حاكمية عالم الاشياء على الامم المتخلفة
ومحورية الرسول (صلى الله عليه وآله) والآل (عليهم السلام) لعوالم الافكار والقيم
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2016-10-01 02:12
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([1])
وقال جل اسمه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)([2]) و(أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)([3])
بصائر واضاءات:
هنالك مجموعة من البصائر والإضاءات في هذه الآيات المباركة، سنتطرق لها إن شاء الله تعالى نظراً لإلقائها الضوء على أبعاد هذا البحث عن عالم الأشياء والأشخاص والأفكار من جهة، ولموضوعيتها من جهة أخرى.
موجز البحث السابق: عوالم الأفعال والقيم والأشياء والأشخاص والأفكار
سبق ان تقسيم العوالم إلى ثلاثة: (عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار) ليس بتقسيم كامل؛ ذلك ان العوالم لهي أكثر من ذلك سواء بالنسبة إلى عالم الأشخاص أم بالنسبة إلى عالم الأمم والحضارات، حيث بينا أن هناك عالماً رابعاً هو عالم الأفعال، وعالماً خامساً لابد أن يحكم عالم الأفكار والأفعال والأشياء والأشخاص وهو عالم القيم والمثل والفضائل؛ ذلك ان الأفكار، كالأشياء، هي عبارة عن سلاح ذات حدين ولا بد أن تخضع لمنظومة القيم حتى لا تؤدي إلى فتنة في الأرض وفساد كبير مما لا تحمد عقباه، كما هو الحال في العلم حيث انه لو لم يستعمل كأداة لتكريس الفضيلة وتجذيرها ولخدمة الإنسانية وتطويرها كان الضرر فيه ومنه اكثر من النفع قطعا.
العالم الأهم.. عالم الغيب والملكوت:
وهناك عالم آخر، سادس، غفل عن ذكره بعض المفكرين مع أنه الأساس وله التأثير الشديد والمدخلية الكبرى في تأسيس وتسديد وتصحيح مسار الأشخاص والأمم، وهو عالم الغيب فانه ذلك العالم المهيمن على كل تلك العوالم الأخرى ولعلنا سنخصص فصلاً خاصاً للحديث عن هذا العالم بإذن الله تعالى.
ثم ان إغفال أو إهمال أي عالم من هذه العوالم في سلم القيم سيؤدي إلى اضرار جسيمة في حركة الإنسان نحو الهدف والغاية بل قد يؤدي إلى تحطم الأمم تماماً.
المعيار في التصويت في الانتخابات
ومن أبرز الأمثلة على ذلك التصويت في الانتخابات في هذا البلد أو ذلك؛ إذ نجد، ويا للأسف، ان معيار الكثير من الناس في انتخاب المرشحين هو عالم الأشياء، فان البعض قد يبيع صوته مقابل مبلغ من المال وقد يبلغ الـ(500) دولاراً أو أقل، وما ذلك إلا نوع من السحت وأكل المال بالباطل، بل البعض يبيع صوته بالوعود الطفيفة كالتعيين في دائرة ما أو إعطائه قطعة من الأرض، كل هؤلاء يعيشون في عالم الأشياء ويقدموه على مصالح الأمة العامة وعلى عالم القيم والمثل الاخلاق.
ثم بعد ذلك قد يترقى الناخب شيئا ما فيكون معياره ومقياسه بعض الأشخاص لمجرد ثقته بهم وهذا، وبمستوى ما، أفضل من الأول.
إلا أن الأرقى والأجدر والأصح هو التصويت على أساس عالم الأفكار والبرنامج الانتخابي حيث أن وثاقة الرجل وعدالته شيء والخبروية شيء آخر، فهل من المعقول أن نسلّم بناء نفق تحت الماء أو جسر في السماء أو ناطحة سحاب كبيرة مثلاً إلى رجل غير خبير ولا بمهندس لمجرد انه ثقة عادل؟ الجواب: كلا كما هو واضح
اذن: ليس المقياس والمعيار في اختيار المرشحين والصوت الانتخابي هو ما سنجنيه في عالم الأشياء ولا مجرد محورية الأشخاص في هذه القائمة أو تلك بل الأساس هو عالم الأفكار والبرنامج الانتخابي الصادق، نعم العالمان الآخران بانضمامهما إلى عالم الأفكار يكتمل بها الملاك في المقام بشرط خضوعها جميعاً لهيمنة وتوجيه عالم القيم والمثل كما سبق.
عالم القيم وعالم الافكار والتراتبية الصحيحة:
اذن المقياس هو ان يكون عالم القيم هو الموجه والحاكم والمسيطر على بقية العوالم فان الانغماس في عالم الأشياء -بعيدا عنه- ينحو بالشخص نحو التسافل والتساقط، فمثلاً لو أن شخصاً أراد أن يتزوج فقد يتزوج هذه المرأة أو تلك لجمالها الاخّاذ أو لمالها الوفير فهذا غارق في عالم الأشياء، والله سبحانه وتعالى يكل حينئذٍ ذلك الشخص إلى المال أو الجمال كما ورد في الحديث.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ لِمَالِهَا أَوْ جَمَالِهَا لَمْ يُرْزَقْ ذَلِكَ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا لِدِينِهَا رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَمَالَهَا"([4])، وقد يختار الزوجة بملاك الصلاح والفضيلة والتقوى والخُلق الرفيع وهذه قيمة عُليا، وهذا هو التفكير الناضج وعليه تبتني الحياة السعيدة لهما وذريتهما فان سعادة الحياة لا تبتني على المال أو الجمال أو النسب.
والغريب أن الأغلب يبحث عن الزوج أو الزوجة الطبيبة أو المهندسة أو الثري أو الثرية أو غيرها بملاك التفاخر بالشهادات فقط أو لأجل امتلاك الفاخر من الأشياء دون رعاية الخصوصيات النفسية الأخلاقية للطرف الآخر، ولذا نجد انه سرعان ما تدب الخلافات ثم تنهار الأسرة انهياراً مدوياً، والسبب هو أن المادة تفرّق بينما الأخلاق والتقوى تجمع.
والمهم أن على الإنسان ان يوجه بوصلة حركته نحو كبد الحقيقة ولا ينشغل بالقشور والصور بل عليه ان يبحث عن اللباب فان الشخص لو انتخب مثلاً كتابا ما لشرائه وقراءته فلابد أن يسأل نفسه حول سرّ اختياره لهذا الكتاب؟ فهل لأن مؤلفه شهير؟ أو لكون طبعته فاخرة؟ فان البعض إذا كان الكتاب بطبعة مربكة وبتصميم ضعيف فانه لا يتفاعل معه بل يزهد فيه دون أن يكون همّ هذا المسكين محتواه ولبه وجوهره فتضيع الفائدة والثمار المكتنزة في هذا الكتاب لمجرد أشياء شكلية.
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...) بصائر نور:
وههنا نشير إلى بعض البصائر في آية الولاية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...) في نطاق مبحث عالم الأشياء وعالم الأفكار والقيم.
الولاية على الأشخاص يستبطن الولاية على الأشياء
إن الضمير في (وَلِيُّكُمْ) يعود إلى الأشخاص ولكنه يستبطن أيضاً الولاية على الأشياء، وذلك لأن عالم الأشياء تابع لعالم الأشخاص وقد سبق في بحثٍ أن ولاية الله والرسول والأئمة على الأشخاص هي ولاية تكوينية تشريعية؛ وعليه فالولاية التشريعية والتكوينية على الأشخاص هي ولاية تكوينية وتشريعية على الأشياء كل الأشياء، فالولي على الشخص سيكون وليا أيضاً على كل ما يملك ذلك الشخص من أشياء؛ ولذا فإننا نستطيع من هذه الآية المباركة أن ننتزع الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) على كافة ما نمتلكه.
وهذه الولاية هي ولاية حقيقية؛ لأنها في طول وامتداد ولاية الله تعالى على الأشخاص فالأشياء؛ ذلك ان الله تعالى منح الولاية لمحمد وآل محمد صلوت ربي عليهم أجمعين وهذه ولاية شاملة كاملة تامة مهيمنة لمكان الإطلاق وظهور كونها امتداداً لولاية الله تعالى نفسه (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([5]) فليست بولاية ناقصة تلك التي يمكن فيها التفكيك بين الولاية على الأشخاص وبين الولاية على ما يملكون.
وبعبارة أخرى: ان الولاية الاعتبارية بيد المعتبر وهي مغايرة للولاية الحقيقية التامة العالية فانها شيء آخر، والمخبَر عنه في الآية أعم من الولاية الحقيقية والاعتبارية وهذه مستفادة من اطلاق الآية الشريفة ومن مقامها أيضا.
ومن هنا فالمالك الحقيقي للأشياء والأشخاص هو الله تعالى وقد فوّض هذه الملكية لمحمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله).
ومن هنا يظهر أن الأموال التي في أيدينا هي ملكه تعالى ثم ملك الرسول والآل وان ايجابه تعالى دفع خمس الأموال كواجب إنما هو تفضل منه سبحانه إذ كل ما نملك هو ملكه ومع ذلك استقطع منه خمسه فقط وأبقى منه لنا أربعة أخماس ومع ذلك ترى البعض يتثاقل عن العطاء!.
والمحصلة: ان إضافة الضمير في وليكم يستبطن الولاية على الأشياء كل الأشياء من خلال الولاية على الأشخاص.
تفرع الولاية التشريعية على التكوينية
إن مما لا شك فيه بمقتضى العقل والنقل ومنه آيتنا المباركة وغيرها ثبوت الولاية التكوينية المطلقة لله تعالى ومن ثمّ لرسوله وأوصيائه (عليهم السلام) ذلك أن الله تعالى قد خلقنا وأفاض علينا أصل الوجود ونحن محتاجون إليه في ذلك حدوثا وبقاء بمعنى ان الفيض الإلهي لو انقطع عنّا ثانية واحدة لما بقينا أحياء، فوجودنا نحوُ وجودٍ فقري ومعنى حرفي متعلق بإرادته.
وعلى هذه الولاية تتفرع الولاية التشريعية لله تعالى إضافة إلى أنه تعالى الأعرف بالأفضل في كيفية هندسة الحياة والأمثل لتحقيق الغاية التي من أجلها خلق الإنسان.
الولاية التشريعية، من أعظم ألطاف الله علينا
وهنا نقول: ان إعماله تعالى للولاية التشريعية هو من الطافه علينا ومن فضله العظيم من دون استحقاق منّا فإن كافة ما منحنا الرب من مناهج تعليمية أو تربوية أو تزكوية عبر رسله وأوصيائهم (عليهم السلام) فإنما هو تفضل من ساحة لطفه وكرم جوده إذ كان من الممكن أن يكون حالنا كحال من يعيشون في الفترة بين الرسل.. هذا من جهة ومن جهة أخرى فان إرسال الرسل وتعيين الأوصياء، وهم بذلك المقام السامي الرفيع الذي لا يرقى إليه عقل بشر هو أيضاً فضل من الله ولطف، وكان من الممكن إرسال علماء أبرار فقط كما هو الحال في زمن الغيبة والنيابة العامة.
ومن أعظم مننه تعالى أن حبانا بأهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)
ولنضرب مثالا لتقريب الفكرة وهو لو أن أستاذاً جامعياً مشهوراً تصدى للتدريس في إحدى المدارس الثانوية أو المتوسطة طواعية من غير أن يخل ذلك بتدريسه في الجامعة فان ذلك فضل منه دون شك، فكيف إذا تصدى للتدريس في مدرسة ابتدائية أو في روضة الأطفال متطوعا أيضا فان فضله اكبر وشكر الأهالي له ألزم، فتكون كل عطاءاته وإنجازاته تفضلا وكرماً منه، هذا والفاصل بينه وبين الطلاب محدود يقدَّر بفارق عشرين أو أربعين سنة من العلم والدراسة مثلاً أما الفاصل بيننا وبين الله تعالى فهو لا محدود؛ إذ لا نسبة بيننا وبين الله تعالى بل لا نسبة، بالنسبة، بيننا وبين رسوله وأهل بيته (عليهم السلام) فان وجودنا ببركتهم و"فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا"([6])، ومعه فكيف يقاس الفقير المطلق بواسطة الفيض الإلهي؟ ومن ذلك نعرف ان الله تعالى قد تفضل علينا ومنّ علينا أعظم المنّة بأن أرسلهم أئمة وهداة ومرشدين يعيشون بين الناس رغم ما لهم من مقام القرب الذي لا يرقى إليه حتى الملك المقرب!.
ولذا ورد في الرواية: "خَلَقَكُمُ اللَّهُ أَنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ حَتَّى مَنَّ عَلَيْنَا بِكُم..."([7])
ومن هنا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) (أَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ كَيْفَ مُلِئَ عِلْماً لَوْ وَجَدْتُ لَهُ طَالِباً سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي هَذَا سَفَطُ الْعِلْم)([8]) ولكن الضعف كل الضعف هو في قابلية القابل وفي استعداد تلقي الفيض لا في فاعلية الفاعل الفياض، حيث ان هذه القابيلية والاستعداد لا تزال في كمون وجمود، نعم في وقت ظهور المنقذ العالمي الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ستتفتق العقول وتتفجر الطاقات إذ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: "إِذَا قَامَ قَائِمُنَا، وَضَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَلى رُؤُوسِ الْعِبَادِ، فَجَمَع بِهَا عُقُولَهُمْ وَ كَمَلَتْ بِهِ أَحْلامُهُمْ"([9]).
وقفة مع النفس: الإهمال الغريب لكنوز معارف الأئمة (عليهم السلام)
ولكي نذعن أكثر بصدق هذه الدعوى (عدم وجود القابلية لنا لتلقي الفيض من الرسل والأوصياء) فلنضرب المثل التالي: فلو فرضنا أن الله تعالى بعث النبي (صلى الله عليه وآله) أو أمير المؤمنين (عليه السلام) الآن إلى العالم من جديد فهل كنا نتحلق حولهما ونمير من علمهما؟! لعل الأكثر يجيب قاطعاً بنعم، لكن لعل الأكثر إن لم يكن شبه المستغرق هم كاذبون في دعواهم أو واهمون، ومن الشواهد أن بعض آثارهم (عليهم السلام) في أيدينا وهي تواجه بالإهمال شبه التام منّا.
ويكفي شاهداً على ذلك نهج البلاغة فانه بين أيدينا وهو شاهد صدق على ما ندعيه فانه منهاج عمل مثالي لكل من أراد أن يكون القمة في المناقبيات وفي السير إلى الله وكيفية السلوك مع خلق الله وعباده.
ولكن النهج موجود والمستفيد مفقود! إذ نلاحظ عدم الاهتمام به إلا من القلة النادرة حتى ان البعض لم يطالع ولو عشر صفحات من ذلك الكتاب مرة في حياته!.
كما يكفي شاهداً آخر على ذلك اننا لا نعرف (ولا نحاول أن نتعرف) كيف كان يدير الإمام علي (عليه السلام) -ومن قبله الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)- الاقتصاد حتى انه لم يعد يوجد حتى فقير واحد في دولته المترامية الأطراف كما انتفت البطالة تماماً في أرجاء مملكته الواسعة ولم يعد يوجد من لا يملك مسكناً أو القدرة على الزواج! كما فصلناه في مبحث سابق، فكيف نهج (عليه السلام) القوانين وكيف أدار الوزرات؟ فوزارة الزراعة مثلاً لم تكن موجودة بالشكل الحالي فكيف أدار الإمام الزراعة في كل العالم الإسلامي إدارة مثالية لا نظير لها حتى في عالم اليوم رغم بدائية الوسائل حينذاك فقد أسس شبكات الريّ وغيرها وانتشرت الزراعة بشكل مذهل حتى كان العراق يسمى أرض السواد؟ وكيف أدار التجارة الداخلية والخارجية وحكم الاقتصاد الناجح والناجع الذي يصب في مصلحة الفرد وإسعاده وتحقيق كماله؟
كل ذلك توجد شذرات متفرقة عنه هنا وهناك لكن كان الواجب القيام بمئات الدراسات والبحوث عبر الطرق الاركيولوجية وغيرها، فهل فعلنا؟ وإذا كنا نهمل هذه المفاتيح وهي بحاجة إلى بعض الجهد فقط للوصول إليها فهل ترانا مستعدين حقاً لننهل من نمير علومهم إذا كانوا بين ظهرانينا؟
إعداد الأنفس والأرواح والأفكار للدولة الإلهية الموعودة:
والشاهد الآخر، وبه نضع اليد على منطقة الألم الكبرى، هو اننا لازلنا غير مؤهلين لنكون رعايا في دولة العدل الإلهي؛ ذلك أن الفرد منا لحد الآن لا يعلم بل لا يدرك مستوى المنّة التي تفضل بها الله عليه بهدايته إلى التوحيد وولاية أهل البيت (عليهم السلام) وبالتفضل علينا بجعلهم بين ظهرانينا ووسائط بينه وبيننا, والمؤلم اننا بدرجة غريبة بعيدون عمّا يتوقع منا من بناء النفس الواعية المطمئنة المستعدة والمهيأة للانقياد الكامل للمشروع الإلهي.
ومما يوضح ذلك: ان باب التزود المعنوي من تلك الأنوار الطيبة وباب التوسل بهم مفتوح لكننا لا نطرقه إلا عند حدوث بلية شخصية أو فقر مدقع أو مشكلة معقدة كاسرة للظهر فهنا نجد من أنفسنا الانقطاع التام والتوسل الحقيقي الصادق في مقام الاضطرار فنتوجه إلى الله تعالى بكل وجودنا وذرات تكويننا ونتوجه إلى الأئمة (عليهم السلام) من أعمق أعماق كياننا لقضاء حوائجنا ولكن ما ان تنجلي الغمة ويرتفع البلاء حتى يرجع أكثرنا – بل شبه المستغرق منا – إلى حالته العادية بعيداً عن تلك الأجواء الروحانية السامية، مستغرقاً في الهموم اليومية التافهة أو شبهها، مما يكشف عن عدم توفر الأرضية ولا الأهلية لكي نحظى بشرف ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وزبدة المقال: أن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) على البشرية بل الكون كل الكون هي من أكبر فضائل الله ومننه وألطافه على جميع الخلق، وان الإنسان هو من بيده كفة تحريك الأمور باختيار الظروف الموضوعية التي تقود نحو الشقاوة أو السعادة ونحو الرخاء أو التعاسة والبلاء.
عودا إلى عالم الأشياء: العدو الأول لكمال الإنسان
ونعود الى عالم الاشياء فنقول :
إن استغراق الإنسان في عالم الأشياء يعمل على تحطيم صلاحية الإنسان للتكامل وعلى القضاء على حركة الإنسان التكاملية في مدارج الكمال؛ وذلك لأن الروح بما تتمتع به من قوى وميزات تصلح للانطلاق بالمرء إلى قمة القيم السماوية العليا لكنها لا تنسجم أبداً مع الماديات التي تقيد الانسان وتجذبه نحو الأسفل وتدفعه نحو السقوط.
والماديات نطاق واسع يشمل: حب الجمال والمال والشهرة والرئاسة والراحة وغيرها، ويتجلى ذلك بقوة عند التوجه إلى الصلاة عبر قياس مدى الإقبال إليها ذلك أن المتلوث بعالم الأشياء يقوم إلى الصلاة متثاقلا ثم هو يفتقد لذة المناجاة مع الحق المتعال ويفقد أجمل وأروع لحظات الأنس في حضيرة الطهر والقدس، وما ذلك إلا لأن بوصلة القلب منجذبة بقوة نحو الأشياء المتسافلة.
القميص الذهبي والاغتيال المروع!
وفي القصة التالية عبرة كبيرة لكل من يتعلق بعالم الأشياء، على اختلاف الدرجات والمستويات، فقد فكر أحد أثرياء الهند قبل سنوات قليلة في أن يمتلك أثمن قميص في العالم! فأتفق مع أحد مشاهير الصاغة من أجل صنع ذلك القميص وقد استخدم ذلك الصائغ 16 صائغاً وعاملاً عملوا أياماً طويلة لصناعة هذا القميص النادر، وقد تكوّن القميص من 14 ألف قطعة ذهبية! وبلغت قيمته 12 مليون و700 ألف روبية أي ما يقرب من 300 مليون دينار عراقي ويساوي 250 ألف دولار امريكي!
ألا ترون أن هذا الرجل لا يعدو كونه يعيش في حضيض البهيمية بعيداً عن عبق المعاني الإنسانية السامية وعن الفطرة الطيبة؟ وكان المفروض عليه لو حكّم ملاك العقل والفطرة والإحسان والإنصاف أن ينفق هذه الأموال على الفقراء والمساكين واليتامى وعلى المشاريع الإنسانية والخيرية.
ولكن ماذا كانت عاقبة هذا التبجح والاستعلاء والركون إلى عالم الأشياء؟ لقد استدرجه – والقصة حدثت قبل أشهر - بعض أصدقائه إلى حفل ثم هجموا عليه – وكانوا ثلاثة عشر شخصاً - بالسكاكين وقطعوه وانتهى كل شيء!!
وكم لهذا الشخص من نظير ولكن بتجليات أخرى: في عالم الشهرة والجاه أو السلطة والرئاسة وغيرها من العوالم والتي كلها تندرج في عالم الأشياء الساحر الموهوم والذي قتل الكثيرين ولازال، فكم ضحى الكثير من الكبار والمسؤولين بتقواهم أو بدينهم أو بحب الناس لهم لمجرد التشبث أشهراً أو سنين أكثر بالسلطة أو الرياسة أو الاستحواذ على المزيد من الأموال أو غير ذلك؟ والأكثر مع ذلك كله لازالوا في غفلة أبدية!
وجدته مغرماً بوهم (الأضواء)!
وقد سمعت من أحدهم كلاماً استغربت منه اشد الاستغراب إذ قال لي انني اتجهت نحو العمل الديني في حقل معين دون حقل آخر لأن (الأضواء) هي مع الدور والحقل الأول؟ وعندما سمعت منه ذلك تملكتني حالة من الحزن الشديد عليه وعلى أمثاله وعلى المجتمع أيضاً حيث وجدته –وهو بمستوى مرموق نسبياً- يبحث عن الجاه الموهوم والشهرة المتخيلة وعن (الأضواء) التي لا تعدو كونها ظلاماً وضلالاً!!.
إن علينا أن نعتبر من ذلك كله وأن نراقب أنفسنا: هل اننا نعبد الله ام اننا عبّاد لعالم الأشياء؟
استمرار المجاهدة وتصحيح الرؤية في تقادم الأزمان
إن البعض من الناس عندما يأتي إلى الحوزة المباركة يجد في نفسه نقاء وطيبة وطهارة عالية جدا إلا انه يشعر بعد سنوات من الدرس والعمل انه بدأت معنوياته بالتراجع والضمور، وقد ذكر لي بعضهم انه قد بدأ الدراسة بنية خالصة مطلقة وبدافع عظيم لخدمة الناس وأهل البيت (عليهم السلام) ورغبة شاملة في التكامل العلمي والمعنوي ولكن ذلك كله بدأ بالاضمحلال شيئا فشيئا وبدأ يميل نحو الدعة والراحة شيئاً فشيئاً بل أحس بأن حب الرئاسة والجاه والتسابق من أجل أشياء عالم الأشياء الفاني بدأ ينمو في داخله رويداً رويداً... فيا ترى ما هو السبب؟ إن ذلك كله يشكل تحذيراً مبكراً وإنذاراً قوياً على أن المخلصين على خطر عظيم وانه سرعان ما يتحول الإنسان من بحبوحة الاخلاص وسمو الروح إلى مستنقع النفاق وحضيض الأنا.
ومن ذلك نكتشف أكثر فأكثر مدى أهمية البحث عن السبل التي تمكّن الإنسان من المحافظة على حالاته المعنوية التي هو فيها من الايثار والاخلاص، وعن الأسباب التي توجب له الانحراف.
ومفتاح السر في ذلك كله هو: (حاكمية عالم الأشياء على الإنسان) فانها هي الخطر الحقيقي، ومن هنا فلابد من امتلاك وسائل وآليات الهيمنة على هذا العالم كي يكون خادماً للإنسان ومحكوماً لا حاكماً ومخدوماً، حتى يصل إلى ساحل النجاة وبحر الكمال والسعادة.
ثم ان التخلص من سلطان عالم الأشياء قد يكون بالتدريج.. وقد يكون دفعة واحدة وبحركة جوهرية انقلابية كما حدث للحر بن يزيد الرياحي.. فأيّنا يكون، وفي مرحلته، حراً رياحياً آخر؟
الاستثناء الأعظم: المعصوم هو القيمة العليا ومدار القيم
بعد ذلك كله نقول: ان هناك استثناء هاماً جداً من قاعدة عالم الأشياء والأشخاص والأفكار وهو ما عبرنا عنه بالشخصيات المطلقة التي حظيت بالعصمة من الذنوب والأخطاء والزلل والاشتباه والجهل بشكل مطلق؛ فان هؤلاء وإن كانوا من عالم الأشخاص إلا أن هذه الذوات المقدسة أصبحت هي المقياس الأتم والأكمل للقيم المطلقة الكبرى ولمطلق القيم العظمى، ومن هنا جاء اللسان المحمدي (صلى الله عليه وآله) بقولته الشهيرة "عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدُورُ حَيْثُمَا دَار"([10])
فنجد أن الحق يتحلق ويتمحور حول الذات العلوية المقدسة كما يتمحور حول الذات النبوية المقدسة.
ومعه فالمرجعية العليا المطلقة هي لهم (عليهم السلام) لا لسواهم فهم المقياس لمدى صحة وسلامة الأفكار وهم الحَكَم النهائي في القيم وما هو قيمة مما ليس بقيمة والمرجع في السلم التراتبي للقيم، فقولهم الحق والصدق كما ان الأنبياء والأوصياء كذلك، واما ما عداهم، فان الكل لا بد أن يخضع لمرجعية (القيم) و(الأفكار) كما لا بد أن يخضع للمراقبة التقييمية سواء الطالب الجامعي أم الحوزوي، وسواء الوجيه والتاجر أم السياسي والمسؤول أم العالم والفقيه، وسواء الأستاذ الجامعي أو المدرس الحوزوي وسواء القيادات الإسلامية أم المرجعية أم الاجتماعية أم غيرهم، ومن الواضح ان المقصود في المقام هو الرقابة الايجابية لا سوء الظن المنهي عنه.
وبعبارة أخرى: لابد ان نقوم بالفحص المستمر عن مدى تطابق المنظومة القيمية على سلوك كل من يحتل موقعاً مسؤولاً في المجتمع.
ولا ريب في انه يجب ان تكون الرقابة بآليات صحيحة ضمن الحدود الشرعية.
مدخل إلى دفع شبهة الغلو عن بعض روايات التأويل
ومن هنا ومن منطلق أن المعصومين (عليهم السلام) هم الاستثناء الأعظم من معادلة عالم الأشياء والأفكار، ندخل في تحليل علمي دقيق حول مسألة الغلو والمقياس الصحيح فيها فان هناك الكثير الروايات المذكورة في كتب الحديث والتفسير (كالكافي وتفسير القمي وكامل الزيارات وغيرها) فيها كنوز من المعارف الدقيقة، لكن بعض العلماء حيث لم يصل الى وجه تلك الروايات رماها بالغلو فطرحها، وهنا نسلط بعض الضوء على حقيقة الأمر بما يثبت أنها ليست من الغلو في شيء.. وهذه بعض النماذج:
فبعض الروايات تصفهم (عليهم السلام) بانهم عليهم تدور محكمات القرآن، ولاحظوا الدقة في التعبير إذ تدور عليهم محكمات الكتاب مع انها محكمات ولم يقل أنه تدور عليهم متشابهاته! فما معنى ذلك؟.
كما وردت روايات عديدة في المراد الباطن من قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)([11]) فان الفواحش هي الخمر والزنا وما أشبه وتطلق الفاحشة على المعصية لفحشها فان المعصية لها درجات فمنها الصغيرة ومنها الكبيرة، واما الفحش فسمي بذلك لأنه يتعدى الحد ومن الواضح أن جميع ما حرم الله في كتابه من الخمر والميسر والأنصاب والازلام فهو رجس من عمل الشيطان ولابد من اجتنابه وهذا هو الظاهر وهو صحيح قطعا, ولكن ورد عن الإمام (عليه السلام) تفسير الفواحش بأئمة الجور وان الخمر مثلاً يعني بها في باطنها فلانا من الطغاة والميسر يعني الطاغية الآخر وهكذا.
كما ورد في الاتجاه المقابل عن مثل (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)([12]) والتي يراد بها في معناها الظاهري هذه الزينة المتعارفة التي يتجمل بها الإنسان، ورد في معناها الباطن أن الزينة الحقيقية هي الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).
هم (عليهم السلام) زينة الكون والوجود
وهناك روايات متعددة بل ومتظافرة إن لم تكن متواترة ولو تواتراً إجمالياً تفسر الآيات القرآنية بالشخوص المعصومة أو تفسير مقابلاتها بأعدائهم وأضدادهم (عليهم السلام) وهي موجودة في أمهات كتبنا والبعض يرميها بالغلو ويلتزم تبعاً لذلك بطرحها، ولكن التأمل الدقيق والتدبر الصحيح يقودنا إلى الوجه الصحيح الذي لا يبقى معه مجال للتأمل والشك والذي لا يسوغ معه طرح السند والهجران، والحديث في ذلك له ذيل طويل سيأتي إن شاء الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين