التفسير العقلي للقرآن الكريم.. دراسة وتقييم
(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (21)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2023-06-03 05:19
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).
الحديث يدور، بإذن الله تعالى، عن التفسير العقلي للقرآن الكريم وذلك في ضمن فصول:
تعريف العقل
الفصل الأول: تحديد المقصود من العقل في المقام، فإن للعقل معاني أو تفسيرات متعددة، وقد جرى التطرق في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية)(1) إلى أربعة عشر معنى أو تفسيراً للعقل، ولكن يكفينا في المقام استعراض معنيين من تلك المعاني:
أ- ما هو مناط التكليف
المعنى الأول: ان يقصد بالعقل ما هو مناط التكليف ومداره فان شرائط التكليف العامة أربعة: العقل والقدرة والاختيار(2) والبلوغ(3)، وهو الذي خاطبه تعالى حين خلقه كما جاء في الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام): (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحْسَنَ مِنْكَ، إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهَى، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ)(4) ومن البديهي حجية العقل بهذا المعنى بل ان الإذعان بالشرع والإعجاز والبراهين على الله تعالى ووحدانيته.. إلخ لا يمكن إلا به ولا يحصل إلا بالاعتماد عليه، ولذا كان (العقل حجة من باطن، كما كان الشرع حجة من ظاهر) قال الإمام الكاظم (عليه السلام): (إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ...)(5).
ولا كلام في ذلك وإنما الكلام في سعة دائرة العقل الفطري وفي نطاقاته، فنقول: المسلّم من دوائره: المستقلات العقلية والملازمات، فمثلاً: حسن العدل وقبح الظلم ووجوب المقدمة عقلاً تبعاً لوجوب ذيها، وامتناع التكليف بالضد بحكمٍ مماثلٍ لحكم ضده كأن يوجب الشيء وضده العام أو الخاص وحكم الشرع كملازمٍ لحكم العقل والعكس.. وهكذا.. والبحث عن ذلك يستدعي مقاماً آخر.
ب- ما تولد من تراكم الخبرات والتجارب والمعلومات
المعنى الثاني: أن يقصد به ما تولّد من تراكم التجارب والخبرات والعلوم أو المعلومات أو ما يراها الشخص علوماً ومعلومات.
ومن الواضح انه لا يمكن القول بحجية هذا المعنى للعقل على إطلاقه، إذ التجارب قد تكون ناقصة وقد يتطرق إليها الخطأ في واحد أو أكثر من مقدماتها، أو في مراحل التجريد والتعميم وغير ذلك(6)، كما أن المعلومات قد تكون خاطئة أو محرّفة أو محوّرة، والعلوم قد يثبت بطلانها، وقد سبق الكلام عن ذلك في مبحث (التفسير العلمي للقرآن الكريم).
وقد ورد في الشعر المنسوب لأمير المؤمنين (عليه السلام):
فان العقل عقلان(7)
فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع
إذا لم يك مطبوع
وبعبارة أخرى: العقل قد يقصد به العقل الفطري، وقد يقصد به العقل البرهاني، وقد يقصد به العقل الاكتسابي، والعقل البرهاني قد يتسرب إليه الخطأ من حيث خلطه بالعقل المغالطي أو الجدلي فان الخط الفاصل بين البرهان والمغالطة دقيق وقد يخفى على أعاظم المفكرين كما قد تختلط أحكام القوة المتعلقة، بالقوة المتوهمة أو القوة المتخيلة.
وفي إطلالة أشمل نقول: ان العقل في الحقيقة هو أحد مصادر المعرفة، وهي عشرة بين مصدر صحيح سليم ومصدر خاطئ سقيم وقد أشرنا إليها في كتاب (نقد النظرية الحسية)، إلا أن الشاهد هو ان العقل حتى بمعناه الأول الفطري هو أحد مصادر المعرفة وليس طريق المعرفة منحصراً به ومن ذلك نكتشف خطأ قدماء اليونانيين الذين (كانوا يعتقدون أن العقل وحده مصدر المعرفة اليقينية، ولا يَرَوْن حدودًا لإمكانياته، وكان من أخطائهم الكثيرة في هذا المجال استخفافهم بكل مصدر آخر للمعرفة غير العقل حتى المصدر الحِسي، والتأمُّل في الكون، والسّيْر فيه لجمع المعلومات والاستقراء العلمي. وقد تحدّث ابن الجوزي عن تلبيس إبليس على فرق الفلاسفة، ومَن تابعهم (انظر: تلبيس إبليس، ص: [39-40]. ط 1، 1421هـ/ 2001م. دار الفكر- بيروت) )(8).
أنواع التفسير: العقلي، الاجتهادي والتفسير بالرأي
الفصل الثاني: الفرق بين التفسير العقلي، التفسير الاجتهادي والتفسير بالرأي:
التفسير بالرأي
أ- أما (التفسير بالرأي) فيقصد به ذلك التفسير المنفلت عن الضوابط العقلية، العقلائية، العرفية والشرعية، غير الممنهج، وهو ذلك التفسير الذوقي أو ذلك الذي يقتحم بطون القرآن وتأويله دون دلالة من الوحي أو أثاره من النقل مع انه علم اختصه الله لنفسه ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام) إذ (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).
إنّ من خصائص التفسير بالرأي أنه يتجاوز كافة الحدود والضوابط والأطر اللغوية والعقلائية والعرفية، لينسج كما تنطق به قوته المتوهمة أو المتخيلة أو كما تمليه عليه أهواؤه وشهواته أو كما تدفعه إليه آراؤه ومعتقداته غير المبنية على البراهين العقلية.
1- علة سقوط ألف الوصل من البسملة!
ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسير (لطائف الإشارات) للقشيري: (يقول: سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله، وليس لإسقاطها علّة، وزيد في شكل الباء من بسم الله، وليس لزيادتها علّة لـيُعلَم أنّ الإثبات والإسقاط بلا علّة: فلا يقبل من قَبِلَ لاستحقاق علّة، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب علّة!)(9).
لكنّ الغريب ليس ان هذه دعوى بلا دليل بل انها دعوى تقارعها الأدلة إذ من أوضح الواضحات كونه تعالى حكيماً وقد وصف نفسه تعالى بذلك حتى وردت صفة الحكيم له جل اسمه في القرآن الكريم تسعاً وثلاثين مرة، ومنها قوله تعالى: (هُوَ الَّذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ) (سورة آل عمران: الآية 6) (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ) (سورة آل عمران: الآية 18) بل وصف تعالى القرآن نفسه بانه حكيم إذ قال جل اسمه: (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكيمِ) (سورة آل عمران: الآية 58) كما قال تعالى: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (سورة الحجر: الآية 19) (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْميزانَ) (سورة الرحمن: الآية 7) (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (سورة الأعراف: الآية 8) (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (سورة الحديد: الآية 25) و...
لكنّ الذي دعاه إلى ذلك مجرد التفسير بالرأي المبتني على مبنى اعتقادي باطل في حد ذاته إذ بنى على ان (أفعال الله تعالى غير معلّلة بالأغراض) وقد ناقش في العلل التي ذكرها المفسرون لإسقاط الألف وإطالة الباء، ولكن نقول: لنسلم جدلاً أن مناقشاته صحيحة لكنّ غاية ما تفيده هو أن ما استعرضه من العلل ليست بعلل، لكنّ نَفْيَ كونِ المذكورات في كلمات المفسرين عِللاً لا يثبت كون أفعال الله تعالى وأقواله وكافة مناحي (الذكر الحكيم) بلا علة، فهو مصادرة من أوضح أنواعها.
2- (وَلا تَقْرَبا) أي لا تهتم بشيء هو غيري!
ومن الأمثلة أيضاً: (ما ذكره في تفسير الآية (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) (سورة البقرة: الآية 35): لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره، أي لا تهتم بشيء هو غيري.
قال: فآدم (عليه السلام) لم يعصم من الهمّة والفعل في الجنة، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك.
قال: وكذلك كل من ادّعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظراً إلى هوى نفسه، لحقه الترك من الله عز وجل مع ما جبلت عليه نفسه، إلّا أن يرحمه الله، فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوّه وعليها. قال: وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لـمّا أدخل الجنة، ألا ترى أنّ البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه، فغلب الهوى والشهوةُ العلمَ والعقلَ والبيان ونور القلب، لسابق القدر من الله تعالى، كما قال (صلى الله عليه وآله): الهوى والشهوة يغلبان العلم والعقل(10))(11)
أقول: ذلك من أوضح أنواع التفسير بالرأي إذ يبتني على الانفلات المطلق من دلالات الألفاظ على معانيها ومن الأوضاع اللغوية والأفهام العرفية – العقلائية وقد قال تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ) (سورة إبراهيم: الآية 4) (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ) (سورة الشعراء: الآية 195) فأين (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) فأين (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) من (لا تهتم بشيء هو غيري)! فهل ارتأى انّ (الشَّجَرَةَ) هي اسم لغير الله تعالى أو صفة له؟ وانّ (لا تَقْرَبا) هو لفظ يفيد معنى (لا تجعلا همتكما)؟.
بل قد يقال: بانه يبني، في جوهره، على دعوى ان ظواهر بعض الآيات ليست عميقة أو ذات كثير فائدة، لذلك لا بد أن تُختلق لها معاني عميقة من عالم المعنى، إذ أية فائدة أو أي معنى جديد، على ما قد يتوهمه المفسر بالرأي، في القول بـ(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) فانه كلام يمكن أن يصدر من أي شخص كما قد يزعم المفسر بالرأي، لذلك يلجأ المفسّر بالرأي والذوق إلى تفسيره بمعنى يرى انه أعمق فيقول انه ينهى عن مساكنة الهمة لشيء غير الله تعالى! أو قد يبتني على وهم اعتقده فأراد الدفاع عنه وهو أن آدم كان أجلّ من أن يعصي الله تعالى فيخالف مثل هذا الأمر الواضح السهل (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) لذا اوّله بمعنى عميق صعب، يصعب حتى على آدم الالتزم به وهو ان لا يهتم بشيء غير الله تعالى!
والصحيح: انه يبتني على الحرص الشديد على تشييد المباني الصوفية والعرفانية بأية طريقة كانت ولو بالتصرف في كتاب الله وليّ عنق النصوص وتسخيرها لمراداته كيف شاء!
التفسير الاجتهادي
ب- وأما التفسير الاجتهادي، فيمكن أن يفسر بتفسيرات متعددة، لكن نشير إلى تفسيرين اثنين يدور حكمهما بين السلب والإيجاب:
الأول: التفسير بالظنون المعتبرة، أي ما بنى عليها العقلاء من شتى الملل والنحل، من حجية الظواهر من عمومات ومطلقات وغيرها ومن أوامر ونواهي وغيرها، ومن الواضح ان هذا النوع من التفسير، بشروطه(12) حجة لكنّ نسبته مع التفسير العقلي هي العموم والخصوص من وجه كما سيظهر.
الثاني: التفسير بالظنون غير المعتبرة كالقياس والاستحسان أو حتى مجرد الاحتمال، أو كتفسير آية بمعنى يخالف ظاهرها لمجرد مقاربتها لآية أخرى أريد بها خلاف ظاهرها بقرينةٍ، كأن يقول: انّ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (سورة عبس: الآية 24) اوّلته بعض الروايات بـ(العلم من أين يأخذه) فلنا أن نؤول أية آية أخرى وردت فيها مفردة الطعام بالعلم كقوله تعالى (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) (سورة الأحزاب: الآية 53)! وكذلك التفسير بالسياق على خلاف عموم الآية أو إطلاقها أو ظاهر النهي فيها أو ما أشبه فإن السياق القرآني حتى إذا قلنا بحجيته فانه أضعف الظهورات الست، كما صرح به في (بحر الفوائد) للاشتياني، وكما هو مبنى العقلاء أيضاً إلا فيما أوجب انصرافاً بشروطه. فتدبر.
ج- وأما التفسير العقلي فيقصد به ما سبق في الفصل الأول، ونسبته مع التفسير الاجتهادي هي العموم والخصوص من وجه، لأن الأدلة النقلية التي تشكل الظنون المعتبرة تارة تتطابق مع مفاد المستقلات العقلية أو الملازمات القطعية وتشير إليها وتارة لا، كما ان المستقلات العقلية تارة توافقها النصوص الظنية وأخرى لا.
نعم قد يقصد بالتفسير العقلي مطلق التفسير الاجتهادي فيكون حكمه حكمه.
تقييم التفسير العقلي
الفصل الثالث: ان التفسير العقلي للقرآن الكريم، قد يكون صائباً وقد لا يكون، وذلك لأنه إن استند إلى المستقلات والملازمات كان حقاً، وإلا أمكن أن يكون باطلاً.
دعائم العقل الخمسة في أحكامه
والسبب في ذلك هو أن العقل في أحكامه يعتمد، كما قال بعضهم، على دعائم خمسة هي: (أن العقل لايقوم إلا بملكات خمس وهي الإرادة , والإدراك , والاستنتاج , والحافظة , والذاكرة . ومن المستحيل تصور وجود العقل بدون إحداهن . لذلك ينقسم العقل إلى نوعين لاثالث لهما وهما : عقل بالفطرة (ما يعرف بالغريزة) و عقل مكتسب)(13).
الخطأ في حكم العقل للخطأ في الإدراك أو الاستنتاج
أقول: لا شك في ان العقل حتى في دائرة مستقلاته والملازمات، لا يمكنه أن يحكم حكماً سليماً إلا بأركان عديدة نقتصر منها على اثنتين في هذا البحث: الإدراك والاستنتاج.
أما الإدراك، فلأن تصور الشيء على حقيقته هو الشرط الأول للحكم عليه بحكم ما أو نقيضه أو ضده أو خلافه(14)، ولذا قد يكون تصوره ملازماً للتصديق به، وقد يعكس، وقد لا ينتج تصوره شيئاً.
ومن أمثلة الأول: ان الإنسان العاقل إذا تصور مفهوم (الممكن) على حقيقته لم يكن له مناص إلا من الإقرار بانه لا بد له من علّة وخالق، وذلك لأن الممكن يعني متساوي النسبة للطرفين، أي ما كان في حد ذاته لا بشرط تجاه الوجود والعدم أو العلم والجهل أو الشجاعة والجبن أو ما أشبه، أي ما كان قابلاً للطرفين مع خلوه عن اقتضاء أي منهما، وحينئذٍ فانه لا بد له لكي يترجح وجوده على عدمه من علّة الوجود كما تكون علّة العدم عدم علّة الوجود.
ومنشأ الخطأ في أحكام المفكرين أو الفلاسفة أو غيرهم، والمدعى كونها عقلية يعود، في كثير من الأحيان، إلى أن إدراك الموضوع أو المحمول أو النسبة لم يكن إدراكاً صحيحاً سليماً لذا كان الحكم سقيماً بدوره.
أ- الكيّا: الحِجاج القرآني، للعوام لا للخواص!
ومن أمثلة ذلك ما تبناه الفيلسوف أبو الحسن الطبري المعروف بالكيّا (وفي القرآن حِجَاج، وإن لم يكن فيه الغلبة والفَلْج، غير أن العامي يكتفي به، كقوله تعالى: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) (ق من الآية:15) وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العِياء)(15).
وهذا يعني أن الذي ينكر الحشر والمعاد إنما ينكره لدعوى استحالته لا لأنه مُتعِب لله تعالى كي يجيب تعالى بـ(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ).. ولذا فانه يرى استناداً إلى هذا المثال وأمثلة أخرى ضربها، أن القرآن إنما يحتج لإقناع العوام وأما الخواص فعليهم طلب الاحتجاجات القوية من العقل والفلسفة، قال: (فمبادئ النظر كافية لهم(16). فإن قيل: فإذا لم يجب هذا النظر على كافة الناس، فهل يجب على الآحاد؟ قلنا: أجل يجب في كل عصر أن يقول به آحاد الناس، وهو فرض من فروض الكفايات)(17).
المناقشة: الخطأ في إدراك معنى الآية وفي الاستنتاج أيضاً
أقول: ولكنّ هذا الخطأ الكبير الفاضح في ما تصوره حكماً عقلياً قطعياً وفي تفسيره هذه الآية من القرآن الكريم بنحوٍ حتى أصبح، بنظره، لا يصلح إلا للعوام، مبني على خطأه أولاً في الإدراك وخطأه ثانياً في الاستنتاج وتوضيحه:
معنييان للعيّ
إنّه توهم ان (أَفَعَيِينَا) يعني (أفتعبنا) فأشكل بما أشكل مع انه لو راجع كتب اللغة أو حتى كلمات المفسرين، لوجد أن للعي معنيين: أولهما هو العجز وثانيهما هو التعب، والآية القرآنية دليل قاطع محكم عقلي للفيلسوف وغيره على كلا التفسيرين وتوضيح ذلك: ان العي مصدر لأمرين:
1- يقال: عيَّ (بالادغام)، يعيَى، عَيّاً بفتح العين، أي عجز ويستعمل في العجز عن القيام بفعل من الأفعال كالعجز عن الطيران بدون أجهزة أو العجز عن الحياة من دون تنفس لفترة طويلة جداً.
2- ويقال: عَيِي (من غير ادغام)، يعيَى، عِياً (بالكسر) ويراد حَصِر عن الكلام.
فهذا كله بمعنى العجز، وقد يأتي العي بمعنى التعب، تقل: أعياه الأمر: أعجزه، أو أعياه الأمر: أتعبه.
(أَفَعَيِينَا) أي (افعجزنا)
فإذا فسّرنا (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) بمعنى أفعجزنا بالخلق الأول، كان برهاناً عقلياً قطعياً؛ إذ مفاده أفعجزنا بالخلق الأول كي نعجز بالخلق الثاني؟ فان حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد؛ فان من يمكنه إيجاد (الجواهر) إضافة إلى (الأعراض) بَدواً من كتم العدم يمكنه إيجاد مثلها بل إيجادها ثانياً، بل هو أحرى وأجدر بأن يكون مقدوراً عليه.
وقد جرى العديد من المفسرين على تفسير العي في الآية بالعجز، قال في مجمع البيان: (ثم قال سبحانه جوابا لقولهم: (ذلك رجع بعيد): (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي أفعجزنا حين خلقناهم أولاً، ولم يكونوا شيئاً، فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم. وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بأن الله هو الخالق، ثم أنكروا البعث.
ويقال لكل من عجز عن شيء: عيي به.
ثم ذكر أنهم في شك من البعث بعد الموت، فقال: (بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ) أي بل هم في ضلال وشك من إعادة الخلق جديداً.
واللبس: منع من إدراك المعنى بما هو كالستر له. والجديد: القريب الانشاء)(18).
شبهة استحالة إعادة المعدوم واستحالة الخلق بعد الخلق
لا يقال: إعادة المعدوم فيها شبهة الاستحالة بل قال في المنظومة:
إعادة المعدوم مما امتنعا
وبعضهم فيه الضرورة ادّعى(19)
إذ يقال: بدأ الخلق من العدم فيه شبهة الاستحالة أيضاً بل هي أقوى، فإذا امتنع هذا امتنع ذاك وإن أمكن أمكن، فكيف تجر هذه الباء دون تلك؟ والجامع: ان كلتا الشبهتين خلاف الضرورة والوجدان فلا يعتنى بها الإنسان بما هو إنسان.
تحقيق معنى (إيجاد الشيء من العدم)
توضيحه: ان (إيجاد الشيء من العدم) سواء أقلنا بأن الموجِد هو الله تعالى أم الطبيعة أم غيرها، فقد تطرح شبهة الاستحالة على وجهين:
أما إذا قلت (إيجاد الشيء من العدم) أو (وجود الشيء من العدم) فيرد عليه ان (من) إما نشوية أو ابتدائية(20)، ولكِنْ كلاهما محال؛ إذ العدم ليس بشيء كي ينشأ منه الوجود كما ليس بشيء كي يكون مبتداً لوجود؛ ألا ترى أنك تقول (خَلَقَ مِنْها زَوْجَها) (سورة النساء: الآية 1)، فهناك شيء موجود انشأ منه معدوم فصار موجوداً، والباء في الآية الكريمة للتبعيض أو للابتداء أو هي نشوية، وتقول (سرت من البصرة إلى الكوفة) فالبصرة موجودة فصارت مبتدأ السير ولكن العدم ليس بشيء أبداً فلا يصح القول: (خَلَقَ الموجودات من العدم) أو (خُلِقَتْ الموجودات من العدم) أو (وجدت من العدم) سواء نشوية كانت أم ابتدائية!!.
وأما إذا تخلينا عن المناقشة الفنية اللغوية الدقيقة السابقة فننقل الكلام إلى عالم المعاني فنقول: شبهة الاستحالة هي: انه يستحيل خلق الشيء بعد عدمه (لا من العدم) أي يستحيل خلق شيء وإيجاده مطلقاً وذلك لأننا نسأل: هل توجده العلة وهو موجود أو وهو معدوم أو لا هو موجود ولا معدوم؟.
والأول يستلزم تحصيل الحاصل، والثاني يستلزم اجتماع النقيضين (إذ يوجده وهو معدوم يعني حال عدمه) والثالث يستلزم ارتفاع النقيضين.
بعبارة أخرى: نسأل: في آن الإيجاد (وهو مثلاً جزء من تريليون جزء من الثانية) هل انّ متعلّق الإيجاد موجود في نفس الآن؟ فيلزم تحصيل الحاصل، أو معدوم في نفس الآن فيلزم اجتماع النقيضين، أو لا هذا ولا ذاك فيلزم ارتفاعهما.
والحاصل: انه كما ان الشبهة في قبال الإيجاد من العدم أو إيجاد المعدوم أو إيجاد الشيء بعد عدمه، من الشبهة في مقابل البديهة التي يرفضها صريح العقل، فكذلك الشبهة في إمكان إعادة المعدوم، فإذا كان الله تعالى عاجزاً عن الثاني حسب قولهم نظراً للاستحالة العقلية فهو عاجز عن الأول (الخلق الأول) نظراً إليها وحيث ان التالي باطل فالمقدم مثله.
وقد صاغ تعالى كل ذلك في عبارة دقيقة عميقة وعرفية واضحة ظاهرة في الوقت نفسه مما يعد من اسمى أنواع الإعجاز في الكلام فقال: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي فأعجزنا عنه لنعجز عن إعادته!
(أَفَعَيِينَا) أي (أفتعبنا)
وأما إذا تنزلنا وسلّمنا ان (أَفَعَيِينَا) يعني أفتعبنا، فان الاستدلال العقلي يبقى بحاله بل قد يكون أقوى إذ ان عدم التعب بالخلق الأول، يستبطن عدم استحالته مع زيادة انه لا يتعب به، فكيف يتعب بالخلق الثاني والمستبطن عدم استحالته عليه؟ فإن الحديث عن التعب في القيام بشيء لا يعقل إلا بعد الفراغ عن إمكانه فانه إذا كان مستحيلاً عُلّل عدم القيام به باستحالته لا بالتعب من القيام به، إذ مع وجود الأسبق رتبة (الاستحالة) لا يعلل باللاحق رتبة (التعب) فانه لغو وباطل من القول.
فقد ظهر أن خطأ الكيّا، بناءً على تفسير العي بالعجز هو في إدراك معنى العي، وان خطأه بناء على تفسيره بالتعب هو في استنتاجه فتدبر جيداً.
تنبيه: تشير بعض الروايات إلى تأويل الآية الشريفة وانه عن خلق عوالم أخرى جديدة وليس فقط عن إعادة العالم القديم نفسه ليكون مصداقاً لإعادة المعدوم، وعليه يكون الجواب في الآية هكذا: هل استحال علينا خلق العالم الأول (والشاهد على عدم استحالته وجوده فإن أدل دليل على إمكان الشيء وقوعه) كي يستحيل علينا خلق عالم آخر مماثل له؟ أو هل تعبنا بالأول كي نتعب بالثاني؟.
فقد ورد في تفسير الصافي: (بل هم في لبس من خلق جديد أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة الإعادة والتنكير للتعظيم والاشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد وفي التوحيد عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن هذه الآية فقال: (تَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَفْنَى هَذَا الْخَلْقَ وَهَذَا الْعَالَمَ، وَسَكَنَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، جَدَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَالَماً غَيْرَ هَذَا الْعَالَمِ، وَجَدَّدَ عَالَماً مِنْ غَيْرِ فُحُولَةٍ وَ لَا إِنَاثٍ، يَعْبُدُونَهُ وَيُوَحِّدُونَهُ، وَيَخْلُقُ لَهُمْ أَرْضاً غَيْرَ هَذِهِ الْأَرْضِ تَحْمِلُهُمْ، وَسَمَاءً غَيْرَ هَذِهِ السَّمَاءِ تُظِلُّهُمْ، لَعَلَّكَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ الْوَاحِدَ، أَوْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُقْ بَشَراً غَيْرَكُمْ؛ بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَلْفَ أَلْفِ عَالَمٍ وَأَلْفَ أَلْفِ آدَمٍ، وَأَنْتَ فِي آخِرِ تِلْكَ الْعَوَالِمِ وَأُولَئِكَ الْآدَمِيِّينَ)(21).
وفي الخصال(22) والعياشي عنه (عليه السلام) ما يقرب منه وقد مضى في سورة إبراهيم (عليه السلام))(23) هذا.
ب- ابن تيمية: لله يدٌ ولكن لا نفسّرها بالقدرة!
ومن أمثلة الخطأ في الاستنتاج ما ذهب إليه ابن تيمية وابن عربي، من أن الله جسم ولكن لا نفسره، قال ابن تيمية: في رسالته المدنية: (مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة المفضلة، ومن سلك سبيلهم من الخلف، أن هذه الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الصفات تمر كما جاءت، ويؤمن بها، وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل.
وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف منهم - الخطابي- مذهب السلف: أنها تجرى على ظاهرها، مع نفي الكيفية، والتشبيه عنها.
وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله.
فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية. فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدًا وسمعًا. ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ومعنى السمع: العلم)(24).
تحرير محل البحث
ولكي تتضح وجوه الخطأ في كلامه لا بد من الإشارة إلى الأقوال في المسألة:
1- قول العدلية والمعتزلة وفصحاء العرب وغيرهم من المنزّهة ان (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ) (سورة الفتح: الآية 10) يراد به (قدرة الله فوق قدراتهم) فالمجاز في الكلمة و(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (سورة الفجر: الآية 22) أي جاء أمر ربك فالمجاز في الحذف و(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (سورة القيامة: الآية 23) أي إلى رحمة ربها ناظرة (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (سورة طه: الآية 5) أي استوى بقدرته على عرش المالكية والملكية والملوكية أو ما يقرب من ذلك، فهي إذاً قد أريد بها معانيها المجازية، والقرآن قد نزل بلغة العرب، والمجاز يملأ كلماتهم، بل المجاز هو سيرة العقلاء في كل اللغات.
2- قوله المشبّهة، وهو أن لله تعالى يداً حقيقية كأيدينا وجسماً يُنظر إليه ومجيئاً وذهاباً مادياً.. إلخ.
فهذان فريقان، وحيث ان الفريق الثالث رأى أن هذا القول يستلزم على الله تعالى المحال لأن الجسم محتاج إلى الحيّز والمكان كما هو محدود بالجهات كما يلزمه التغير وهو لا ريب محل الحوادث، وذلك كله مستحيل في حقه تعالى، كما رأى هذا الفريق ان القول الأول يستلزم الخروج عن المعاني الحقيقية إلى المعاني المجازية، وهو برأيهم خطأ، لذا سلكوا طريقاً ثالثاً هو ما ذكره ابن تيمية من أن لله تعالى يداً حقيقةً ولكن لا نفسر اليد بالقدرة، ومآله إلى اننا لا نعلم معناها ما هو، كي لا يقال انه يلزم التجسيم.
المناقشات
ولكنّ كلامه غير صحيح لعدة جهات:
ليس المجاز تأويلاً وليس المجاز تعطيلاً
أولاً: أما قوله: (وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل) حيث توهم ان التأويل (أي القول ان يد يُعنى بها القدرة، فقد أولناها) يفضي إلى التعطيل أي تعطيل دلالة الكلمات على معانيها وصفاته على المراد منها، ففيه:
انّ هذا من المجاز وليس المجاز من التأويل أبداً، ولو سلّمنا نقول: ان هذا التأويل (مجاز) ولكن المجاز ليس تعطيلاً أبداً كما أن الحقيقة كذلك، فان (دلالة اللفظ على الموضوع له حقيقة) و(دلالة اللفظ على غير الموضوع له بمعونة القرينة مجاز) فكل منهما دال على معنى: هذا بالوضع وهذا بالقرينة فأي تعطيل في ذلك؟ ألا ترى أنك إذا قلت: رأيت أسداً يرمي قاصداً رجلاً شجاعاً، فهل عطّلت لفظ الأسد عن معناه؟ كلا، بل الأسد موضوع ليدل على الحيوان المفترس إذا كان وحده أي بدون قرينة، وأما مع القرينة فانه يدل على المعنى المجازي دون ريب، وكما أن ذلك (الحقيقة) مما تبانى عليه العقلاء، فكذلك هذا (المجاز) مما تبانى عليه العقلاء فاما أن نقبل كلا البنائين أو نرفض كليهما معاً!
قياس الجوهر على العرض
ثانياً: قوله: (فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية. فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدًا وسمعًا. ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ومعنى السمع: العلم) يرد عليه: انه قد خلط خلطاً فاضحاً بين ما هو بمعناه المعهود من دائرة الأعراض والجواهر، وبين الصفات والذات فان (العلم) صفة فنثبت وجودها لله (كما صرح به) من غير أن نعلم كيفيتها، لكنّ (اليد) ليست صفة بل هي جوهر أي هي جسم، فإذا أثبَتَّ اليد له فقد أثبت الجسم له = الجوهر له، لا انك أثبت الصفة له، وكأنه قد غرّته مفردة (له) فتدبر.
العلم مَقْسَم للممكن في حقه تعالى والمحال عكس اليد
ثالثاً: وهو العمدة، فانه مع قطع النظر عن كون (اليد) جوهراً والعلم صفة، ولا يقاس أحدهما على الآخر، نقول: سلّمنا أن اليد أيضاً صفة (أو أن العلم أيضاً جوهر، لاختلاف أنواعه) لكنّ الفرق الذي صحّح إثبات صفة العلم له تعالى من دون كونه إثبات كيفية، عكس إثبات اليد له الذي هو، لا مناص، إثبات كيفية، هو: ان إثبات اليد هو عين إثبات الكيفية لأن اليد إذا رفضتَ إرادة المعنى المجازي منها أي (القدرة) وقلتَ ان المعنى الحقيقي مراد (كي لا يلزم التعطيل) ولكن لا نعلم كيف، لكنها، على أية حال، جسم دون ريب أي اليد اسم حقيقة لهذا الجسم المعروف في بدن الإنسان وليست أسماً للأعم أو المقسم، وذلك عكس (العلم) فانه ليس أسماً للصورة المرتسمة من الشيء لدى الذهن، وهو العلم الحصولي، بل هذا إنما هو نوع من أنواعه فقط، بل العلم اسم للمقسم والجامع بين العلم الحصولي والحضوري والإضافة الاشراقية وغير ذلك فإذا اثبتناه له تعالى لم نثبته له بمعنى الصورة المرتسمة (بدعوى انه الموضوع له) لكن نقول نجهل الكيفية أي كيف تكون صورة مرتسمة فيه تعالى مع انه ليس محلاً للحوادث، بل نثبته له بمعناه الموضوع له وهو أن العلم حقيقةً هو الكشف والانكشاف فكلما انكشف لك الشيء فانت عالم به فتارة ينكشف له بصورته، فهو الحصولي، وأخرى بنفسه بحضوره بنفسه بشراشر وجوده لديك فهو الحضوري، وأخرى بإضافتك الاشراقية عليه.. فالعلم على أي هو المعرفة بالشيء بأي نحو كان.. فإذا قلنا الله عالم فانه يعني أن الأشياء منكشفة له فلم نثبت له صورة ذهنية ثم نقول (اننا نثبت صفة لا كيفية) كي يقال فافعلوا مثل ذلك في (يد الله) بل اثبتنا له معنى وجودياً هو انكشاف الأشياء لديه(25)، وهذا المعنى الوجودي العام غير ممحض فيما هو من خواص الأجسام كي يقال: (اثبتم له معنى هو من خواص الأجسام ثم قلتم نجهل الكيفية.. إذاً فاثبتوا له معنى خاصاً بالأجسام وهو اليد وقولوا نجهل الكيفية)!
وجه خطأ قياس ابن تيمية
وقد اتضح بذلك بطلان قوله اللاحق: (وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله هي السابقة إلى عقل المؤمن بل اليد عندهم كالعلم والقدرة والذات، فكما كان علمنا وقدرتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها من الصفات أعراضًا تدل على حدوثنا يمتنع أن يوصف الله بمثلها. فكذلك أيدينا ووجوهنا ونحوها جسام محدثة لا يجوز أن يوصف الله بمثلها)(26) إذ نقول: (علمنا عرض) لأنه علم حصولي، لكنه ليس كل علم عرضاً بل:
علم وإن بدت له مراتب
إذ بعضه جواهر بل واجب(27)
فبعضه كيفية نفسية
فهاهنا أبحاثه حرية
من تلك أن في جنسه أقوال
كيف إضافة أو انفعال(28)
بعبارة أخرى: لقد توهم أنّ العلم يساوي العلم الحصولي، والعلم الحصولي عرض، فإطلاق العلم على الله تعالى إطلاق لعرضٍ من الأعراض عليه مع ان الله ليس محلاً للأعراض ولكنه تعالى أطلق على نفسه عالم وعليم إذاً نقول: نؤمن بذلك كما هو ولكن نقول نجهل كيفيته فكذلك إطلاق (يد الله) عليه!
ولكن يرد عليه: ان العلم أعم من العلم الحصولي ومن العرض ومن الجوهر ومن أي شيء آخر إذ هو الكشف أو الانكشاف مهما كان، فنقول: إذاً هو عالم، بنفس المعنى الأولي العام البديهي للعلم لا بتفسيره المنطقي وهو الصورة الحاصلة، ونقول أيضاً: لكن نجهلُ كيفية علمه، ولا يكون ذلك من جمع الضدين فانه إنما يحصل إذا قلنا هو عالم بعلم حصولي لكننا نجهل الكيفية، بينما اليد لها معنى محدد وليس لها معنى عام كي يعقل وصف الله تعالى بأن له يداً بمعناها الموضوع له، ومعناها المحدد هو الجسم ذو الهيئة والصورة والحد والشكل الخاص فكيف نثبتها لله تعالى حتى مع القول باننا نجهل الكيفية وذلك لأن أصل إثبات المحدود لله تعالى، غلط، كمن يقول الله ثلاثة وواحد، لكننا نجهل الكيفية!!
فقد ظهر ان الخطأ كل الخطأ في تفسيره العقلي لآيات صفات الله تعالى نشأ أولاً من الإدراك أي (الإدراك الخاطئ لمعنى العلم فيه إذ توهمه العرض والعلم الحصولي ولذا قاس اليد عليه) ثم من استنتاجه الخاطئ على ضوء ذلك (وانه كما ان إطلاق العلم وهو عرض على الله صحيح مع اننا نجهل الكيفية، فكذا إطلاق اليد عليه مع انه جوهر، صحيح ولكن نجهل الكيفية). وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين