التفسير الهرمنيوطيقي للقرآن الكريم
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (2)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2020-02-10 07:12
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
سبق ان التفسير على أنواع كتفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالمأثور، وكالتفسير العلمي والتفسير العقلي والتفسير الهرمينوطيقي، وسنخصص البحث اليوم بالكلام عن التفسير الهرمينوطيقي فنقول:
ان هذه الآية الكريمة تشكل أحد أهم الردود على التفسير الهرمينوطيقي، كما سيظهر لاحقاً.
ماذا تعني الهرمينوطيقا؟
والهرمينوطيقا فسرت بتفاسير مختلفة فمنها: انها علم الفهم أو فنّ الفهم، على حسب رأيين في أن الهرمينوطيقا علم أو فنّ، وقد يكون الاختلاف معبراً عن مراحل تطورها أو عن مدارسها، فهي في مرحلة أو مدرسة علمٌ وفي مرحلة أو مدرسة أخرى فنٌّ، ومنها: انها علم التفسير أو فنّه، ومنها: انها علم التأويل أو فنّه، ومنها: انها علم الترجمة وفنّها، ومنها: انها علم التطبيق أو فنّه، وقد ذكرنا في كتاب نقد الهرمينوطيقا: (وقد فسرت أو ترجمت إلى "فن التفسير" أو "تفسير المتون والنصوص" وإلى "علم أو فن التأويل" و"نظرية التأويل" و"نظرية التفسير" و"التأويلية" أو غير ذلك.
ولكن لا يخفى الاختلاف الكبير بين "التفسير" و"التأويل" بلحاظ مادة الكلمة، لغةً وعرفاً، وقد تطرق لذلك المفسرون والأصوليون وعلماء فقه اللغة، كما لا يخفى الفرق بين "العلم" و"الفن")(2).
الفرق بين التفسير والتأويل
والفرق بين التفسير والتأويل: انّ التفسير كشف للقناع عن ظاهر اللفظ إذا كان به نوع غموض أو خفاء للنوع (فيكون حينئذٍ من المتشابه) أو للشخص (فيكون حينئذٍ من المحكم الذي جهل هذا الشخص المراد منه).
واما التأويل فانه: بيان لما يؤول إليه الكلام من مبادئه وعلله ومناشئه أو لما يؤول إليه من نتائجه وخواتمه، فان للكلام مبادئ ومناشئ وعللاً إعدادية، كما ان له غايات وأهدافاً ونتائج، وبيان أي منها تأويل، كما ان التأويل قد يفسر بتفسير البطن أو البطون وقد يفسر بتفسير "المتشابه على النوع" كما قد يفسر ببيان المصاديق الخفية(3) للكلام، وقيل بانه معنى المعنى وانه أبعد من المعنى الحرفي، وسيأتي تحقيق ذلك عند الكلام عن فرق التفسير عن التأويل وعند الحديث حول قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(4) و(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْويلُهُ)(5) و(سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْويلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(6) و(لا يَأْتيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْويلِهِ)(7).
واما الترجمة فمعروفة وذلك كترجمة النص العربي إلى الفارسية أو الإنجليزية أو العكس.
التطبيق
واما التطبيق فلأن الكبريات كثيراً ما يحتاج بيان أصل انطباقها أو كيفية انطباقها على الصغريات إلى بيان، ففي مثل قاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) و(قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) يقع البحث مثلاُ في انطباق أية واحدة من القاعدتين على (الإجارة) مثلاً؟ وعلم التطبيق يفيد ان القاعدة الثانية تنطبق على العين المستأجرة نفسها فانها لا تضمن بصحيح الإجارة ولا تضمن بفاسدها لأن يده أمانيّة ولم يُقدِم على الضمان، وتنطبق القاعدة الأولى على منافع العين المستأجرة لأنه اقدم على ضمانها بالثمن فيضمنها بصحيح الإجارة وبفاسدها فان يده وإن لم تكن عدوانية، لكنها يد ضمانية وليست أمانية محضة. فتدبر.
واما الفهم فانه سابق رتبةً على الفهم الأربعة الأخيرة، فإذا قلنا بان الهرمينوطيقا هي علم الفهم فالمراد علم القواعد والضوابط التي تحكم عملية الفهم، والفهم هو الإدراك وهو قائم بالنفس ونوع من الوجود الذهنين وهو اما كيفية نفسية أو إضافة مقولية أو إشراقية أو انفعال على الأقوال، ثم انك بعد فهمك للنص تريد ان تفسره للغير أو تأوله أو تترجمه أو تطبّقه على مصاديق معينة فهذه الأربعة متأخرة عن (الفهم).
نسبية الحقيقية والمعرفة
كما ان الهرمينوطيقا فسرت أيضاً بنسبية (الحقيقة) إضافة إلى نسبية (المعرفة) التي تتعلق بعلم الفهم أو فنّه أو فقل النابعة عنه، وبنسبية اللغة والتي تتعلق بالتفسير والتأويل كما فصّلناه في كتاب: (نسبية النصوص والمعرفة.. والممكن والممتنع) وقد ذكرنا فيه:
(نسبية الحقيقة أو المعرفة أو اللغة. وقبل التفصيل في الأمر لا بد أن نحصر المعاني التي يمكن أن تشملها النسبية، أي متعلَّقات النسبية، أو المضاف إليه فيها، وبحسب تتبعي يمكن أن تشير النسبية إلى أحد المعاني التالية:
ألف: أن النسبية يمكن أن يراد بها (نسبية الحقيقة)، بمعنى نسبية المعلوم أي ما هو موجود في عالم العين وبالتالي نسبية الحقائق الخارجية المتمثلة في الحقائق النفس الأمرية.
