العراق والقضية الفلسطينية.. من عقيدة المقاومة إلى عقيدة المسؤولية
عباس سرحان
2025-11-26 03:12
"العراق داعم سياسي للقضية الفلسطينية ولكن لا يمكنه الدخول في مواجهة عسكرية." بهذه العبارة يمكن تلخيص موقف رئيس الوزراء الأسبق والزعيم الشيعي البارز، السيد نوري المالكي، من القضية الفلسطينية في لقائه الأخير مع قناة شمس.
ويأتي هذا التصريح فيما تجد القوى الشيعية نفسها أمام مفترق طرق استراتيجي، يعكس تحولاً جوهرياً في التعامل مع الصراع العربي-الإسرائيلي.
ففي وقت تتصاعد فيه موجة التطبيع العربي مع إسرائيل، يبرز هذا الموقف كمؤشر على رغبة شيعية على ما يبدو لإعادة تقييم جذرية لخيارات المواجهة وأدواتها.
لم يعد خافياً على أي مراقب أن المشهد الإقليمي يشهد تحولاً تاريخياً، حيث تتهافت حكومات عربية عديدة نحو التطبيع مع إسرائيل، وهو ما يهدد بطي صفحة القضية الفلسطينية. خصوصا وقد خسرت قياداتها البارزة الممسكة بالسلاح كخيار لاستعادة الحقوق.
في هذا السياق، يأتي تصريح المالكي ليعبر عن واقع جديد يفرض على "محور المقاومة" مراجعة حساباته. فالقوى الشيعية، التي ظلت لسنوات حاملة لواء المقاومة العسكرية، تجد نفسها اليوم في موقف بالغ الحساسية، اذ عليها ان توازن بين الالتزام التاريخي للقضية الفلسطينية وتحولات موازين القوى.
الحقيقة الجيوسياسية التي يسلط عليها تصريح المالكي الضوء تتمثل في التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق، المدعوم بحماية دولية مطلقة وتعاون عربي غير مسبوق.
لقد دفعت دول المحور ثمناً باهظاً في مواجهاتها مع إسرائيل، من اغتيال القادة والعلماء إلى استنزاف الاقتصادات تحت وطأة العقوبات والحروب. ومع ذلك، يبدو أن المعادلة العسكرية أصبحت غير متكافئة لدرجة تفرض الانتقال من مرحلة المقاومة المسلحة المنفردة إلى مرحلة أكثر واقعية.
لا يشكل هذا التحول تنازلاً عن الثوابت الفلسطينية، بل هو إعادة هيكلة لأدوات الصراع بما يلائم التحوّلات الإقليمية والدولية. في هذا الإطار، يبرز الدعم السياسي والدبلوماسي والقانوني كبديل استراتيجي أكثر واقعية، خصوصاً مع تفتّت الوضع العربي وتراجع الإرادة الجماعية لخوض حرب مصيرية.
فمن غير المنطقي –بل من غير العملي– أن تخوض قوى "المحور" معركة وجودية بمفردها، في وقت تتحوّل فيه حكومات عربية من دائرة الصراع إلى دائرة التعاون الأمني والاقتصادي مع إسرائيل.
إن الموقف الشيعي، كما يجسده تصريح المالكي، يتبنى رؤية أكثر تعقيداً من الخطاب الثنائي التقليدي. فهو من ناحية يحافظ على المبدأ المركزي الداعم للقضية الفلسطينية، ومن ناحية أخرى يقر بحقيقة أن تحرير فلسطين لن يتم عبر العمليات العسكرية المحدودة وحدها، بل يحتاج إلى رؤية إستراتيجية أوسع تنضج في ظل تحول الوعي الجمعي العربي والإسلامي.
في الختام، يمثل التصريح السابق نموذجاً للتحول من "عقيدة المقاومة" إلى "عقيدة المسؤولية" وهو إقرار بأن المعارك الكبرى لا تُخاض بالشجاعة والخطب، بل بالحكمة التي تعيد قراءة الخرائط السياسية، وتحافظ على المكاسب، وتؤسس لمراحل قادمة أكثر ملاءمة.
قد تكون هذه الرؤية أقل إثارة من الناحية العاطفية من خطاب المقاومة التقليدي، لكنها أكثر جدوى في مرحلة تحتم على القوى الشيعية الاختيار بين الرمزية والشعاراتية وبين الفعالية.