قوة الحقيقة في مواجهة الفِتنَةٌ
عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الثَّانية عشَرَة (١٤)
نـــــزار حيدر
2025-08-06 03:53
إِنًّ تقييمَ [القوَّةِ الذاتيَّة] و [الإِستعدادِ الذَّاتي] ودِراسة الظُّروف الزَّمكانيَّة المُحيطة بالجماعةِ لاتِّخاذِ القرارِ السَّليمِ في طبيعةِ المُواجهةِ وأَدواتِها وخُططِها، إِنَّ كُلَّ ذلكَ، كذلكَ، من القوَّة لأَنَّ العِلم الحقيقي والدَّقيق بالشَّيء يُحدِّد طبيعة المُواجهة وطبيعة سلاحَها في آنٍ واحدٍ، وإِلى هذا المعنى يُشير أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ العظيم الذي حثَّ فيهِ على دراسةِ الموقفِ بدقَّةٍ قبلَ التورُّطِ والإِنخراطِ بالمُواجهةِ، أَيّاً كانت.
يقولُ (ع) (أَيُّهَا النَّاسُ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ وعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ وضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ.
أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ.
هَذَا مَاءٌ آجِنٌ ولُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا ومُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِه) وقولهُ (ع) (مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِه النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وطِرْتُ إِذْ طَارُوا).
وفي كلامهِ الأَوَّل يحذِّرُ (ع) من ما يُسمَّى اليَوم بـ [الهَمبلة] أَي الإِستعراضات الفارِغة التي تسعى دائماً لتحشيدِ الشَّارعِ وإِثارتهِ بخطاباتٍ ناريَّةٍ فارغةٍ [شعبويَّة] لا تعتمِد على العلميَّةِ والواقعيَّةِ والعقلانيَّةِ والحقائقِ الملمُوسةِ التي تبني خُططاً وترسِمُ مناهِجَ.
تقولُ الحِكمةُ [لا تتبجَّح..إِذا قبضتَ يدكَ فمِنَ الأَفضلِ أَن تكونَ مُستعدّاً لتسديدِ لكمةٍ بها] أَو أَنَّكَ ستفقُد مصداقيَّتكَ إِذا فقدتَ عُنصر المبادرَة والمُبادأَة وباغتكَ العدو وغزاكَ في عُقرِ دارِكَ.
وصدقَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) الذي قالَ (وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّه مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ) وقولهُ (وإِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الأَرِقُ ومَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ).
كما تعتمِد [الشَّعبويَّة] وخِطابها [المُقاوِم] على جهلٍ مُركَّبٍ لا يدرُس الواقع ولا يفهَم شيئاً من [لُعبةِ الأُمم] ويتَّكِل على شائِعاتٍ ودِعاياتٍ فارغةٍ ووعُودٍ كاذِبةٍ وأَوهامٍ لخداعِ الذَّاتِ تنتهي بهِ إِلى أَن يهلِكَ ويُهلِكَ وهوَ نقيض المفهُوم القُرآني الرِّسالي (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ).
يقولُ الإِمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (ع) (العالِمُ بزَمانهِ لا تهجُمُ عَليهِ اللَّوابِسِ).
ما يعني أَنَّ لكُلِّ زمانٍ علومهِ ووعيهِ وأَدواتهِ في التحدِّي والمُواجهةِ فإِذا لم يأخُذها المرءُ بنظرِ الإِعتبار تختلِط عليهِ الأُمور فيكونُ ضحيَّة [التَّلبيس] كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وقَدْ سَمِعَهُ يُرَاجِعُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ كَلَاماً (دَعْهُ يَا عَمَّارُ فَإِنَّه لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا مَا قَارَبَهُ مِنَ الدُّنْيَا وعَلَى عَمْدٍ لَبَسَ عَلَى نَفْسِه لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ).
أَمَّا الإِمام (ع) فكانَ على العكسِ من ذلكَ تماماً يُقدِّمُ نموذجاً للوعي الزَّمكاني بأَبهى صُورهِ عندما يصفُ نفسهُ بقولهِ (أَلَا وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ واسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ ورَجِلَهُ وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي ولَا لُبِّسَ عَلَيَّ.
وايْمُ اللَّه لأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ لَا يَصْدُرُونَ عَنْه ولَا يَعُودُونَ إِلَيْه).
وكانَ (ع) يساعدُ المُجتمع على أَن يكونَ كذلكَ (فَلَمْ آتِ (لَا أَبَاً لَكُمْ) بُجْراً ولَا خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ ولَا لَبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ).
كذلكَ قولهُ (ع) في معرفةِ الزَّمانِ (حسبَ المرءُ من عِرفانهِ عِلمهُ بزَمانهِ) و (أَعرفُ النَّاسَ بالزَّمانِ مَن لم يتعَجَّب من أَحداثهِ) وهو الذي يبني رُؤيةً ولا ينشغِل بمواطئِ قدمَيهِ وهو قد يعرِفُ ما بداخلِ الصُّندُوق ولكنَّهُ لا يدري ما الذي يدُورُ ويجري في خارجهِ!.
وإِنَّ من أَوسعِ مصاديقِ المعرفةِ بالزَّمانِ هي التَّمييزِ بين الحقائقِ والأَوهامِ، وتفريقِ الفتنةِ عن غيرِها، فإِذا كانت فتنةً يشهدَها العاقلُ الحكيمُ بحساسيَّةٍ مُفرطةٍ حتَّى لا يكونَ حطبَ نارِها وهو يحسبُ أَنَّهُ يُحسِنُ صُنعاً (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
يقولُ أَميرُ المؤمنينَ (ع) (كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ ولَا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ) وذلكَ هو قمَّة الوعي والإِدراك الذي يُميِّز بينَ المصالحِ والمفاسدِ، وإِلَّا فكم من [جماعةٍ] ركِبت ظهرهُم الفِتنة وحلبَت ضرعهُم من حيثُ لا يشعرُون؟! وكم مِن [جماعةٍ] أَقحمُوا أَنفسهُم بالفِتنِ كالدُّمى تحرِّكها [لُعبة الأُمم] وهم يتصوَّرونَ أَنَّ خيوطَ اللُّعبةِ بأَيديهِم؟!.
وللإِمامِ (ع) كلامٌ في غايةِ الأَهميَّة والخطُورة ربَّما يوضِّح فيهِ معنى الفِتنة ونوعَيها وما الذي يلزَم تجنُّبهُ وما الذي لا يمكنُ تجنُّبهُ مهما فعَلنا كونهُ جُزءً من حياتنا التي لا ينفكَّ عنها.
يقولُ (ع) (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ لأَنَّه لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ ولَكِنْ مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه يَقُولُ (واعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ومَعْنَى ذَلِكَ أَنَّه يَخْتَبِرُهُمْ بِالأَمْوَالِ والأَوْلَادِ لِيَتَبَيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزْقِه والرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ولَكِنْ لِتَظْهَرَ الأَفْعَالُ الَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ والْعِقَابُ لأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ الذُّكُورَ ويَكْرَهُ الإِنَاثَ وبَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ الْمَالِ ويَكْرَه انْثِلَامَ الْحَالِ).
وقامَ إِليهِ رجلٌ فقالَ؛ يا أَميرَ المُومنينَ أَخبرنا عن الفتنةِ؟! وهل سأَلتَ رسولَ اللَّه (ص) عنها؟! فقال (ع) (إِنَّه لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانَه قَوْلَه؛ (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ) عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا ورَسُولُ اللَّه (ص) بَيْنَ أَظْهُرِنَا.
فَقُلْتُ؛ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللَّه تَعَالَى بِهَا؟! فَقَالَ؛ (يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَولَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقُلْتَ لِي؛ أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ؟! فَقَالَ لِي (إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً؟!) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ ولَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى والشُّكْرِ، وقَالَ (يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ ويَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ ويَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ ويَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ ويَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ والأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ والسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ والرِّبَا بِالْبَيْعِ) قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ؟! فَقَالَ (بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ)).