ب - كما يمكن أن يراد بها (نسبية المعرفة)، أي نسبية العلم في مقابل نسبية المعلوم، وهو ما يتحقق في عالم الوجود الذهني الذي يكون في قبال عالم الوجود العيني، ومن هنا يقصد بالنسبية نسبية المفاهيم الذهنية، وهي (ما يعرفه الإنسان) ويطلق عليه (معرفة) أو (علم)، وبينهما فرق بل فوارق.
ج - كما يمكن أن يراد بها نسبية الكواشف والجسور والنواقل التي تربط عالم الوجود العيني بعالم الوجود الذهني، ويقصد بالجسور: الروابط، العبارات، الإشارات، الرموز، العلامات، النصب، وغير ذلك من (الدوالّ) مما يدل على تحقيق صلة بين النفس الإنسانية وبين المفاهيم والمداليل. وحينها تكون النسبية في الألفاظ أو الدوال التي تشكل الرابط بين عالم ما في الذهن وعالم ما في العين والخارج.
د -كما يمكن أن يقصد ب (النسبية) كل تلك الوجوه، أي بمعنى (النسبيةُ مطلقة) في تناقض بين المبتدأ والخبر، بحيث تصبح (الحقيقة) أيضاً نسبية أي إنه ليس في الواقع الخارجي حقيقة واحدة نبحث عنها، كما أن معارفنا أيضاً نسبية بحيث لا يمكن أن يكتسب الإنسان علوماً ومعارف صادقة، وأخرى خاطئة أو كاذبة، بل كلها صحيحة على قول في النسبية، أو كلها ظنية على قول آخر، أو كلها مما يخضع لعامل الزمن والظروف، فقد تنقلب معادلة الصحيح والخاطئ، على رأي ثالث.
وكذلك الألفاظ أيضا ذات دلالات ومفاهيم متحركة ليس لها معنى ثابتاً نحتكم لديه، فكل شخصاً له فهمه الذي غالباً ما يختلف عن فهم غيره، بل مدلولات الألفاظ في حالة من التغير والتشكل الدائم)(8).
وجه اختلاف تفسير كلمة الهرمينوطيقا
وقد قيل ان الوجه في اختلاف تفسير الهرمينوطيقا بالمعاني الخمسة المختلفة الأولى(9) أيضاً: ان هذه اللفظة يونانية وهي تعني عندهم كل هذه المعاني أي انها من المشترك اللفظي.
كما قد يقال: انه اختلف في ترجمتها إلى أي واحد من هذه المعاني، فهو اختلاف وليس اشتراكاً لفظياً.
كما قيل في الوجه: ان لفظة الهرمينوطيقا موضوعة للجامع بين كل هذه المعاني، فهي من المشترك المعنوي.
ولا يهمنا الآن تحقيق جذر الكلمة وحقيقة معانيها باللغة اليونانية، ويكفي ان نشير إلى انه قيل: إن اللفظة مشتقة من اسم أحد آلهة اليونان وهو هرمس أو هيرميز، وقد ذكرنا في كتاب (نقد الهرمينوطيقا): (أصله الأسطوري في الثقافة الإغريقية، مأخوذ من اسم أحد الآلهة الإثني عشر للأولومبس، الذي كان رسولاً للآلهة، ويساعد أرواح الناس، لتعبر إلى الجانب الآخر)(10) وكانوا يرون ان كلام الإله الأكبر غامض أو عميق أو كلاهما معاً لذا احتاج إلى وسيط بينه وبين البشر ليترجم لهم معاني كلامه أو ليفسره لهم وكان هذا الإله الوسيط يسمى عندهم بهرميز و(الهِرمينوطيقا Hermeneutics، اسم مصدر، في اللاتينية القديمة، وهي منقولة عن الفعل hermeneuo “ερμηνεύω”)(11).
وقد فسر بعض آخر الهرمينوطيقا بـ("كان يقصد بها، ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية، المعني بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية، تبعد عن المعنى الحرفي المباشر" )(12) وعليه فالتفسير بالطريقة الرمزية والتخييلية والتمثيلة هو التفسير الهرمينوطيقي.
وحيث اختلفت الأقوال في تفسير الهرمينوطيقا أولاً، وحيث ان المدارس كانت فيها مختلفة ثانياً وحيث تطورت الهرمينوطيقا من معنى إلى آخر ومن تفسير إلى آخر لذلك كله: (ارتأى بعض ضرورة إبقاء الكلمة كما هي وعدم ترجمتها بل تعريبها فقط إلى (الهِرمينوطيقا)، نظراً لأنها تتميز بالشمولية في دلالتها على كافة الممارسات والعمليات التأويلية من تفسير وشرح، وفهم، وتأويل، وترجمة، وتطبيق، بل إن (الهِرمينوطيقا) أضحت باختلاف مدارسها، تحمل مفاهيم متداخلة، أو متقابلة، متعاكسة، بل ومتناقضة أيضاً، كما سيتضح، إن شاء الله تعالى)(13).
تطور الهرمينوطيقا وتعميمها
وقد ذكرنا في ذلك الكتاب انه: (ومهما كانت البداية الحقيقية لنشوء (الهِرمينوطيقا)، فإنه قد جرى لاحقاً تعميمها لتصبح فناً أو علماً يتناول مختلف النصوص، سواء أكانت نصوصاً دينيةً أم تاريخيةً أم علميةً.
كما جرى تعميم (الهِرمينوطيقا) لتشمل تفسير الرموز والإشارات والعلامات، بل وكل مظهر من المظاهر، مثلاً هذا اللون يرمز إلى ماذا؟ وهذا التمثال يرمز إلى ماذا؟ بل جرى تعميمه ليشمل كل الحوادث والوقائع، فمثلاً: هذه الحركة، أو هذه النهضة، تكشف عن مجموعة من العلل ومن النتائج، وتفسير كل ذك يعد (هِرمينوطيقا).
كما أن الهِرمينوطيقا بعد أن كانت مقتصرة على (الهِرمينوطيقا اللغوية)، جرى تطويرها إلى أنواع أخرى نظير (الهِرمينوطيقا النفسية) و(الفلسفية) و(التاريخية) وغيرها، وهكذا نجد أن هذه (الكلمة) تميزت بتحولات عديدة، وتطورت شيئاً فشيئاً من دلالة محدودة إلى دلالات أوسع وأشمل)(14) والهرمينوطيقا الفلسفية قد تذهب إلى نسبية الحقيقة، كما قد تذهب إلى نسبية المعرفة وقد تذهب إلى كليهما – كما سبق.
وقال بعضهم (لقد أشارت الأديان التوحيدية الثلاث إلى وجود طبقات من المعنى للنص الديني وشرعت تعدد القراءات) لكنه خلط واضح بين طبقات المعنى والبطون في القرآن الكريم والنص الديني وبين تعدد القراءات، فان الأول صحيح تام والثاني خطأ وباطل كما سيأتي بإذن الله تعالى.
التفسير الهرمينوطيقي للقرآن الكريم
واما التفسير الهرمينوطيقي للقرآن الكريم فيمكن تقسيمه إلى نوعين:
النوع الأول: التفسير الهرمينوطيقي الصريح المباشر.
النوع الثاني: التفسير الهرمينوطيقي الخجول أو المتستر أو غير المباشر والحذر للقرآن الكريم.
1- التفسير الهرمينوطيقي الصريح
والنوع الأول: كان موجوداً ولا يزال، إلا انه قليل جداً بالنسبة للنوع الثاني الذي تحول إلى ما يشبه الظاهرة في حياة الكثير من المثقفين وبعض رجال الدين. ولنمثل له بمثال صارخ غريب:
عمر: إذا فقدتَ الماء فلا تصلِّ!
فقد روى مسلم في صحيحه: (حدثني عبد الله بن هاشم العبدي حدثنا يحيى يعنى ابن سعيد القطان عن شعبة قال حدثني الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه ان رجلاً أتى عمر فقال: إنّي أجنبتُ فلم أجد ماءً؟ فقال لا تصلِّ! فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ انا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء فأما أنت فلم تصلِّ، وأمّا أنا فتمعّكتُ في التراب وصلّيتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك، فقال عمر: اتّقِ الله يا عمار قال إن شئت لم أحدّث به * قال الحكم وحدثنيه ابن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه مثل حديث ذر قال وحدثني سلمة عن ذر في هذا الاسناد الذي ذكر الحكم فقال عمر نوليك ما توليت (وحدثني) إسحاق بن منصور حدثنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن الحكم قال سمعت ذرا عن ابن عبد الرحمن بن أبزي قال: قال الحكم: وقد سمعته من ابن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء وساق الحديث وزاد فيه قال عمار يا أمير المؤمنين ان شئت لما جعل الله علي من حقك لا أحدث به أحدا)(15)(16).
وقال ابن حجر: وهذا مذهب مشهور عن عمر. ووافقه عليه عبد الله بن مسعود: وجرت فيه مناظرة بين أبي موسى وابن مسعود(17). وقال بعد ذلك: انه لم يكن لابن مسعود عذر في التوقف عن قبول حديث عمار، فلهذا جاء عنه: انه رجع عن الفتيا بذلك. كما أخرجه ابن أبي شيبة.(18)
اجتهادٌ في مقابل نص حكم الرسول صلى الله عليه واله وسلم
وموطن الشاهد اجتهاد عمر في مقابل نص حديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الذي يرويه عمّار بن ياسر بدون واسطة عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم وعمار مشهود له بالوثاقة بل وبانه من أهل الجنة وذلك مما لا شك فيه لدى الفريقين وحديث (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)(19) معروف فلا عذر لأحد في ردّ حديثه عن رسول الله، وقد قال تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً)(20) وقال: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى)(21) و(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُريدُ اللَّهُ أَنْ يُصيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ)(22)(23).
