عن حقيقته؛ انفصل عن نفسه، وعن النظام الكوني، وعن الله سبحانه وتعالى، فأضحى مجنونا، أو بعبارة أخرى كما يصطلحون: "مغترباً".
فالانفصال أو الانفصام او الاغتراب تارة يكون عن النفس، وتارة عن النظام العام، وتارة يكون عن الفطرة، وتارة يكون انفصاماً عن الحياة برمتها؛ فلا يعيش الإنسان حياته الحقيقية. إن العالم الذي نراه اليوم يغص بالأمراض والمآسي والحروب والقتل والعنف والدمار؛ فهل هذا عالم يعيش ارتباطاً بالحياة أم هو عالم ميت؟ إنه بالطبع في حكم الميت، لأنه عالم يعيش الانفصام.
وعبرت عن هذا المعنى الآية القرآنية:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)طه124/126.
وإنما يبتلى الإنسان في الحياة بضنك العيش لأن داخله شيء وخارجه شيء آخر، فهنالك تمزق وانفصام بين الداخل والخارج.
وأخطر أنواع هذا الانفصام هو الانفصام عن "فطرة الإنسان"، والفطرة هي العقل الباطن الثابت الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في داخل الإنسان، فأصبحت حجة عليه؛ وهذا العقل الباطن هو الدليل والخارطة التي يسير الإنسان بهديها، والمرشد الذي يسترشد به لاختيار النماذج الصالحة، فإذا انفصم الإنسان وانفصل عن فطرته، فقد أصبح ضائعاً وتائهاً في دروب الحياة، وأصيب بالفصام في أصل طبيعته، عندما حجب عن عقله فأصبح مجنونا وناسيا.
الانحراف عن طاعة الله
ولكن لماذا لا يتواصل الإنسان مع فطرته التي تدله على الطريق القويم وتجعله مستقيماً؟ السبب هو أنه ينحرف ويختار مسارات أخرى. وهذا هو جوهر الانفصام وهو عدم طاعة الله سبحانه وتعالى والعمل بقوانينه وأحكامه، كما ورد في الأحاديث الشريفة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله). حيث روي أنه رأى رجلاً يصفه الناس بالمجنون، فقال لهم مصححاً المفهوم:
(مر برسول الله (ص) رجل وهو في أصحابه، فقال بعض القوم: مجنون، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): بل هذا رجل مصاب، إنما المجنون عبد أو أمة أبليا شبابهما في غير طاعة الله).
فالمجنون هو الذي لا يطيع الله سبحانه وتعالى، أما ذلك المسكين في الطريق فقد أصيب بابتلاء معين، أو خلل بيولوجي، أما المنفصم الحقيقي والمجنون فعلاً، فهو الذي يملك عقلاً ولا يُحكّمه، ويملك فطرة ولا يتبعها، ويعمل بازدواجية وبمكاييل مختلفة في قضايا الإنسان تبعاً لمصالحه؛ فهذا هو الانحراف الصريح عن الفطرة.
وإذا أردنا تحديد ملامح هذا الانفصام في عالم اليوم، فهي تتمثل بوضوح في الأزمات الدولية التي نعيشها، وفي العنف، والفوضى، وغيرها من المظاهر التي تعبر عن هذا الانفصام. وكل ذلك دلالة قاطعة على أن الإنسان يبتعد عن الحلول، ويحيد عن الطريق الذي لابد أن يسلكه ليصل إلى غايته، لذلك عالم اليوم عالم التفاهة والسفاهة. وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
(وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)البقرة/130.
ومن هذه النماذج المنفصمة عن العقل المنظمات الدولية وكأنها كيانات مناهضة للعقل، وهي تزعم انها تدافع عن الانسان وحقوقه، بينما أصبحت وسيلة للدول العظمى لفرض هيمنتها، فهذه المنظمات –كالأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمات حقوق الإنسان – التي تدعي وتزعم أنها تسعى لحفظ حقوق الإنسان، وتحقيق كرامته، والقضاء على الفقر؛ هي في حقيقتها تعيش ازدواجية خطيرة جداً، وهذه الازدواجية هي عين الانحراف عن الواقع.
عالم المجانين المتشبع بالعنف
وعالم اليوم يمكن وصفه بالجنون لانه يريد الوصول إلى الحلول بالعنف، وهو ما يتناقض مع العقل والفطرة، وبسبب هذا العنف يزداد انفصاما وانفصالا واغترابا عن الواقع، لذلك طرح السيد الشيرازي نظريته التي أصبح رائداً فيها وهي "اللاعنف"، وهو يرى ان اصل هذه النظرية نابعة من منهج أهل البيت (عليهم السلام)، فالله سبحانه وتعالى خاطب رسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) قائلاً: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وفي آية أخرى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، ومفردة "لنت" (اللين) في تعبيراتها أعظم وأكبر بكثير من مصطلح "اللاعنف"، لما تحويه من مفردات أخرى وتموجات لا متناهية مثل الرحمة والعفو والرفق والصفح...
فاللاعنف هي في الأساس نظرية إسلامية، لأن الإنسان كائن عاقل، وتقوم قدرته الحقيقية على التفاهم والتخاطب العقلاني. أما استخدام العنف فيتنافى مع العقل؛ لأنه أمر مرتبط بانفلات الغريزة، بالغضب، والحنق، والكراهية، والانتقام، وبالثأر من الآخرين. وهذه كلها من مصاديق زمننا "المجنون" هذا، وهي تناقض إنسانية الإنسان.
ودائماً ما يُقال في دراسات الانفصام والاغتراب والأمراض النفسية إن العنف والغضب يعبران عن ضعف الإنسان ونقصه وعدم قدرته على استخدام الاستدلال العقلي، بينما "اللاعنف" يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقدرة على الاستدلال العقلي والحكمة.
غياب الحوار والانفصام عن الدين
هناك رؤية جامدة تشوب المجتمع، والتي تصور المثقف وكأنه بعيد عن الدين أو عن رجال الدين، وكأن رجال الدين بعيدون عن هموم مجتمعاتهم وشرائحها، بينما الواقع يثبت أن هذه العلاقة الطيبة هي علاقة فكرية أصلاً ناتجة عن التقاء فكر مرجع ديني مع فكر مثقف، فلماذا تهيمن علينا هذه النظرة الاجتماعية السائدة وهذا الجمود الفكري ونحن في عام 2025 وفي عالم متطور؟
السبب هو أن الثقافة الاجتماعية تنفصم عن جوهر الدين وعقلانيته وحقيقته الفطرية وتسير نحو "القطيعة والتقاطع" وليس نحو "التواصل". فالإنسان المفكر، والمثقف، والعالم، ورجل الدين، وكل من يملك علماً ومعرفة وثقافة؛ يجب أن يكون سياقه وأسلوبه هو الحوار وليس التقاطع. طريقته في التعامل مع الآخرين –باعتباره مثقفاً وعالماً– يجب أن تتسم بالتواصل وحسن الاستماع، لا أن يكتفي بالكلام فقط، بل أن يكون مستمعاً جيداً لأفكار الآخرين.
الإسلام قائم أصلاً على الحوار، وحتى نظرية "اللاعنف" التي تحدثنا عنها قائمة على الحوار، لأن التقاطع هو نوع من أنواع العنف.
لذلك، المطلوب منا جميعاً اليوم أن نفعّل هذه الثقافة في المجتمع، ونجعل الحوار استراتيجية شاملة وبديلة عن التقاطع. ففي كثير من الأحيان توجد صور نمطية أو أحكام مسبقة عن كثير من القضايا، وكل طرف يرمي الآخر باتهامات معينة، وهذا يعني غياب الحوار. هذه الإشكالية موجودة، ولا بد أن نفتح باب الحوار على مصراعيه لكي يستفيد الجميع من الجميع، ويربح الجميع من الجميع.
من الحاضر الى الغد
ولكن هل سنبقى أسارى هذه الصراعات، أم نستطيع أن نصل إلى رؤية الغد التي أشار لها السيد الشيرازي؟
فالشخص الغارق في حاضره، والذي لا يملك أولويات لمستقبله ومستقبل أولاده، لن يصل إلى نتيجة. فالذي يريد أن يصل إلى المستقبل، ويضمن لأبنائه وأحفاده مستقبلاً جيداً، لا بد أن يفكر بجدية في الغد.
مشكلتنا أننا نعيش الحاضر فقط، ونغرق في المادية المحضة. للأسف، نحن لا نفكر كيف نطور أنفسنا ثقافياً وأخلاقياً. أنا أقول دائماً إن للإنسان أبعاداً ثلاثة أو أربعة: البعد المادي وهو "الجسد"، والبعد المعنوي وهي "النفس"، والبعد الفكري والثقافي الذي يتمثل في "عملية التفكير".
نحن نغذي أولادنا في الجانب المادي فقط، ونُهمل الجانب الأخلاقي المعنوي، والجانب الفكري الثقافي. فكيف تستطيع أن تؤهل أبناءك للمستقبل وأنت تركز حصراً على الجانب المادي الاستهلاكي؟ لا شك أن الاقتصار على بعد واحد يجعل الإنسان كائناً "مُشوَّهاً".
إن التكامل بين مختلف الأبعاد –الفكرية والنفسية والجسدية– هو الذي يصنع إنساناً مستقيماً ومستقراً. أما الانفصام أو الانحراف فسببه التركيز على الإشباع المادي فقط. وهذه هي النظرية الغربية الرأسمالية التي تركز على أن الإنسان لابد أن يشبع جسده ورغباته ولذاته ويستهلك بنهم، ونحن اليوم نعيش آثار هذا التشويه والتدمير والانحراف القائم على الاشباع الرغبوي المحض.
نحن نعيش بجوار الإمام الحسين (عليه السلام)، وفي بلد المقدسات، وبلاد أهل البيت وأمير المؤمنين (عليهم السلام). وحريٌ بنا أن نستفيد من هذا المنهج القويم لأهل البيت وننطلق لبناء المستقبل. توجد روايات وأحاديث كثيرة ترشدنا نحو بناء المستقبل، ولكن لا بد أن نتجه لذلك فعلاً، وأن نختار أن تكون هذه هي أولوياتنا القصوى.
البديل الحضاري
لقد أفرد السيد الشيرازي فصلاً بعنوان "البديل الحضاري"، وتمثلت عناصر هذا البديل في دماثة الخلق، والعدالة الاجتماعية، وتكريس الأخلاق الإسلامية وفق المنظور الصحيح غير المشوه تاريخياً. فهل هذه العناصر البديلة ربما تكون "مثالية" أو بعيدة عن الواقع؟
ولكن هذا الكلام يتضمن مغالطة منطقية، فليس هناك تعارض حتمي بين "المثالي" و"الواقعي" بهذا المعنى. هل الإنسان الصادق مثالي، بينما الإنسان الكاذب واقعي؟ للأسف البعض يظن ذلك، ولكن الكاذب في الحقيقة إنسان مريض؛ فالكذب يؤدي إلى النفاق. ولقد تحدثت سابقاً عن أن الانفصام نهايته النفاق، وكيف يعيش الإنسان في جحيم النفاق؛ فالنفاق نار تأكل الإنسان من الداخل عندما يجعله تائها يعيش الشك بلا حقيقة واضحة.
نحن نسعى لإنقاذ الإنسان من هذا الجحيم والرذائل، لنعود به إلى عالم الصدق والأمانة والعدالة، وهذا هو "الواقع" السليم للإنسان. ولكن، لا بد أن نبدأ بعملية التخلص من الانفصام وبناء جسور التواصل بين الذات والفطرة.
لا تقتلوا فطرة أولادكم
وفي موضوع التربية، أقول دائماً للآباء والأمهات: "لا تقتلوا فطرة أولادكم". هناك مثل تربوي بليغ يقول: "أنتم مزارعون ولستم نجارين". النجار يستخدم المطرقة والمنشار والمسمار ليُشكل الخشب قسراً، أما المزارع فيزرع البذرة ويسقيها ويرعاها لتنمو وتتطور؛ فالتربية هي رعاية وحضانة. لذا يحتاج الوالدان لفهم كيفية جعل الطفل يتواصل مع فطرته. الطفل السليم هو من يتواصل مع فطرته منذ الصغر، لا من يتعرض لضغط شديد يدمر نفسيته ويجعله منفصلاً ومريضاً.
التغيير الاستراتيجي
التغيير يبدأ من الإنسان نفسه، من البذرة الأولى. انظر إلى العراق بعد عام 2003، لقد مرت حوالي 22 سنة، حيث الجيل الذي وُلد حينها أصبح عمره الآن في العشرينيات. لو كان لدينا منذ ذلك الحين برنامج استراتيجي وتخطيط عقلاني ومنهاج تربوي سليم قائم على الأخلاق والنضج والترشيد النفسي والعقلي، لكان لدينا الآن ملايين الشباب في القمة، أو لنقل –على الأقل – مليون إنسان حميناهم من الضياع المستقبلي. العمل على التربية بتؤدة لمدة 10 أو 20 سنة هو الذي يوصلنا إلى هذه "المثالية"، وهي في الحقيقة حركة نحو التقدم وبناء المستقبل، وهو المقصد الجوهري في كتاب "عالم الغد".
وأود الإشارة إلى نقطة مهمة ذكرها السيد الشيرازي في كتابه عالم الغد حول قضية الانفصام، مستشهداً بالآية القرآنية الكريمة:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ).
فالإنسان الذي لا يملك رؤية للمستقبل هو في حكم الأعمى؛ فحين يُحشر أعمى ويقول "لِمَ حشرتني أعمى؟"، يأتيه الجواب بأنه نسي الآيات والقواعد التي كان يجب ان يعمل بها حتى يكون بصيرا، وكذلك اليوم يُنسى ويبقى متخلفاً ومنفصما ومنسيا.
ومن هنا يجب أن نتجه لبناء الشباب عبر الندوات والبرامج، ولكن بشرط "حسن الاستماع". لا ينبغي أن نأتي بهم لنلقي عليهم المحاضرات فقط، بل لنجعلهم يشاركون في الحوار، ونستمع لمشاكلهم وقضاياهم ونفهمها بعمق. فاليوم، عالم المادية والتكنولوجيا والاستهلاك وشبكات التواصل أغرق أبناءنا في الانحراف والفشل. وهذه نقطة جوهرية، وهي أن نشجع المؤسسات الدينية والثقافية كافة على عقد منتديات تستوعب الشباب وتستمع إليهم.
اغتراب عالم ما بعد الحداثة
من صور هذا الزمن "المجنون" والهستيري الذي نعيشه، صورة التسلط بشكله الليبرالي أو العلماني؛ حيث تُجبر البلدان المستضعفة إما على الرضوخ تحت حكم أنظمة عسكرية ديكتاتورية واستبدادية، أو يُقدم لها نموذج ديمقراطي يقوم على ترسيخ الميوعة والانحلال. وهذا أيضاً من الأفكار التي أشار إليها السيد الشيرازي في كتابه "عالم الغد".
لذلك لا بد أن نفهم الفكر الغربي فهماً جيداً، وخصوصاً في جوانبه الرأسمالية الليبرالية. فالفكر الغربي الحديث قام على نظرية "ما بعد الحداثة"، التي تهدف أساساً إلى تفكيك الدين، والقيم، والأخلاق، والجماعات، والأطر الأخلاقية المجتمعية، والعادات.
إنها تسعى لحصر الإنسان في "البديل الفردي" اللامنتمي لأي شيء؛ الفرد الذي يعيش غموض المستقبل، والعدمية، وفقدان الأفق، أو ما يسمونه "عدم اليقين". وهذا هو جوهر الانفصام والاغتراب الذي يعيشه الإنسان.
إن ما تشهده مجتمعاتنا من استهلاك لهذه الأفكار، هو ما أسميه –في أحد مقالاتي– بـ"الاستيراد الأعمى" للمناهج الغربية الليبرالية. ولديّ رؤية مفادها أن الليبرالية في واقعها ليست حرية، بل هي الوجه الآخر للنظرية الشمولية الاستبدادية. إنها عملية "استلاب" للإنسان؛ سرقة لأخلاقه، وذاته، ومعنوياته، وباطنه. لذا نحن حذرنا من الانفتاح الأعمى على حداثة "ما بعد الحداثة".