الانحراف الديمقراطي في العراق بعد 2003: من مجلس الحكم إلى انتخابات 2025

قراءة حضارية في أثر المحاصصة والعائلة والاقتصاد الريعي

محمد عبد الجبار الشبوط

2025-11-26 03:22

حين سقط النظام السابق عام 2003، وُضع العراق أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية حديثة، لكنّ مسار العملية السياسية اتجه تدريجيًا نحو الانحراف عن الروح الديمقراطية، نتيجة تفاعل ثلاثة عوامل بنيوية: المحاصصة الطائفية–الإثنية، الاقتصاد الريعي، وتحول السلطة إلى أوليغارشيات حزبية–عائلية. ومع توالي الدورات الانتخابية، ضعف حضور المواطن وتعزز نفوذ الكتل والسلاح والعائلة، حتى تحولت الديمقراطية من نظام تمثيل ومواطنة إلى آلية لإعادة توزيع الحصص داخل نخبة مغلقة. ما يلي هو عرض تاريخي تحليلي لمسار هذا الانحراف منذ مجلس الحكم وحتى انتخابات 2025.

أولاً: مجلس الحكم (2003–2004) — البذرة الأولى للانحراف

دخل العراق المرحلة الانتقالية تحت إدارة سلطة الاحتلال التي شكّلت مجلس الحكم على أساس «المكوّنات»، فجاءت تركيبته موزعة بنسبة محددة بين الشيعة والسنة والأكراد والأقليات. لم يكن هذا التكوين مجرد إجراء تنظيمي بل لحظة ولادة لنظام المحاصصة. منذ تلك اللحظة انتقل العراق من مفهوم «مواطنة فردية» إلى «حصص مكوّنات»، فانفتح الباب أمام تسييس الهويات الفرعية كأداة للوصول إلى السلطة. وفي هذه المرحلة بدأت تظهر أولى الدوائر العائلية الضيقة حول بعض القيادات العائدة من الخارج، حيث أعيد تشكيل هياكل النفوذ داخل الأحزاب الجديدة على أساس قرابة وثقة شخصية تشبه «العصبة»، لا على أساس المؤسسية الحديثة.

ثانياً: مرحلة الدستور والانتخابات الأولى (2005) — ترسيخ المحاصصة

جاء الدستور وفيه بنية ليبرالية واعدة، لكنّ تطبيقه خضع للواقع السياسي الذي أنتجته مرحلة الاحتلال. انتخابات 2005، الأولى والثانية، جرت على أساس لوائح طائفية–إثنية، فكرّست ما بدأه مجلس الحكم من تقسيمات، وأصبح لكل مكوّن «قائمة تمثله»، لا مواطن يصوّت لمن يريد. في هذه المرحلة برزت ظاهرة جديدة: توظيف الأقارب داخل الوزارات والمؤسسات التي تسيطر عليها الأحزاب، وتحويل الدولة إلى مصدر موارد لأسر سياسية صاعدة، وهو ما مهد لبناء شبكات مصالح عائلية داخل جهاز الدولة.

ثالثاً: انتخابات 2010 — لحظة الانعطاف الحادة

تُعد انتخابات 2010 نقطة مفصلية في قصة الانحراف الديمقراطي. فاز ائتلاف «العراقية» بالأغلبية العددية، لكن تفسير المحكمة الاتحادية لمفهوم «الكتلة الأكبر» أعاد السلطة إلى الكتلة التي تُشكّل داخل البرلمان بعد الانتخابات، لا الفائزة في الانتخابات. بهذا القرار، بدأت «الديمقراطية» تفقد معناها الإجرائي. أصبح تشكيل الحكومات يتم عبر صفقات فوق–انتخابية بين الكتل، وتكرست المحاصصة كقاعدة شكّلت ما يشبه «مجلس إدارة» للدولة. هنا توسعت الدوائر العائلية داخل بعض الكتل، وبرز أبناء قيادات الصف الأول وشقيقاتهم وإخوتهم كمفاتيح تمويل ونفوذ، وظهرت بوادر «العائلة السياسية» بالمعنى الحديث.

رابعاً: انتخابات 2014 — صعود السلاح وتكثيف المركزية

جاءت انتخابات 2014 في ظل أزمة أمنية عميقة وحرب مع داعش، ما أنتج مركزة شديدة للسلطة التنفيذية، واستندت بعض القوى إلى القوة المسلحة التي توسع نفوذها. في ظل هذا المناخ، تراجعت استقلالية المؤسسات، وتعمّقت شبكات المحسوبية داخل الدولة، وأصبحت شخصنة السلطة وربطها بالقرابة نمطًا متكرّرًا، خصوصًا في التعيينات الخاصة والمكاتب الاقتصادية.

خامساً: انتخابات 2018 — بداية انهيار الشرعية الشعبية

شهدت انتخابات 2018 أدنى نسب مشاركة منذ 2003، مع اتهامات بالتزوير، واحتجاجات واسعة بعد إعلان النتائج. هذه الدورة كشفت بوضوح انهيار الثقة بالديمقراطية كطريق للتغيير. في هذه الفترة اكتملت ملامح الأوليغارشية الحزبية–العائلية، حيث ارتبطت بعض الوزارات بمكاتب اقتصادية تديرها شخصيات مقربة عائليًا من قادة الكتل، وتحوّلت المناصب إلى حصص مالية، لا مسؤوليات خدمية. نضجت في هذه البيئة شروط انفجار مظاهرات تشرين 2019.

سادساً: تشرين 2019 — لحظة الانفجار الاجتماعي

كانت المظاهرات الاحتجاجية في تشرين صرخة ضد نظام سياسي لم يعد يعبر عن الناس. خرج الشباب احتجاجًا على:

 فساد الطبقة السياسية،

غياب الدولة،

 عسكرة الحياة العامة،

 تحويل الحكم إلى شبكة مصالح مغلقة،

 وتوريث الأدوار الحزبية والعائلية داخل مؤسسات الدولة.

رفعت تشرين شعارًا واضحًا: «نريد وطنًا»، أي نريد دولة مواطنة لا دولة مكونات وعوائل.

لكن لم تستطع تشرين ان تقدم برنامجا سياسيا لبناء الدولة. وسرعان ما ذابت في النظام السياسي لتخرج منه بالكامل في انتخابات ٢٠٢٥.

سابعاً: انتخابات 2021 — محاولة إصلاح، لكن النتيجة: انسداد سياسي

جاء قانون الدوائر المتعددة استجابة لتشرين، لكن نتائج الانتخابات لم تُنتج تغييرًا جذريًا، إذ بقيت بنية النظام قائمة على:

توافقات ما بعد الانتخابات،

استمرار نفوذ السلاح،

 وتحكم الكتل التقليدية في تشكيل الحكومة.

نسبة المشاركة بقيت منخفضة، والمواطن شعر أن صوته لا يغيّر في بنية السلطة التي تديرها مجموعات حزبية وعائلية مترابطة اقتصاديًا.

ثامناً: انتخابات مجالس المحافظات 2023 — عودة القوى التقليدية

أظهرت انتخابات 2023 أن بنية النفوذ التي تشكلت خلال عقدين ما زالت قادرة على التحكم بالنتائج، وأن المجتمع لم يجد بديلًا سياسيًا مؤسسيًا قادرًا على استثمار طاقة تشرين. القوى التقليدية استعادت حضورها، مستندة إلى شبكاتها الحزبية–العائلية الممتدة داخل الإدارات المحلية.

تاسعاً: انتخابات 2025 — الاستقرار السياسي داخل الحلقة المغلقة

شهدت انتخابات 2025 بروز ائتلاف «الإعمار والتغيير» كأكبر كتلة، لكنه لم يحصل على الأغلبية الحاسمة، فعادت عملية تشكيل الحكومة إلى نفس منطق التوافقات فوق–الانتخابية الذي حكم العراق منذ 2010. رغم التغيير في أسماء بعض التحالفات، بقيت بنية السلطة قائمة على:

 المحاصصة،

 شبكة المصالح الريعية،

 الأدوار العائلية في صناعة القرار،

 تغليب الكتل على المواطن.

بهذا يمكن القول إن الانتخابات لم تعد آلية للتداول، بل آلية لإعادة تدوير النخب ذاتها.

دور العائلة في مسار الانحراف الديمقراطي — خط تحليلي متكامل

من 2003 إلى 2025، يمكن تتبّع صعود «العائلة السياسية» كواحدة من أهم مظاهر انحراف النظام عن جوهر الديمقراطية:

بدأت كدوائر ثقة ضيقة حول القيادات.

ثم تحولت إلى مراكز قرار فعلية داخل الكتل.

ثم أصبحت أدوات سيطرة على الوزارات والاقتصاد الحكومي.

 وفي بعض الحالات، أصبحت أشبه بـ«شبه سلالة سياسية» تتوارث النفوذ داخل الحزب أو داخل الدولة.

هذا المسار حوّل الديمقراطية من عملية تمثيل مفتوح إلى تدوير مغلق للسلطة داخل حلقات حزبية–عائلية مترابطة.

الخلاصة الحضارية — لماذا فشل المشروع الديمقراطي؟

فشل المشروع الديمقراطي في العراق لأنه قام على قاعدة مشوهة منذ البداية:

دولة ما بعد النزاع + اقتصاد ريعي + محاصصة هوياتية + هيمنة حزبية–عائلية = انحراف ديمقراطي بنيوي.

لم تُبنَ دولة مؤسسات، بل دولة حصص؛ لم يحكم المواطن، بل حَكَمَت الكتل؛ لم تعمل الانتخابات لتبديل الحكومات، بل لإعادة توزيع الغنائم؛ ولم ينجح العقد الاجتماعي لأن الهوية المكوّناتية والعائلية طغت على هوية الدولة.

من منظور الدولة الحضارية الحديثة، لم تكن أزمة العراق «غياب الديمقراطية» فقط، بل غياب الإطار الحضاري القيمي الذي يمنع:

 تسييس الطوائف،

تحويل السلطة إلى ميراث عائلي،

 وتفريغ الديمقراطية من معناها.

الديمقراطية تحتاج إلى قيمة الإتقان، المسؤولية، المساواة، العدالة، والتضامن؛ وحين تغيب هذه القيم، تتحول الانتخابات إلى أداة لإعادة إنتاج التخلف السياسي، لا لتصحيح المسار.

ذات صلة

الحضارة المعاصرة والانفصام المجنونالانتخابات النيابية العراقية ٢٠٢٥.. مؤشرات تقاسم النفوذ ومسارات اعادة تشكيل السلطةالمواطن الغائب: كيف يبدأ التغيير حين يستعيد الناس دورهم؟لماذا لا توجد ديمقراطيات عربية؟العراق والقضية الفلسطينية.. من عقيدة المقاومة إلى عقيدة المسؤولية