الاجتهاد في مقابل نص القرآن: (فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً)
والشاهد الأعظم الهرمينوطيقي فيما نقله البخاري عن ابن مسعود، فقد روى البخاري في صحيحه: (حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي عن الأعمش قال سمعت شقيق بن سلمة قال كنت عند عبد الله وأبي موسى فقال له أبو موسى أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟ فقال عبد الله: لا يصلى حتى يجد الماء! فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفيك؟ قال ألم تر عمر لم يقنع بذلك؟ فقال أبو موسى فدعنا من قول عمار كيف تصنع بهذه الآية(24) فما درى عبد الله ما يقول! فقال انا لو رخّصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء ان يدعه ويتيمم! فقلت لشقيق فإنما كره عبد الله لهذا قال نعم باب التيمم ضربة حدثنا محمد قال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق قال كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري فقال له أبو موسى لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا اما كان يتيمم ويصلى فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فقال عبد الله لو رُخّص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء ان يتيمموا الصعيد قلت وإنما كرهتم هذا لذا قال نعم)(25)
و(روى مسلم بالإسناد إلى الأعمش عن شقيق الرواية نفسها مع إضافة بسيطة جداً وهامة(26)، قال:
(حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير جميعا عن أبي معاوية قال أبو بكر حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق قال كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله لا يتيمم وان لم يجد الماء شهراً! فقال أبو موسى فكيف بهذه الآية في سورة المائدة فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا؟ فقال عبد الله لو رخص لهم في هذه الآية لا وشك إذا برد عليهم الماء ان يتيمموا بالصعيد! فقال أبو موسى لعبد الله ألم تسمع قول عمار بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال إنما كان يكفيك ان تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه فقال عبد الله أو لم تر عمر لم يقنع بقول عمار)(27)
الاستحسان في مقابل نص القرآن!
وموطن الشاهد والغريب حقاً هو الاجتهاد الصريح في مقابل النص الصريح القرآني فان هذه الآية نص في الحكم الشرعي (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً) كما ان القرآن قطعي السند وكيف يعقل ان يتعلل مسلم بعذر مهما كان، لرد صريح الحكم الإلهي؟ إنه ليس إلا الاستحسان الفج والجرأة المذهلة على ردّ أحكام الله تعالى المسلّمة، فانظر إلى قوله (إنا لو رخّصنا لهم...) وكأنّ القرآن الكريم يحتاج إلى ترخيص من ابن مسعود أو غيره للعمل به! وكأنّه لم يسمع قوله تعالى: (ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(28) و(وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(29) و(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(30) وقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً)(31) بل ان من البديهي انه حتى الاستحسان له حدود حتى عند أهل العامة، فان الاستحسان يجري فيما لا نص فيه، وليس على خلاف النص الصريح الإلهي!
بل لو فتحنا هذا الباب لأمكن، لكل من يدّعي الفقاهة أو الصحبة أو ولاية الأمر، إلغاء كل أحكام الإسلام الواردة بالنص الصحيح الصريح بأشباه هذه العلة كأن يقال: انا لو رخصنا للعمال في الصلاة لأوشكوا ان يتركوا عملهم الذي يتوقف عليه اقتصاد البلد كله وينشغلوا بالصلاة! واننا إذا رخّصنا للناس في القصر في السفر لأوشكوا ان يعتادوا الراحة فيصلوها قصراً أيضاً في الحضر!.
2- التفسير الهرمينوطيقي الحَذِر
النوع الثاني: من أنواع التفسير الهرمينوطيقي، ما يتضمن محاولة الالتفاف على النص بتفسيره بخلاف ظاهره رغم عدم وجود أية قرينة من قبل الشارع الأقدس أو المتكلم، مما يعدّ من أبرز مصاديق التفسير بالرأي، فان التفسير بالرأي هو التفسير بخلاف ظاهر الكلام من غير حجة وقرينة على ان المتكلم أراد خلاف ظاهر كلامه.
والغريب ان بعض المفسرين بنى على ذلك تفسيره في الكثير من القصص القرآنية والآيات فأتى بالعجب العجاب من التكلّف الشديد المخالف للذوق واللغة والعرف الذين قال الله تعالى حولهم (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)(32).
المنار: جعلُ آدم خليفةً، تعليمه الأسماء و...، خيالية!
ومن نماذج ذلك ما جاء في تفسير المنار (وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا: أن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن: تهيئة الأرض وقُوَى هذا العالَم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه، لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها، فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يُفْسِد في الأرض؛ لأنه يعمل باختياره ويُعطَى استعداداً في العلم والعمل لا حد لهما، هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته في الأرض.
وتعليم آدم الأسماء كلها، بيانٌ لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها.
وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصويرٌ لكون الشعور الذي يُصاحب كل روح من الأرواح المدبِّرة للعوالم محدوداً لا يتعدى وظيفته.
وسجود الملائكة لآدم عبارةٌ عن تسخير هذه الأرواح والقُوَى له ينتفع في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك.
وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعيةِ خواطرِ السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البَشرى)(33).
مناقشات مع المنار
وهذا التفسير وأشباهه يؤخذ عليه:
أ- انه مناقض لنص الكتاب العزيز
أولاً: انه مخالف لنص القرآن إذ يقول تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً)(34) وهذه الجملة يفهمها كل عربي بانه (جاعلٌ في الأرض خليفة) بحسب معناها الواضح، ولا يفهمها العربي ولا غيره (في مرادفاتها من اللغات الأخرى): انني اهيأ الأرض لوجود نوع يكون به كمال المخلوقات؟ فمتى فسّر علماء العرب وجهالهم الذين نزل القرآن بلغتهم، الأفعالَ كـ(جعل، وجاعل وجعلت) بان المراد بها الاستعداد والتهيؤ؟
وأغرب منه في مخالفة نص القرآن قوله (وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها) مع ان قوله تعالى (عَلَّمَ ) فعل ماضي صريح في انه تعالى علّمه الأسماء كلها ولا يفهم منه أحد انه (بيان للاستعداد للتعلم)! فلاحظ صريح قوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُوني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا)(35) فكيف يفسر الكلام الصريح الواضح بآخر غريب متكلّف فيه غير عرفي بالمرة؟ فيقال: (وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها)؟!.
وكذلك الأمر في الغرابة تفسيره (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُوني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا) بـ(وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصويرٌ لكون الشعور الذى يُصاحب كل روح من الأرواح المدبِّرة للعوالم محدوداً لا يتعدى وظيفته)!
وكذلك الأمر في تفسيره قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرينَ)(36) إذ كيف يفسر سجودهم بـ(عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقُوَى له ينتفع فى ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك)؟
وكيف يفسر قوله تعالى (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرينَ)(37) بـ(تمثيل: لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البَشرى)؟ ونقول: أولاً: انه لا تلازم بين الأمرين، وثانياً: أي محذور في ان يكون الإنسان الورع المتقي أعظم من الملائكة بل قد دلت عليه الروايات الكثيرة، بل قد يستفاد ذلك من القرآن الكريم من مواضع عديدة بل يكفي ان بعض البشر، كالأنبياء العظام أفضل من الملائكة دون شك. إضافة إلى ان الاعتبار يؤيده إذ الملائكة لم تركب فيهم الشهوات الحيوانية والقوة الغضبية فإذا وصل الإنسان إلى مقام الأولياء فإنما يصل إليه بعد جهاد شديد للنفس ونجاح في الامتحان فيكون أفضل من الملائكة.
ب- انه لا يرضى لنفسه بما رضيه لكلام ربه!
ثانياً: ان مؤلف المنار وغيره لا يرضى بان تفسر كلماته هو وأوامره ونواهيه لأولاده أو الموظفين في شركته مثلاً بهذه الطريقة، فكيف يرضى بتفسير كلام الله بخلاف ظاهره بل بخلاف نصّه! ثم نقول: وما الداعي لذلك؟ فان الداعي انما هو استحالة الإعجاز على الله تعالى أو ان تلك الوقائع (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً) (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ)(38) (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرينَ)(39) خلاف العقل أو الحكمة أو العدل، أو فيما لو ثبت انها كذب والعياذ بالله، فحينئذٍ نضطر إلى ان نلجأ إلى اللغة الرمزية!.
لجوء المسيحي إلى الرمزية لا يبرر لجوء المسلم إليها
ولقد لجأ المسيحيون إلى اللغة (الرمزية) وإلى ان كل ما في التوراة والإنجيل تمثيل وتخييل لِما وجدوا فيه من الخرافات المسلّمة (لأنه كتاب محرف) لكنهم لما أبوا الاعتراف بانه ليس هو الإنجيل الأصلي بل هو إنجيل محرّف لذلك لجأوا إلى القول بان هذه القصص والإخبارات لا يراد بها ظاهرها العرفي بل هي من قبيل التمثيل والتخييل والرمز، (ليحافظوا بذلك على إيمان المسيحيين بالإنجيل الذي تضمن ما يخالف العقل الصريح أو العلم الصحيح) لكننا ولله الحمد في غنى عن ذلك كله؛ نظراً لأن القرآن لا يوجد فيه أمرٌ أو حكمٌ أو خبرٌ يخالف العقل أبداً وانه لم يداخله تحريف أو دس أبداً إذ يقول تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(40) فما هو المبرِّر العقلي والعقلائي أو الشرعي لتفسير القرآن بما يخالف نصه أو ظاهره واللجوء إلى نظرية الرمزية بهذا المعنى البعيد كل البعد عن منظومة القرآن الكريم كلها أولاً وعن منظومة الأحاديث الشريفة كلها ثانياً وعن منظومة اعتقادات المسلمين كلهم ثالثاً؟.
ج- انه مخالف لسيرة العقلاء وبنائهم
ثالثاً: كما يؤخذ على أمثال هذا التفسير انه مخالف لسيرة العقلاء من كل الأمم والنحل، كما يناقض بناءهم على التعامل مع نصوص ألفاظ الآخرين وظواهرها على حسب مدلولها النصي أو الظاهر، وإذا وجدوا أحدهم يفسر وصية والده أو قرارات الشركة أو الحزب أو الحكومة أو البرلمان، بهذه الطريقة الهرمينوطيقية لاتهموه بالتلاعب والاحتيال أو بالسفه أو شبه ذلك.
وبعبارة أخرى: ان بناء العقلاء على تطابق الإرادتين الجدية والاستعمالية كأصل عام لا يخرج عنه إلا بالدليل.
وقد ذكرنا في كتاب نقد الهرمينوطيقا:
(4- نسف العقد الاجتماعي
وهل يقبل العقلاء ـ ومنهم هؤلاء الفلاسفة ـ أن يتعلل كل من: أ:(الموظف) ب: و(الجندي) ج: و(التلميذ)، بعدم تنفيذ قرارات (الشركة) أو (المؤسسة) أو (قيادة الجيش) أو بعدم الإلتزام بالشروط والضوابط في الامتحانات، في (المدرسة أو الجامعة)، بنسبية النصوص والمعرفة وتعدد القراءات؟ وبأنه (لا يوجد منهج علمي يضمن الوصول حقيقةً إلى معنى النص الصادر من المدير أو الإدارة)؟: وإنني أدعو إلى قراءة متجددة منفتحة (للنصوص) و(الأوامر) و(القرارات)! وأنه (لا مجال للموضوعية أبداً في النصوص) و(أن خلفيات كل إنسان، تؤثر في فهمه للحقيقة والقرارات والقوانين، 1- فلكل منا ـ أي من التلاميذ والموظفين والجنود ـ أن يفهم الأوامر والقرارات، وحتى الشروح والتوضيحات، على حسب خلفياته المعرفية والنفسية، وليس لأحد أن يعترض عليه: بأن فهمه غريب، أو خاطئ، أو معوج أو مشوّه أو ناقص أو غير ذلك! 2- أو أن لكل منّا أن يفسر (النصوص) حسب اجتهاده ـ المطلق، غير المنضبط بأية ضوابط وأطُر عقلية أو عقلائية، والمنفتح إلى ما لا نهاية له ـ على فهم (نفسية الكاتب والمتكلم) وخلفياته النفسية والمعرفية!
د: أو أن تتعلل (الدول) في تعهداتها الدولية، بذلك؟
هـ - وهل يقبل عاقل أو حكيم أن يتخذ (الشركاء) وكذلك (الشركات المتعاقدة) (الهِرمينوطيقا اللغوية) و(الهِرمينوطيقا النفسية)، ذريعة للتحلل من الإلتزامات بحجة أن (النص) لا وجود ثابتاً له، وأنه منفتح على (تعدد القراءات)، وأنه كائن حي متغير! وأن تفسير كل شخص، لنصٍ من النصوص المتضمنة في بنود ومواد المعاهدات والعقود، هو عين تلك المعاهدة أو العقد!)(41)
نماذج أخرى من التفسير بالرأي في (المنار)
ولنعد مرة أخرى إلى تفسير المنار ولننقل نماذج أخرى من تفسيره ليتضح بجلاء كيف انه من أظهر مصاديق التفسير بالرأي قال في المنار في تفسيره قوله تعالى ( (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(42)
(خرجوا فارّين (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أي: أماتهم بإمكان العدو منهم، فالأمر أمر التكوين لا أمر التشريع; أي: قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أتوه من سبب الموت، وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم، ولم يصرح بأنهم ماتوا; لأن أمر التكوين عبارة عن مشيئته سبحانه فلا يمكن تخلّفه، وللاستغناء عن التصريح بقوله بعد ذلك: (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وإنما يكون الإحياء بعد الموت، والكلام في القوم لا في أفراد لهم خصوصية; لأن المراد بيان سنّته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدافع العادين عليها، ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف.
فمعنى موت أولئك القوم: هو أن العدو نكّل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرّق شملها، وذهبت جامعتها، فكل من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم.
ومعنى حياتهم: هو عود الاستقلال إليهم; ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس، أنه يكون تأديبا لهم، ومطهّراً لنفوسهم ممّا عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة.
أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم قوية فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عزّ الاستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها، يموت قوم منهم باحتمال الظلم، ويذل الآخرون حتى كأنهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحيّة، من حفظ سياج الوحدة، وحماية البيضة، بتكافل أفراد الأمة ومنعتهم، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه عنهم)(43).
وهذا التفسير كسابقه غريب إن لم يكن مضحكاً مبكياً، ولا وجه للالتجاء إليه إلا إنكار قدرة الله تعالى على الإماتة والإحياء دفعةً واحدةً، أو توهم ان ذلك خلاف العدل الإلهي أو خلاف الحكمة الإلهية!.
ولاحظ أيضاً تفسيره لقوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّه جَهْرَة فَأَخَذتكُمُ الصاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرونَ * ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون)(44).
(ذهب الأستاذ الإمام إلى أنّ المراد بالبعث هو كثرة النسل، أي أنّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون، بارك اللّه في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها)(45) مع ان من الواضح جداً معنى (بَعَثْناكُمْ) خاصة بعد قوله تعالى (فَأَخَذتكُمُ الصاعِقَةُ)!.
الميزان: (اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي اسجدوا للنشأة الإنسانية! و...
وحيث ان مباحث (نقد الهرمينوطيقا) لم يتطرق لها علماؤنا إلا النادر جداً جداً، لذلك فان الأفكار الهرمينوطيقية تسربت إلى عدد من علماء العامة أولاً، كما فيما نقلناه عن تفسير المنار، وإلى بعض علماء الخاصة ثانياً كما ستجده فيما ذكره تفسير الميزان، فلاحظ ما ذهب إليه في قضية سجود الملائكة لآدم عليه السلام وإباء إبليس عن السجود.
قال في الميزان: (وعلى هذا فالانتقال في الخطاب من العموم إلى الخصوص أعني قوله: (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) بعد قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) يفيد بيان حقيقتين: الأولى: أن السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم أي للنشأة الإنسانية وإن كان آدم عليه السلام هو القبلة المنصوبة للسجدة فهو عليه السلام في أمر السجدة كان مثالا يمثل به الإنسانية نائبا مناب أفراد الإنسان على كثرتهم لا مسجوداً له من جهة شخصه كالكعبة المجعولة قبلة يتوجه إليها في العبادات، وتمثل بها ناحية الربوبية)(46) و(ثانياً: أن إبليس تعرض لهم أي لبني آدم ابتداءً من غير توسيط آدم ولا تخصيصه عليه السلام بالتعرض حين قال على ما حكاه الله سبحانه: (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) (إلخ) من غير سبق ذكر لبني آدم، وقد ورد نظيره في سورة الحجر حيث قال: (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(47)، وفي سورة ص حيث قال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(48)، ولولا أن الجميع مسجودون بنوعيتهم للملائكة لم يستقم له أن ينقم منهم هذه النقمة ابتداء وهو ظاهر)(49).
المناقشات: تفسير النص بخلاف (بِلِسانِ قَوْمِهِ)
والجواب واضح ظاهر وهو: انّ الله تعالى نص بقوله: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)(50) ولم يقل (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لبني آدم) مع انه كان يمكنه ذلك وقد عبّر ببني آدم في مواطن أخرى كـ(يا بَني آدَمَ خُذُوا زينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد)(51) (يا بَني آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُواري سَوْآتِكُمْ وَريشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(52) و(يا بَني آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطينَ أَوْلِياءَ لِلَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ)(53) و(يا بَني آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(54) و(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ)(55) ومن البديهي ان آدم اسمُ عَلَمٍ لأبي الأنبياء، فكيف يفسر آدم ببني آدم؟ وأليس من الغريب على كل عارف باللغة العربية ان يقال ان معنى (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) هو: (إذ قلنا للملائكة اسجدوا للنشأة الإنسانية)!.
وقرائنه أوهن من بيت العنكبوت!
والغريب ان قرائنه ضعيفة جداً إذ يقول مثلاً: (ولولا أن الجميع مسجودون بنوعيتهم للملائكة لم يستقم له أن ينقم منهم هذه النقمة ابتداء وهو ظاهر) إذ من البديهي ان الناس كثيراً ما ينتقمون من الآباء بإيذاء أبنائهم وأحفادهم، إذ ان من الواضح ان إيذاء الأبناء إيذاء للأب نفسه؛ ألا ترى أن أحداً لو قتل ابنك لأنك ضربته يوماً ما (بحقٍ أو باطلٍ) فانه يكون قد آذاك بذلك أشد الإيذاء ويكون قد انتقم منك أكبر الانتقام؟ هذا. إضافة إلى انه رحمه الله كأنه تصور ان إبليس حكيم عادل لا ينتقم إلا ممن سبّب له الأذى، بزعمه، مباشرةً وهو آدم فإذا كان الله أمره بالسجود لآدم فكيف يتصور ان ينتقم إبليس (إذا كان عادلاً حكيماً) من أبناء آدم!
واما قوله (ثانياً) فانه، غاية الأمر، مشعر بما أفاده لا أكثر فليس بنص ولا ظاهر ولا دليل ولا مؤيد، بل لو فرض ظهوره فانه معارض بالنص القرآني الآخر(56) وهو (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ولا شك في تقدم النص على الظاهر.
ولاحظ صراحة قوله في تفسير القرآن بخلاف نصوصه (والقصة وإن سيقت مساق القصص الاجتماعية المألوفة بيننا وتضمنت أمرا وامتثالا وتمردا واحتجاجا وطردا ورجما وغير ذلك من الأمور التشريعية والمولوية غير أن البيان السابق على استفادته من الآيات يهدينا إلى كونها تمثيلا للتكوين بمعنى أن إبليس على ما كان عليه من الحال لم يقبل الامتثال أي الخضوع للحقيقة الإنسانية فتفرعت عليه المعصية، ويشعر به قوله تعالى: (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) فإن ظاهره أن هذا المقام لا يقبل لذاته التكبر فكان تكبره فيه خروجه منه وهبوطه إلى ما هو دونه)(57)! وكيف يُعدَل عن (النص) بالمشعِر وهو أدون من المؤيد بمرتبة ومن الظاهر بمرتبتين ومن النص بثلاث مراتب!
وقال: (فإن قلت: القول بكون الأمر بالسجود تكوينيا ينافي ما تنص عليه الآيات من معصية إبليس فإن القابل للمعصية والمخالفة إنما هو الأمر التشريعي وأما الأمر التكويني فلا يقبل المعصية والتمرد البتة فإنه كلمة الإيجاد الذي لا يتخلف عنه الوجود قال: (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(58).
قلت: الذي ذكرناه آنفا أن القصة بما تشتمل عليه بصورتها من الأمر والامتثال والتمرد والطرد وغير ذلك وإن كانت تتشبه بالقضايا الاجتماعية المألوفة فيما بيننا لكنها تحكي عن جريان تكويني في الروابط الحقيقية التي بين الإنسان والملائكة وإبليس فهي في الحقيقة تبين ما عليه خلق الملائكة وإبليس وهما مرتبطان بالإنسان، وما تقتضيه طبائع القبيلين بالنسبة إلى سعادة الإنسان وشقائه، وهذا غير كون الأمر تكوينيا.
فالقصة قصة تكوينية مثلت بصورة نألفها من صور حياتنا الدنيوية الاجتماعية كملك من الملوك أقبل على واحد من عامة رعيته لما تفرس منه كمال الاستعداد وتمام القابلية فاستخلصه لنفسه وخصه بمزيد عنايته، وجعله خليفته في مملكته مقدما له على خاصته ممن حوله فأمرهم بالخضوع لمقامه والعمل بين يديه فلباه في دعوته وامتثال أمره جمع منهم، فرضي عنهم بذلك وأقرهم على مكانتهم، واستكبر بعضهم فخطأ الملك في أمره فلم يمتثله معتلا بأنه أشرف منه جوهرا وأغزر عملا فغضب عليه وطرده عن نفسه وضرب عليه الذلة والصغار لأن الملك إنما يطاع ملك بيده زمام الأمر وإليه إصدار الفرامين والدساتير، وليس يطاع لأن ما أمر به يطابق المصلحة الواقعية فإنما ذلك شأن الناصح الهادي إلى الخير والرشد)(59).
واللطيف: ان مثاله بالـمَلِك عليه لا له! إذ ان هذا الملك الذي افترضه قد أقبل على واحد من عامة رعيته... إذا كان قد صرح بـ: اني جعلته خليفة عليكم، ثم أخبر الملك بان بعضهم ابى واستكبر ثم أخبر بانه عزلهم عن مناصبهم وأخرجهم من البلد إذ (ما كان لهم ان يتكبروا عليه ويخالفوه) ألا ترى ان كل أحد يفهم من إخباراته انها إخبارات حقيقية، وانه بالفعل جعله خليقة وطرد أولئك و... لا انه يصلح لجعله خليفة، وان من طبيعتهم العصيان.. الخ؟
وقال: (فإن قلت: رفع اليد عن ظاهر القصة وحملها على جهة التكوين المحضة يوجب التشابه في عامة كلامه تعالى، ولا مانع حينئذ يمنع من حمل معارف المبدإ والمعاد بل والقصص والعبر والشرائع على الأمثال، وفي تجويز ذلك إبطال للدين.
قلت: إنما المتبع هو الدليل فربما دل على ثبوتها وعلى صراحتها ونصوصيتها كالمعارف الأصلية والاعتقادات الحقة وقصص الأنبياء والأمم في دعواتهم الدينية والشرائع والأحكام وما تستتبعه من الثواب والعقاب ونظائر ذلك، وربما دل الدليل وقامت شواهد على خلاف ذلك كما في القصة التي نحن فيها، ومثل قصة الذر وعرض الأمانة وغير ذلك مما لا يستعقب إنكار ضروري من ضروريات الدين، ولا يخالف آية محكمة ولا سنة قائمة ولا برهانا يقينياً)(60).
وتفسيره مخالف للآية المحكمة ولضروريات الدين
والعجب ان ما انكره (من سجود إبليس لآدم)(61) من مصاديق (الآية المحكمة) التي نصت عليها آيات عديدة، والتي صرح بها متواتر الروايات بين الفريقين، ومع ذلك يقول ان المتبع هو الدليل! وكأنه تصور ان ما ليس ضرورياً من ضروريات الدين فلنا إنكاره حتى إذا دلّ نص القرآن أو الخبر الصحيح عليه؟ بل نقول: ان بعض ما أنكره (كقصة آدم على تفصيلها السابق المذكور في نص القرآن الكريم (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرينَ)(62) هو من ضروريات المذهب بل من ضروريات الدين، ولذا لا تجد عالماً من علماء المسلمين شيعةً وسنةً ولا جاهلاً من جهالهم في زمن الرسول صلى الله عليه واله وسلم ثم في زمن الأئمة (ع) والمذاهب الأربعة ثم طوال ألف سنة، إلا وقد اذعنوا بهذه الآيات على ظاهرها بل نصها ولم يفسرها أحد منهم بانه تمثيل وتخييل وشبه ذلك! هذا
وستأتي بإذن الله تعالى أجوبة أخرى عن هذا النوع من التفسير الهرمينوطقي كما سيأتي بيان كيف تشكل الآية الكريمة في صدر المبحث (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) رداً على المذهب الهرمينوطيقي.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين