هل نحن مع رسول الله (ص)، وهل الرحمة واجبة شرعاً؟

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2015-02-10 01:26

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.

هل نحن مع رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)؟

وهل الرحمة واجبة شرعاً؟

يقول تعالى:

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ([1]) فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)([2])

سيتمحور الحديث حول فقرتي (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وحول مفردة (مَعَهُ) الواردة في الآية الكريمة.. اذ هاهنا مجموعة من البصائر والاضاءات نبدأها مع مفردة (مَعَهُ):

1- الإضاءة الاولى: المعية لرسول تستدعي الاتصاف بالرحمة والشدة معاً

إن المعية لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) تقتضي الاتصاف بكلتا الصفتين الواردتين في الآية الكريمة، أي ان تكون (شديدا على الكفار) (رحيما بالمؤمنين)؛ وذلك لأن المفترض أنك (مع) رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ونفس هذه المعية تصلح ان تكون علة لضرورة الاتصاف بهذين الصفتين؛ إذ ألست معه؟ فكن مثله واقتدِ به وتأسّ.

وقد سبق فيما مضى ان من وجوه إعجاز القران الكريم: ان مختلف الأحكام المذكورة فيه (بل نضيف: حتى الكثير من الصفات المعروضة فيه) معللة بإشارة سابقة أو لاحقة أو مقارنة، بوجه جلي أو خفي لو تفطن اليه المرء لوجده جليا!.

وبعبارة اخرى: إذا جرى السؤال عن لماذا ينبغي ان نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا؟

أمكن الجواب: لأننا مع رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (...وَالَّذِينَ مَعَهُ...) وكفى!

وهناك سؤال آخر وجواب تستبطنهما الآية الشريفة وهو:

لماذا كان على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ان يكون شديدا على الكفار رحيما بالمؤمنين؟

الجواب: لأنه رسول الله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) فهو حيث انه يحمل رسالة من السماء فينبغي ان يكون شديداً بأولئك رحيما بهؤلاء، فيتضمن الجانب السلبي والجانب الايجابي؛ اذ ان الرسالة السماوية ليست ممحضة بالجانب الايجابي فقط بل هي مزيج نفي واثبات: (لا اله..الا الله) ومزيج تحريم وايجاب (هذا حرام.. وهذا واجب) كما ان الله تعالى (اشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة) وهو (ارحم الراحمين في موضع العفو والرحمة) كما ورد في الدعاء المأثور([3]).

وصفوة القول: ان الرسول الاكرم ص ينبغي ان يكون شديدا مع الكفار بالحدود التي عينها الله تعالى وفي النطاق والدوائر والمصاديق التي حددها، رحيما بالمؤمنين ما داموا على ايمانهم وتقواهم، كما ان عليهم ان يتصفوا بصفات النبي ويتاسوا به ما استطاعوا الى ذلك سبيلا.

فنخلص الى: ان المعية مع رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) تقتضي الاتصاف بكلتا الصفتين الواردتين في الآية الكريمة.

2- الإضاءة الثانية: المعية مع الرسول (ص) معية بنحو القضية الحقيقية

ان الكثير منا ينظر الى مضامين هذه الآية ونظائرها وكأنها لوحة ثابتة في عمق الزمن فلا يجد فيها إلا كلاما عن رسول الله وعن الذين كانوا معه في الزمن الغابر وانهم كانوا أتقياء أولياء وكانوا قمة القمم فهم مجاهدون مضحون أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا...

وهذه مجموعة إنسانية زمنية تشبه لوحة ثابتة في عمق الزمن نفتخر بها ونتبجح! ويحق لنا ـ كمسلمين ـ ان نفتخر بهم دون شك... لكن ما هو الرابط بين بيننا وبينهم؟!

وهكذا نجد ان الكثير منا ينظر إلى هذه الآية وأمثالها، في قرارة نفسه وفي وعيه او لا وعيه كمدح متميز للإسلاف والخلف الصالح: للصحابة بأجمعهم عند العامة أو الصالحين منهم خاصة عند الخاصة لقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)([4]) ومنهم للتبعيض هنا قطعاً.

فما هو وجه ربط الآية الشريفة بنا؟ وهل نحن مجرد مجموعة من المشاهدين أو المتفرجين أو المفتخرين؟

الجواب: هناك عدة وجوه للربط والتعميم

1- من خلال دليل التأسي... فنقول: لما كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) هكذا ومن كان معه على منواله فعلينا ان نتأسى بهم لقوله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)([5]) فالربط بين الماضي الحاضر والمستقبل أيضاً يتم عبر دليل التأسي.

2- من خلال إلغاء الخصوصية... بان يقال: لا فرق، اذ اننا على دين واحد ورسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) نبينا جميعا فلا فرق بيننا وبينهم في لزوم الاتصاف بهذه الصفات، فكما نلغي الخصوصية الجغرافية (المكان) إذ لا يراد بالذين معه أهل المدينة في زمنه فحسب بل كل المسلمين في ذلك الزمن([6]) كذلك نلغي الخصوصية التاريخية (الزمن).

3- من خلال الإذعان بالمعية الحقيقية معهم... من دون حاجة إلى ان نلغي الخصوصية أو نتمسك بدليل التأسي لندخُلَ حُكْما معهم بتوهم اننا موضوعا خارجين عنهم وهو الوجه الثاني والثالث، بل نقول باننا مصداق حقيقي موضوعا وحكما للذين مع رسول الله فالمراد بـ(مَعَهُ) المعية بنحو القضية الحقيقية لا بنحو القضية الخارجية.

وذلك يعني ان المعية هي معية إيمانية وليست معية جغرافية ولا معية تاريخية، فالمؤمنون في شتى الأزمان هم مع رسول الله وأهل بيته الأطهار ما داموا مؤمنين صالحين متقين لا تأخذهم في الله لومة لائم.

وذلك لوضوح انه لو كانت المعية معية جغرافية للزم ان لا يكون المؤمنون الذين يسكنون في اليمن او غيرها ممن لم يكونوا في المدينة مشمولين للآية الشريفة! فحسب بعض الإحصاءات ان ما يقرب من ربع مليون فرد أسلموا في تلك الفترة الوجيزة واغلبهم لم يكونوا في مدينة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم).

وكذلك الحال في المعية التاريخية تماماً.

فنخلص الى: أن المعية مع رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) هي معية ايمانية فكرية أخلاقية رسالية إسلامية.

4- من خلال الإذعان بالمعية في ما قبل خلقه الأبدان، بمعنى: إن المعية لرسول الله ص ولأصحابه المنتجبين منهم بالنسبة لنا ليست معية إيمانية عقدية فكرية وحسب، بل هي معية في عمق الزمن في الأدوار والاكوار السابقة على الخلقة.

وبعبارة اخرى: هي معية في الطينة وسياتي الحديث عنها لاحقا في بحث مستقل ان شاء الله.

وهذا الوجه لا يعارض الوجه السابق (المعية الايمانية) بل الصحيح هو الجمع بينهما بنحو اتم واشمل.

3- الإضاءة الثالثة: الرحمة بالمؤمنين واجبة في الجملة

في الإضاءة الثالثة نبحث عن ان الرحمة بالمؤمنين في قوله تعالى (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) هل مستحبة ام واجبة؟

نقول: الرحمة واجبة في حدودٍ أي في الجملة.. وبعبارة اخرى: هي واجبة في صور كثيرة، وقد دلت الروايات الكثيرة على ذلك:

من منع مؤمنا شيئاً... يؤمر به إلى النار!

ومنها: ما ورد عن الإمام (عليه السلام)..... ((أَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَنَعَ مُؤْمِناً شَيْئاً مِمَّا يَحْتَاجُ‏ إِلَيْهِ‏ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ أَقَامَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْوَدّاً وَجْهُهُ مُزْرَقَّةً عَيْنَاهُ‏([7]) مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَيُقَالُ هَذَا الْخَائِنُ الَّذِي خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّار))([8])

وهذه الرواية تشكل إنذاراً شديداً جداً بل ومخيفاً حقاً لكل من يمنع من يحتاج شيئاً وهو يقدر عليه، وفي مضمونها كثير من الروايات ولا نقاش في حجيتها واعتبارها.

ولكن لنسأل ما هو وجه توصيف هذا الشخص (المانع للخير) بانه (الخائن الذي خان الله ورسوله).

الجواب: إن المال والجاه وسائر نعم الله تعالى علينا هي أمانة عندنا ونحن مستودعون عليها ومستخلفون فيها فاذا ما فرطنا فيها ولم نضعها في محالِها ومواقعها فقد خنّا صاحبها والمنعم المتفضل بها.

فلماذا لا نبادر إلى مساعدة إخواننا المؤمنين من النازحين والفقراء وحتى المجاهدين في ساحات القتال وهو يدافعون عنا، في حدود ما نقدر عليه اذ لا يكلف الله نفسا الا وسعها؟ ومن الممكن لكل منا ان يشكل لجنة لمساعدة النازحين مثلا او لمساعدة عوائل المجاهدين او لمساعدة عوائل الشهداء فان الغريب حقاً انه سرعان ما تنسى الناسُ الشهيدَ بعد مدة من استشهاده مما يؤدي الى ضياع أسرته وتشردهم –أي الكثير منهم- في زحمة الحياة وضيقها وشدائدها مع شديد الأسف.

البحث التحليلي للرواية بوجوه خمسة

وحيث كانت العقوبة الواردة في الرواية خلاف المتعارف والمأنوس في الأذهان بل ولأنها خلاف المعهود من الحكم الشرعي فان الواجب هو أداء الحقوق المالية من خمس وزكاة وشبهها فقط ولا يجب أكثر من ذلك، فكيف تذكر الرواية هذه العقوبة المذهلة لمن منع مؤمنا شيئاً مما يحتاجه سواء بان يوفره له شخصياً أو بان يتوسط له؟ لذلك كان لا بد من تحليلها والبحث عن وجهها، والوجوه التي قيلت أو التي يمكن ان تقال هي:

1- فقد قيل انها من باب التغليظ والمبالغة.

الجواب: هذا غير تام لان المبالغة لها حدود ولا تتعدى الى درجة الاخبار عن هذا العقاب المرعب ((أَقَامَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْوَدّاً وَجْهُهُ مُزْرَقَّةً عَيْنَاهُ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَيُقَالُ هَذَا الْخَائِنُ الَّذِي خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّار)) والحاصل: ان الرواية بلحن اشد المحرمات وليست بلحن تهديد من ترك مستحبا! فمن ترك مستحبا لا يعقل ان يؤمر به الى النار بل ولا ان يكون وجهه مسوداً.. الخ.

2- قصر الرواية ونظائرها على الحقوق الواجبة كمانع الزكاة والخمس والكفارات الواجبة، وقد ذهب الكثيرون الى هذا الرأي وهو وان كان صحيحا في نفسه الا ان قصر الرواية على هذه الموارد مما يأباه لسانها بل هي نص في كل ما يحتاجه المؤمن فتقول ((أَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَنَعَ مُؤْمِناً شَيْئاً مِمَّا يَحْتَاجُ‏ إِلَيْهِ‏...)).

3- ان الملاك هو الحاجة والاضطرار الشديد أو مطلقا فاذا دفعتَ الحقوق الشرعية الواجبة الا ان الطرف الاخر (المؤمن الاخر) كان لا يزال محتاجا (وبقيد بشدة على أقل الفروض) وكان لديك فائض من المال مما تقدر عليه فعليك مساعدته ومعاونته بنحو الإلزام وفي تركه العقاب الشديد.

وهذا هو المختار وقد التزم بهذه القاعدة بعض الفقهاء فقالوا: ان الزكاة في الظروف الطبيعية هي ما حُدد في الرسالة العملية اما في الظروف غير الاعتيادية وحالات الاضطرار فعلى المكلف ان يبذل اكثر مما تقرر عليه... فهذا –إذاً- حكم شرعي فقهي وليس امر اخلاقيا مستحبا والدليل على هذا التقييد من الرواية (مما يحتاج إليه).

4- ان الرواية مخصصة بصورة الاستخفاف أي هي في مورد من يمنع المؤمن مستخفّا به وقد ذهب البعض الى ذلك الا ان هذا التقييد مما لا شاهد عليه.

التاجر الذي استخف بفقير فأفتقر!

نقل لي أحد كبار التجار وهو من الصالحين وكان كثير البر والاحسان وقد أسس المئات من المؤسسات في العالم، فقال:

كان لي صديق قبل كذا سنة وكان أكثر ثراء مني، فكنت يوما جالسا معه في مكتبه فجاء سيد علوي فقير وطلب المساعدة منه فنهره وطرده وتكلم معه بكلام جارح مهين.

فتأثرت لذلك وقلت له: اذا لم تعطه وتساعده فلماذا تهينه وتزدريه؟!! ولعله محتاج بالفعل ثم لماذا تكسر قلبه بالإهانة والازدراء!.

(وفي مضمون الرواية اذا جاءك السائل راكبا على جواد فأعطه ولا تمنعه اذ لعله محتاج حقا وذلك([9]) الجواد وديعة عنده أو قرض أو ما أشبه).

يقول ذلك التاجر: فخرجت من عنده ابحث عن ذلك السيد الفقير فأعطيته مبلغا كبيراً نسبياً جبرا لكسر خاطره.

لكن الغريب انه لم تمضِ الا فترة وجيزة حتى توالت الصفعات الالهية على هذا التاجر المانع المستخف بفقراء المؤمنين، فخسر تجارة هنا واخرى هناك ولعله احترقت بعض مصانعه أو غرقت سفن له محملة بالبضائع وغير ذلك فلم تمضِ سنة حتى عاد فقيرا معدما، يقول التاجر الخيرّ: وكنت أساعده بين الفترة والأخرى ولكني لم أشمت به إذ كفاه ما رأى من العقاب عن الشماتة!.

وهنا نقول: لماذا يطغى الإنسان مادام ان الله تعالى هو من يرزق المال، وهو من يزق الجمال، وهو من يرزق الشهرة، وهو من يرزق العلم، وهو من يهب المواهب وهو من يعطي ويمنع؟ نعم... لماذا؟.

ان كل نعمة يعطيها الله تعالى الى عبده فانه يمكن ان يسلبها منه في ثانية واحدة وينسفها نسفا فيذرها قاعا صفصفا، من يدري؟ فلماذا الطغيان؟.

5- ان الرواية ناظره لمن يمنع المؤمن شيئا لإيمانه. وهذا الرأي وان كان صحيحا أيضاً في نفسه الا انه اخص من الرواية، ومثال ذلك: ما تقوم به أجهزة الامن في الدول الظالمة حيث يمنعون المؤمنين اذا لم يتعاونوا معهم في التجسس على المؤمنين الآخرين فيحرمونهم من وظائفهم ورواتبهم ويضيقون عليهم ويمنعونهم مما يحتاجون إليه لمجرد تمسكهم بإيمانهم ولمجرد انهم لم يستعدوا ان يبيعوا دينهم!.

كما ان هذا الأمر تقوم به بعض الأحزاب وبعض العشائر والجماعات إذ يمنعون من لا يتعاون معهم ويطردونه ويحرمونه من الغنائم التي يحصلون عليها سواء أكانت من الحرام أم الحلال، كما نجد مثلاً ان العشيرة الفلانية تطرد من يتزوج امرأة لا ترغب العشيرة في مصاهرة أهلها وغير ذلك.

كما ان من أمثلة ذلك ما يقوم به النواصب ومن لف لفهم من منع أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من حقوقهم (في منصب أو مال أو غير ذلك) لمجرد انهم شيعة أهل البيت ونجد الكثير من النماذج لذلك في السعودية والبحرين وغيرهما إذ يمنعون الشيعة من تسلم وظائف راقية رغم كونهم الأكفأ لها من غيرهم لمجرد انهم شيعة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام).

هذه خمس وجوه وهناك وجوه أخرى لعلنا نتطرق إليها في بعض البحوث القادمة.

4- الاضاءة الرابعة: العلاقات الاجتماعية من مزال الاقدام الخطرة

تقول الآية المباركة (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) وهنا نتسائل لماذا قدمت الآية الشريفة صفتي الشدة والرحمة على صفة العبادة والركوع والركوع والسجود له تعالى؟ مع ان العلاقة بين الإنسان وربه أقدم رتبة وأولى من العلاقة بينه وبين الآخرين، لأن العلاقات الاجتماعية تنشعب من العلاقة العظيمة بين الإنسان وخالقه ولأن الله تعالى هو المتفضل بالنعم كلها على الإنسان فان يصلح الإنسان ما بينه وبين ربه أولى من غيره؟.

الجواب: هناك عدة وجوه لذلك نذكر احدها فقط وهو انه: لعل الامتحان الأصعب هو في العلاقات الاجتماعية فان فيها مزال الأقدام في كل بعد وآن ومكان.

اما العلاقة مع الرب في بعدها العبادي فان الأمر أسهل، إذ يمكن ان ينشغل الانسان في زاوية من البيت او المسجد فيعبد ربه ليلا ونهارا مع توطين النفس ونفي الاغيار وهو وان كان صعبا على البعض الا انه ليس بالعسير لمن قرر وعزم.

اما العلاقة مع الآخرين من مؤمنين وكافرين فهناك باستمرار امتحان عسير وشديد إذ ان حقوق المؤمنين من أباء وأمهات وزوجة وأولاد وإخوة وعشيرة وأصدقاء، هي كثيرة ومتنوعة جدا، فقد لا يوفق الإنسان لأدائها وكم نجد من المؤمنين من تورط في غيبة او نميمة او بخس حق او غير ذلك وما أكثر ما يغضب الإنسان في يومه وليلته مع أهل بيته أو جيرانه أو زملائه أو موظفيه أو مراجعيه؟ وكم مره يخرجه غضبه من إيمانه وتقواه؟ غفرانك اللهم ورحماك.

وكذلك الحال في العلاقة مع الكفار إذ من الصعب جداً ان يكون الإنسان من الأشداء على الكفار في الحدود الشرعية فان من طبائع الناس الميل إلى الموادعة([10]) ويتجلى ذلك بوضوح في دوائر عديدة – سنفصلها لاحقاً بإذن الله تعالى – ولكن نشير إلى احدها فقط إشارة عابرة؛ فان من أصعب الأمور على من يمسكون بأزمّة الأمور في البلاد الإسلامية([11]) ان لا يقعوا في فلك الغرب أو الشرق وان لا يقدموا لهم التنازلات السيادية وغيرها فكيف بان يكونوا أشداء معهم في انتزاع الحقوق السياسية والاقتصادية والتاريخية و... للأمة!([12]).

السياسي العميل يُرمي به بعد انتهاء مفعوله

ينقل أحد المشاهير في زمن الشاه يقول: كنت جالسا في السيارة مع السفير البريطاني وكان السفير يدخن السيجارة فقلت له: أنتم البريطانيون ليس لكم وفاء أبداً! فقال: كيف ذلك؟ قلت: كم خدمكم الشاه البهلوي الاول؟ فانه كان عميلا لكم وقدم لكم خدمات جليلة ثم وبكل بساطة أطحتم به ونفيتموه إلى جزيرة موريس ونصبتم ابنه البهلوي الثاني بعده؟

يقول: فلم يجبني واستمر يدخن سيجارته متأملاً ثم رمى بها من النافذة. فقلت له بعد برهة: لم تجبني؟ فقال: بل أجبتك، قلت: كيف؟ قال: الم ترني بعد ان أنهيت سيجارتي رميت بها من النافذة؟ قلت: بلى، قال: فقد أجبتك إذن على سؤالك!!

ومعنى ذلك أن البهلوي الأول كان قد انتهى مفعوله فرميناه وجئنا بمن ينفعنا أكثر لمصالحنا الاستراتيجية ولا معنى للوفاء في عالم السياسة أبداً! وهذا هو ديدن الاستعمار، والسياسي -كمثال بارز- على خطر كبير ويحتاج الى حصانة ربانية كبيرة وإلى واعظ من نفسه وإلى رقابة شديدة من الأمة وإلا وقع في محيط مخططات الآخرين سواء من حيث يدري او لا يدري، أعاذنا الله من ذلك ونظائره.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

...................................
([1]) أي فراخه وبناته المحيطة به
([2]) الفتح 29
([3]) دعاء الافتتاح
([4]) الفتح: 29.
([5]) الاحزاب 21
([6]) وكانوا متوزعين في تسع دول بجغرافية ذلك اليوم.
([7]) حسب تحقيق بعض المحققين: أي تنقلب عينة فيكون بياضها هو البارز ثم يكون مزرقّـا فيكون المنظر مخيفا وموحشا
([8]) الكافي الشريف (ط – الإسلامية) ج2 ص367.
([9]) هذا توضيح للرواية.
([10]) أو إلى الافراط في التعدي.
([11]) سواءاً أكانوا رؤساء أو وزراء أو مساعدين ومستشارين أو نوابا أو شبه ذلك.
([12]) وتدبروا في مثال تقسيم العراق مروراً بالفدرالية مثلاً...

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا