حل معضلة المتشابهات بتحويل الكيفيات إلى كميات

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (11)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2023-01-07 03:45

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).

والحديث يدور في ضمن محاور:

للمتشابهات أنواع

المحور الأول: انّ المتشابهات، وهي بحسب تعريف الإمام الصادق (عليه السلام) لها (وَالْمُتَشَابِهُ مَا اشْتَبَهَ عَلَى جَاهِلِهِ)(1) على أنواع: إذ قد تكون متشابهة لكونها تستبطن حقيقة / حقائق دقيقة أو عميقة بعيدة الغور أو غامضة، وقد تكون متشابهة لتشابه عللها، وقد تكون متشابهة لتعدد بطونها، وقد تكون متشابهة لتعارضها، وقد تكون متشابهة لتزاحمها، وقد تكون متشابهة لاستغلاق ألفاظها أو إجمالها، ولكل من هذه الأنواع بحث إلا اننا نقتصر الآن على النوع الأول فقط.

المتشابه لعمقه أو دقته أو غموضه

فان من الألفاظ ما تدل على حقائق غامضة أو معمقة أو معقدة أو دقيقة وذلك نظير (الترتب) الذي يعني الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم، لكن هذا التعريف المبسط يخفي عمقاً كبيراً تناوله علماء الأصول بالبحث، وكذلك (الكمومية) أو (فيزياء الكم) فإنها تستبطن حقائق معمقة ومعقدة وغامضة، وكذلك حقائق كـ(الجن) (الملائكة) (الروح)... إلخ

الصَّمد من المتشابهات(2)

ولنمثل لهذا النوع من المتشابه باحدى المفردات القرآنية الشهيرة التي يقرأها كل مسلم كل يوم ما لا يقل عن عشرين مرة، وهي مفردة (الصَّمَدُ) في سورة الإخلاص، ولقد وردت رواية رائعة وغريبة في الوقت نفسه عن الإمام الباقر (عليه السلام) تفصح عن مدى العمق الذي تستبطنه هذه المفردة النورانية (النورية) ومدى السعة والشمولية التي تفصح عنها، قال (عليه السلام): (لَوْ وَجَدْتُ لِعِلْمِيَ الَّذِي آتَانِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَمَلَةً لَنَشَرْتُ التَّوْحِيدَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالدِّينَ وَالشَّرَائِعَ مِنَ الصَّمَدِ(!) وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ جَدِّي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع حَمَلَةً لِعِلْمِهِ حَتَّى كَانَ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ وَيَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَإِنَّ بَيْنَ الْجَوَانِحِ مِنِّي عِلْماً جَمّاً هَاهْ هَاهْ أَلَا لَا أَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهُ أَلَا وَإِنِّي عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَـ(لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) ثُمَّ قَالَ الْبَاقِرُ (عليه السلام): الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا وَوَفَّقَنَا لِعِبَادَتِهِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وَجَنَّبَنَا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ حَمْداً سَرْمَداً وَشُكْراً وَاصِباً وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَمْ يَلِدْ) فَيَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يَرِثُهُ مُلْكَهُ (وَلَمْ يُولَدْ) فَيَكُونَ لَهُ وَالِدٌ يَشْرَكُهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فَيَعَازَّهُ فِي سُلْطَانِهِ)(3) وهي كلمة يصح أن نصفها بأنها عملاقة حقاً وصدقاً.

معاني الصَّمد

وسنحاول ههنا بعقلنا القاصر أن نستنبط ذرة من قطرة من ترليونات القطرات التي يحتضنها جدول من جداول بحار علمه (عليه السلام) ومحيطات معارفه، وذلك بالتدبر في الروايات التي شرحت لنا معنى الصمد والتفكر فيها وبالتدبر في فقه اللغة.

قال الإمام الباقر (عليه السلام) وحدثني أبي زيد العابدين عن أبيه الحسين بن علي (عليهما السلام) أنّه قال: (الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَالصَّمَدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ، وَالصَّمَدُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَالصَّمَدُ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَالصَّمَدُ الدَّائِمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) كان محمد بن الحنفية يقول: (الصَّمَدُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْغَنِيُّ عَنْ غَيْرِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ: الصَّمَدُ الْمُتَعَالِي عَنِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَالصَّمَدُ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالتَّغَايُرِ).

وقال (عليه السلام): (الصَّمَدُ السَّيِّدُ الْمُطَاعُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ آمِرٌ وَنَاهٍ).

قال (عليه السلام) وسئل علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) عن الصمد فقال: (الصَّمَدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُ شَيْ‏ءٍ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْ‏ءٌ).

وقال وهب بن وهب القرشي قال زيد بن علي (عليه السلام): (الصَّمَدُ الَّذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئاً قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَالصَّمَدُ الَّذِي أَبْدَعَ الْأَشْيَاءَ فَخَلَقَهَا أَضْدَاداً وَأَشْكَالًا وَأَزْوَاجاً وَتَفَرَّدَ بِالْوَحْدَةِ بِلَا ضِدٍّ وَلَا شَكْلٍ وَلَا مِثْلٍ وَلَا نِدٍّ)(4).

وبسط القول في شرح كل تفسير من هذه التفاسير الصادرة عنهم (عليهم السلام) يطول، لذا سنقتصر على التفسير الأول فقط (الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ) وعلى المعنى اللغوي للصَّمد وهو المقصود، على أن نضيف في الدرس القادم إلى ما ذكرناه رواية مطولة عن الإمام الحسين (عليه السلام) في تفسير الصَّمد مع بعض التدبر فيها بإذن الله تعالى.

كيفية استنباط أنواع التوحيد الأربعة من (الصَّمد)

فنقول وبالله الاعتصام: ان التوحيد على أربعة أنواع: توحيد الذات، توحيد الصفات، توحيد الأفعال وتوحيد العبادة، وهذه الأنواع الأربعة كلها يمكن أن تستنبط من كلمة الصَّمد بمعنى (الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ) فانه:

توحيد الذات والصفات

أ- ب- يفيد انه تعالى واحد أحد فرد صمد، لا شريك له ولا ندِّ ولا نظير ولا مثيل ولا عديل؛ وذلك لأن ما لا جوف له أولاً: هو ما لا جزء له بالمرة، لا جزءاً حسياً ولا وهمياً ولا عقلياً وثانياً: هو ما كانت صفاته عين ذاته، وما كان كذلك يستحيل أن يكون له ثانٍ إذ يكون حينئذٍ صرف الوجود الذي لا يعقل ان يتثنى أو يتكرر.

أما الأول: فلأن ما له جزء فان له جوفاً إذ يكون للجزء جهات منسوبة إلى سائر الأجزاء، ويكون جزء منه فوق جزء أو تحته أو أمامه أو خلفه أو على يمينه ويساره فيكون الظاهر منه هو الوجه الذي للخارج ويكون جوفه هو الوجه الذي للباطن أو للداخل أو للآخر، ويصح أن نقول بحسب القياس الاستثنائي: كل ما له جزء له جوف لكن الله تعالى لا جوف له (الصَّمد) فلا جزء له.

وأما الثاني: فلأن ما كانت صفاته غير ذاته له جوف إذ صفاته إن لم تكن عين ذاته فهي إما عارضة على ذاته أو داخلة في ذاته وعلى الأخير يكون له جوف إذ دخل شيء منه في شيء منه، وعلى الأول تكون الصفات العارضة هي الظاهر والذات المعروضة هي الجوف؛ فإن العلم مثلاً إن كان عارضاً على الذات أو كان داخلاً فيها أو حالّاً أو جزءً لزم أن تكون تلك الذات في كل الصور ذات جوف.

وبذلك ثبت توحيد الذات وانه واحد أحد لا شريك كما ثبت توحيد الصفات إذ ما لا جزء له بالمرة وما لا صفات له زائدة على ذاته بل صفاته عين ذاته ليس إلا محض الوجود بلا ماهية ولا مشخصات فردية، والتعدد لا يكون إلا بتعدد الماهية أو المشخصات الفردية أو شبه ذلك وذلك لأن كل ما فرض ثانياً عاد أولاً(5). فتدبر.

توحيد الأفعال والعبادة

ج- د- وإذا ثبتت وحدة الذات ووحدة الصفات ثبت التوحيد الأفعالي والتوحيد في العبادة، إذ مادام قد ثبت انه الواجب الوجود الذي لا شريك له فإن كافة الأفعال تنتهي إليه إذ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات.. بعبارة أخرى: كافة أفعال الممكنات ممكنة لا محالة فاحتاجت إلى خالق وإلى عِلّة العلل ولذا قال في المنظومة:

اَزِمّةُ الأمورِ طُرّاً بِيَده

والكُلّ مُستَمِدَّةٌ مِن مَدَدِه(6)

وقال تعالى من قبل (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصيرُ الْأُمُورُ) (سورة الشورى: الآية 53)، وقال: (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) (سورة الإنسان: الآية 30) فلولا إذنه التكويني وإعطائه إيانا الإرادة والقدرة والاختيار لما أمكن لأحد أن يخطو خطوة أو يحرك ساكناً.

وحيث كان جل اسمه وحده الواجب وعلّة العلل وحيث انتهت الأفعال كلها إلى إذنه وإرادته، كان لا بد من عبادته تعالى وحده.. فثبتت الأنواع الأربعة للتوحيد من مفردة (الصَّمد) بأدنى تدبر.

الصمد في فقه اللغة ينتج أنواع التوحيد الأربعة

وأما تفسير الصمد بحسب فقه اللغة فان الصَمْد بفتح فسكون هو القصد، والصَّمد هو المقصود إليه(7) وقد ورد في الدعاء (اللَّهُمَّ إِلَيْكَ صَمَدْتُ مِنْ أَرْضِي)(8) أي قصدتك.

والأنواع الأربعة للتوحيد يمكن استنباطها من هذه المفردة النورانية بهذا التفسير، ولكن بعد إيضاح أن الصمد المصمود إليه قسمان: أ- المصمود إليه لذاته ب- والمصمود إليه لغيره، والأول هو: المقصود الذي تنتهي إليه سلسلة المقاصد أي الذي يستمد كل ما هو غيره منه ولا يستمد هو من غيره شيئاً، فهذا هو الصمد الذاتي وأما الصمد العرضي فهو الذي يستمد غيره منه، ممن هو أدنى منه لكنه بدوره يستمد ممن هو أعلى منه... وهكذا.

ومن الواضح ان الصَّمد الحقيقي أي الصَّمد الذاتي أي الصَّمد الذي يستمد كل ممكن منه ولا يستمد هو من أي شيء، أي الصَّمد من كل الجهات وبكل الجهات، هو واجب الوجود وحده وهو ما صفاته عين ذاته، ويجري الاستدلال السابق في ما لا جوف له بحذافيره ههنا لإثبات التوحيد الذاتي والصفاتي كما يجري لإثبات التوحيد الأفعالي والتوحيد في العبادة، فان المصمود إليه الحقيقي، الذاتي، المنتهي إلى أمره كل أمر والخاضع له كل شيء، هو الحقيق بأن يُعبد ويطاع لا غيره وهو الذي تنتهي كافة الأفعال إلى ساحة أمره إذ (قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ) (سورة الرعد: الآية 16) و(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (سورة يس: الآية 82) (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) (سورة الإنسان: الآية 30) (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (سورة النحل: الآية 53) و(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (سورة الذاريات: الآية 56).

الفيلسوف لموسى (عليه السلام): أنت الذي تزعم أن علّة العلل كلّمك؟

ومن المعبّر هنا ان نستحضر قصة موسى كليم الله (عليه السلام) مع ذلك الفيلسوف، حيث روي ان فيلسوفاً سمع أن رجلاً يسمى موسى (عليه السلام) ظهر وادعى انه نبي الله وكليمه، فشُدِهَ الفيلسوف لذلك حيث ان المقام فوق ان يتخيله أحد: أن يكلم رب الأرباب وآله الكائنات والواحد الأحد، شخصاً بشرياً محدوداً، فقصد ذلك الفيلسوف موسى وقال له: (أنت الذي تزعم ان علّة العلل كلّمك)؟ فقال نعم، فقال: (كيف كلمك)؟ قال موسى (عليه السلام): (من كل الجهات، وبكل الجهات) وقد كَفَت هذه الإجابة الإعجازية في مضمونها، ذلك الفيلسوف لكي يذعن بان موسى نبي حقاً، لذلك قال لقومه انه نبي الله حقاً فاتبعوه.. ووجه الإعجاز في الكلام ان هذا المعنى مما لا يدركه ولا يمكن أن يصفه إلا من كلّم الله تعالى حقاً(9)، وقد استغنى الفيلسوف عن أية معجزة مادية كشقّ القمر ونبع الحجر أو تحول العصا إلى ثعبان أو إبراء الأكمه والأبرص والعميان، حيث اكتفى بهذه المعجزة العقلية.

وأما قوله: (كلمني من كل الجهات) فلأن كلام المادي والمتحيز حيث انه يصدر من المتحيز لذلك يكون له اتجاه يبدأ من المصدر متجهاً إلى غيره، أما كلام الله تعالى فلأنه صادر من اللامحدود لذا فانه لا تحده الجهات لذا سمع موسى كلام الله تعالى يأتيه في وقت واحد من الجهات الست كلها، وبوِزان واحد.

وأما قوله: (وبكل الجهات) فانه أغرب لأن كلامنا إما فقه أو أصول أو فلسفة أو كلام أو نحو أو صرف أو فيزياء أو كيمياء أو طب أو هندسة.. إلخ لكن كلام الله تعالى فوق ذلك كله فانه (بكل الجهات) فهو كلام واحد لكنه طب وهندسة وأصول ورياضيات وفلك وتاريخ و... في وقت واحد!!.

وكذلك قيل: انّ حوض الكوثر كذلك فانه يتضمن كافة اللذائذ المادية والمعنوية في القطرة الواحدة منه، وكذلك أشجار الجنة فان أشجارنا إما شجرة برتقال أو موز أو تفاح أو أناناس.. إلخ لكن شجرة الجنة تنتج كل ذلك في وقت واحد.. بل الثمرة الواحدة منها هي كل ذلك... فتدبر تعرف.

من قواعد المنطق الضبابي

المحور الثاني: ان المنطق الضبابي أو الغيمي أو منطق الغموض أو منطق الفكر التقريبي أو Fuzzy Loqic الذي اكتشفه العالم الآذري لطفي زاده عام 1965 والذي جهل العالم قيمته حتى 1974 حيث ابتدأوا استثماره في كل الصناعات وأصبح الأساس الذي تتعاطى معه الأجهزة الذكية، يعتمد على دعائم أساسية سبق بعضها، ونشير ههنا إلى دعامتين من أهم دعائمه:

تحويل الكيفيات إلى كميات والكميات إلى مجاميع

الدعامة الأولى: تحويل الكيفيات إلى كميات.

الدعامة الثانية: إدخال الكميات في مجاميع(10).

أما الدعامة الأولى: فان السبب الأساسي فيها ان الحاسوب وما يسمى بالأجهزة الذكية والبرمجيات لا تفهم الكيفيات ولا يمكنها التعاطي معها إذ كيف يفهم الحاسوب مثلاً معنى الجودة؟ أو الجمال والقبح؟ أو السرعة والبطؤ؟ أو شبه ذلك بل انه لا يتعامل إلا بالكميات والمعطيات الدقيقة 100% وبالضبط بالمعادلات التي تتكون من صفر وواحد بأشكاله المختلفة (مثلاً: 01/ أو 100/ أو 0100) وهكذا..

ولنضرب لذلك أمثلة:

المنطق الضبابي يحكم آلة التصوير وسرعة السيارة والحواسيب و...

آلة التصوير وكاميرا الفيديو، فان الجهاز لا يفهم معنى التقاط صورة واضحة أو شديدة الإضاءة أو مظلمة أو غير مهتزة وما أشبه، بل إنما يفهم الأرقام فقط لذا فان شدة الإضاءة أو ضعفها، وكذا البُعد والقرب، وغيرها من الكيفيات تترجم إلى كميات تغذى بها الشريحة المتحكمة في الكاميرا فتقوم، تبعاً لذلك، بعملية التنظيم الاتوماتيكي فتزيد الإضاءة الداخلية أو تقترب أو تبتعد أكثر.. والطريقة هي ان تحدد مسافة 20 متراً مثلاً على انها بعيدة (إذ سبق ان البعد الكيفي لا يفهمه الجهاز أما فاصل 20 متراً فهو كمي) وكذلك الإضاءة الشديدة والضعيفة كيفية فتحول إلى كميات محددة، مثل ان تترجم دفقة الفوتونات التي تبلغ مليون فوتون بالدفقة الواحدة، فرضاً،(11) على انها قوية، أو 500 ألف فمتوسطة أو 100 ألف فضعيفة وهكذا تهندس استجابة الجهاز على ضوء المعطيات الكمية التي تصله والتي يمكنه رصدها والتعاطي معها جيداً.

وسرعة السيارة أو بطؤها، فإنها مما لا يمكن لمنظّم سرعة تدفق الوقود أو تشغيل الفرامل ان يفهمه لذا يعطى معطيات كمية كـ(كيلو متر في الدقيقة الواحدة = البطؤ أو الوصول من نقطة أ إلى نقطة ب بستين كيلو متراً في الساعة التي تتشكل من 60 دقيقة تتكون كل منها من 60 ثانية).. وعندما يلقى هذه الأرقام فان المنظّم يستجيب بزيادة دفق الوقود (والتي تحدد كمياً أيضاً كـ5 ميلمترات مكعبة في الثانية، فرضاً) بحسب تلك المعطيات الكمية التي تترجم الحالات الكيفية وتحولها إلى لغة الأرقام.

والمكنسة الكهربائية التي لا تدرك معنى شدة الوساخة و...، تعطى أرقاماً تشكل الأكواد لتلك الكيفيات نظير وجود 500 ذرة تراب أو غبار في السانتيمتر الواحد، (وهي درجة شديدة فرضاً من الوساخة) فتستجيب المكنسة حينئذٍ بشفط أقوى (محدد بطريقة كمية أيضاً) وهكذا.

المنطق الضبابي في (الحب) و(الديمقراطية) و(العدالة)

والغريب ان هذا المنطق الفازي (منطق الضباب) نجسد تجسيداته في علم الأصول والفقه كما نجد تمظهراته في علم السياسة والاجتماع وغيرها ولكن من دون تأطير وإنضاج للقواعد والمبنى بل إنما هو البناء عليه بحسب الفطرة الإلهية أو الذكاء الأصولي، ولنضرب لذلك أمثلة وصولاً إلى القرآن الكريم الذي هو محط الشاهد في كيفية تعاطي بعض قواعد المنطق الضبابي مع (متشابهاته).

1- (الحب) فانه مفهوم كيفي دون شك، وكذا شدته وضعفه، ولكننا يمكننا ان نحوله إلى تجلّ كمي (أي في عالم الإثبات، نذكر له مؤشرات كمية ترشدنا إلى درجة الحب وشدته أو ضعفه) وهي التي يمكن أن نحتكم إليها أيضاً، فمن يدعي انه يحب إمام زمانه عجل الله تعالى فرجه الشريف حباً شديداً، يمكن له أن يكتشف صدقه أو كذبه (وللغير كذلك باستنطاقه) بتحويله إلى عامل كمي، مثلاً: كم يتذكّر يومياً أمام زمانه (عليه السلام)؟ فإن تذكّره في اليوم الواحد مائة مرة فالحب شديد أو مرة فضعيف جداً أو بينهما فبينهما، أو يتذكره طوال الوقت فشديد جداً.

وكذلك من يدعي انه يحب الله تعالى والدين والمعصومين (عليهم السلام) حباً شديداً (وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (سورة البقرة: الآية 165) يمكن تقييم دعواه عبر قلب الكيفية إلى معادلات كمية فمثلاً: هل ينفق 10% من أمواله في سبيل الله كل عام؟ أو 20%؟ أو 50%؟ أو 100%؟ أو هل هو على استعداد حقاً لإنفاق 50% منها أم يقتصر على الواجب 20% فبهذا المؤشر الكمي نكتشف بالبرهان الإنّي، درجة حبّه بل نستطيع أن نحتكم إلى هذا العامل الكمي أيضاً.

2- (الديمقراطية) فان كل حكومة تدعي انها ديمقراطية (استشارية بالمصطلح الإسلامي) وكما يقول الشاعر:

وَكُلُّ يَدَّعِي وَصْلاً بِلَيْلَى

وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَا

إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي جُفُونٍ

تبينَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى

وحيث أن الديمقراطية حالة كيفية، لذا فإن تحويلها إلى مؤشرات كمية سيكون مجدياً وسيكون هو الـحَكم في صحة هذه الدعوى من سقمها وفي تحديد نسبتها ودرجتها أيضاً، فعلى سبيل المثال إذا وضعنا مقياساً كمياً من هذا القبيل: أن الحاكم الأعلى في البلاد، إذا جرى انتقاده بشكل مباشر يومياً مائة مرة في الجرائد والمجلات الشهيرة، فهي حكومة ديمقراطية حقاً، وإذا انتقد مرة واحدة فقط فهي ضعيفة جداً، أو لم ينتقد بالمرة فهي حكومة استبدادية محضة، وكان السيد الوالد (قدس سره) يقول: انّ أفضل وأسهل مؤشر لتشخيص كون الحكومة مستبدة أو ديمقراطية، لأي وافد حتى لو كان غريباً تماماً وممن لا يعرف من السياسة شيئاً ولا يوجد لديه خبير يكشف له حقيقة الأمر، فإن أفضل طريقة هي أن يشتري خمس جرائد مشهورة فإذا وجدها تنتقد الحاكم الأعلى بنفسه وبالصراحة فهي ديمقراطية وإن امتنعت عن نقده واقتصرت على نقد مَن دونه فهي دكتاتورية..

مثال آخر: إذا وجدنا سجون البلد خالية من أي معارض سياسي فهي ديمقراطية، أو وجدنا فيها الألوف منهم فهي استبدادية شديدة، أو فيما بينهما فبينهما.

3- (العدالة) و(الفسق) فانهما حالة نفسية (الملكة العاصمة عن المعصية) يصعب جداً كشفها لكنها حوّلت إلى ضابط كمي تسهل معرفته وهو ان الفاسق من ارتكب الكبيرة مرة واحدة أو من أصّر على الصغيرة عدة مرات، والعدالة بخلافه، وهو ضابط واضح.

المتشابه في دائرة المنطق الضبابي

4- وفي حقل (التفسير) نجد ان (المتشابه) ظاهرة كيفية وانه حالةٌ وصِفة، وانه، كاسمه، متشابه، ولكن يمكن تحويل تشابهه، في عالم تفسير معنى هذه المفردة إلى إحكام إذا فسرناه بالعامل الكمي، كما يقال، في احدى تفسيراته، ان كل لفظ كان فيه احتمالان أو أكثر فهو متشابه، كالقرء المشترك لفظياً بين معنيين متضادين.

مثال آخر: تفسير (المتشابه) بانه هو ما كانت له بطون كسبعين بطناً(12)، فتعدد البطون، وهو مؤشر كمي، كاشف عن تحقق صفة التشابه في الآية الكريمة أو في احدى مفرداتها.. ولهذا تفصيل وتتميم آت إن شاء الله تعالى.

كيفية إنتاج (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)

تنبيه: ظهر مما مضى ان المنطق الضبابي مكمِّل للمنطق التقليدي – الكلاسيكي، وليس ضداً له ولا بديلاً عنه، فان المنطق الضبابي إنما ينطق حيث يسكت المنطق التقليدي، ولنمثل لذلك من القرآن الكريم حيث يقول تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (سورة الحجرات: الآية 12) فإن هذا المقطع من الآية الكريمة، بحسب قواعد المنطق الكلاسيكي لا يمكن اعتباره كبرى في قياس من الشكل الأول مثلاً إذ يشترط فيه كبروية الكبرى فلا يصح القول (هذا ظن، وإن بعض الظن إثم، فهذا إثم) وإنما يصح لو كانت الكبرى (وإن كل ظن إثم.. فهذا (إثم) ولكننا يمكننا أن نستعين حينئذٍ بقواعد المنطق الضبابي التي تعتمد على الجزئيات في إنتاجٍ من نوع آخر فإن القضية السابقة إن لم تنتج نفي حجية الظن (بنحو إثبات العدم) بحسب القياس المنطقي فإنها تنتج عدم حجيته (بنحو عدم الثبوت) بالمنطق الآخر إذ يقال: هذا ظن وحيث لا توجد كبرى كلية بحجية مطلق الظن؛ إذ ان بعض الظن إثم، فلا يمكن الحكم بحجية هذا الظن، ثم يقال: وعدم ثبوت الحجية مساوق لعدمها أو كلما لم تثبت حجيته فليس بحجة، والشك في الحجية موضوع عدم الحجية.

وقد ذكرنا في بحث سابق خمس وجوه لتوضيح كيفية الانتفاع بالقضية بالجزئية المذكورة في الآية الكريمة.. والله العالم.

***

اذكر خمسة أمثلة أخرى لمجالات استخدامات منطق الغموض، في الصناعات.

اذكر خمس أمثلة أخرى، غير المذكورة في هذا البحث لمصاديق ومفردات منطق الغموض في الفقه والأصول والتفسير وغيرها.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

........................................
(1) محمد بن مسعود العياشي، تفسير العياشي، المطبعة العلمية ـ طهران، ج1 ص11.
(2) نقصد: في الجملة، أو في بعض جهاته، أو لمن يجهله.
(3) الشيخ الصدوق، التوحيد، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص92.
(4) الشيخ الصدوق، التوحيد، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص90، تَفسير الصَّافي للشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ج5 ص391.
(5) وهي قاعدة حاكمة في صِرف الوجود، لا غيره.
(6) الملا هادي السبزواري، منظومه ملا هادي سبزواري، نشر ناب ـ تهران، ج2 ص35.
(7) راجع مجمع البحرين وتاج العروس والعين وغيرها.
(8) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج2 ص604.
(9) ويمكن ان يردده من سمعه، لكن يبدو ان الفيلسوف أيقن انه من إنشاء موسى (عليه السلام).
(10) سيأتي الحديث عن هذه الدعامة في الدرس القادم بإذن الله تعالى.
(11) أو هي ترددات طاقة الضوء أو كم الضوء(!)
(12) وهو تفسير بالمصداق.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي