المواطن الغائب: كيف يبدأ التغيير حين يستعيد الناس دورهم؟

مصطفى ملا هذال

2025-11-26 03:23

في كل البلدان التي شهدت تحولا جذريا في أوضاعها، كان المواطن هو العنصر الأول في التغيير، لا السلطات ولا المؤسسات وحدها. في العراق اليوم تتصدر شكاوى الناس عن سوء الخدمات، وغياب العدالة، وتراجع مستوى المعيشة، وتفاقم الفساد، وهذا هو المشهد العام، لكن وسط هذا كله يبرز سؤال جوهري: هل يشعر المواطن فعلا بدوره؟ أم أنه أصبح متفرجا ينتظر من الآخرين أن يصنعوا التغيير نيابة عنه؟

الحقيقة المؤلمة أن شريحة واسعة من المواطنين لم تعد ترى لنفسها موقعا في المعادلة، وبمثل هذه الحالة فان الفرد يتعامل مع الدولة ككيان منفصل عنه، ومع الفساد كقدر محتوم، ومع الإهمال كتراكم طبيعي لا يمكن مواجهته.

وهذا الشعور بالعجز يخلق دائرة مغلقة، مواطن لا يرى دوره، الى جانب ذلك مؤسسات لا تجد من يراقبها، ما أدى الى توسع نطاق الفساد، فمن الطبيعي ان يتمدد الفساد ذلك لعدم وجود من يفعل مبدأ الرقابة الأولية، أي قيام المواطنين بدور الرقيب على جميع الفعاليات والنشاطات التي تقوم بها السلطتين التشريعية والتنفيذية.

شيء جميل ان تجد بعض المواطنين يضحون بأوقات راحتهم ويذهبون لتصوير الإخفاقات التي وقعت بها السلطة التنفيذية في احدى المحافظات، عندما ارتكبت خطأ بتحويل ارض تم إعلانها بأنها مساحات خضراء، وبعد ذلك تحولت الى مشروع سكني استثماري.

مثل هؤلاء المواطنين ما يدفعهم لهذه المهمة او القيام بهذا الدور هو شعورهم بالمسؤولية تجاه مدينتهم أولا ووطنهم ثانيا، فلو وجد مثل هؤلاء العشرات في جميع المحافظات لما تمادت السلطات في سلب حقوق المواطنين والتجاوز على المال العام، وغيرها من الانتهاكات التي تحصل بصورة مستمرة.

وعلى الرغم من غياب هذا النوع من الأشخاص او قلتهم، يبقى ما يجب أن ندركه هو أن الوضع المأساوي، مهما بلغ، ليس قدرا أبديا، فلا توجد دولة انتهى مستقبلها لأن الظروف ساءت، بل لأن مواطنيها توقفوا عن الإيمان بقدرتهم على الحركة.

 فالدور الرقابي الذاتي للمواطن وهو أبسط أشكال الرقابة وأكثرها تأثيرا، فهو الذي يستطيع أن يكسر هذه الدائرة، وليس المقصود هنا النزول إلى الشارع أو الدخول في صدامات، بل السلوك اليومي الفردي الذي يبدأ من احترام القانون، ويمتد إلى المطالبة بالحق، وينتهي عند مساءلة المؤسسات عبر الوسائل المتاحة.

حين يتوقف المواطن عن دفع الرشوة، حتى لو تأخر إنجاز معاملته؛ وحين يرفض تمرير خطأ بسيط لأنه (لم يؤثر)، وحين يبلغ عن المخالفات بدل التستر عليها، فإنه يمارس دورا رقابيا يفوق في تأثيره عشرات البيانات الرسمية، فالمجتمع الذي يراقب نفسه لا يسمح للفاسدين أن يستقروا، ولا يسمح للإهمال أن يتحول إلى عادة.

الدول التي نهضت لم تستيقظ فجأة على حكومات مخلصة، بل على مواطنين واعين، وهو ما يشكل الإصلاح الحقيقي الذي يبدأ من القاعدة، من تغيير نظرة الفرد لذاته ويطرحا عليها العديد من الأسئلة: هل هو مجرد متلقي؟ أم شريك في صناعة يومه ومستقبله؟

المشكلة ليست في أن المواطن لا يعرف ما يريد، بل في أنه لا يشعر أن صوته قادر على أن يغير شيئًا، لكن التجارب تثبت أن أبسط الأفعال قد تشكل بداية لمسار طويل من التحسن، فيمكن لشكوى رسمية واحدة، او رفض تصرف خاطئ واحد، ومقاطعة مؤسسة فاسدة، أو حتى نشر معلومة دقيقة يمكن أن يعيد التوازن إلى مشهد مختل.

الدولة مهما قويت قوانينها، لا تستطيع أن تحارب الفساد وحدها، ولا يمكن للرقابة الرسمية أن تصل إلى كل زاوية، لكن المواطن الواعي المصر على ممارسة حقه ودوره، هو العين التي لا يمكن خداعها، وهو القوة التي لا يستطيع أي مسؤول تجاهلها.

وحين يعلم الموظف أو المسؤول أن الناس تراقب وتطالب وتحاسب، سيعيد حساباته، وحين يعرف أن المجتمع لا يتسامح مع التجاوزات، سيختفي الكثير من الفساد قبل أن يبدأ.

المطلوب اليوم ليس ثورة ولا شعارات، بل إعادة اكتشاف المواطن لدوره، أن يدرك أنه ليس ضحية، بل عنصرا فاعلا قادرا على تغيير اتجاه البوصلة، وأن يتحرر من فكرة "ماكو فائدة" التي شلت الوعي لسنوات، فالأوطان تُبنى حين يتحرك الناس، لا حين يستسلمون.

في النهاية، لا شيء أقوى من مواطن يعرف حقه ويطالب به، ويراقب أداء حكومته، ويحاسب نفسه قبل غيره، هذا هو الطريق الوحيد للخروج من المأساة، وهذا هو السبيل الحقيقي نحو مستقبل أفضل.

ذات صلة

الحضارة المعاصرة والانفصام المجنونالانتخابات النيابية العراقية ٢٠٢٥.. مؤشرات تقاسم النفوذ ومسارات اعادة تشكيل السلطةالانحراف الديمقراطي في العراق بعد 2003: من مجلس الحكم إلى انتخابات 2025لماذا لا توجد ديمقراطيات عربية؟العراق والقضية الفلسطينية.. من عقيدة المقاومة إلى عقيدة المسؤولية