الظالمون يُركَسون في الظلام
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2025-08-25 05:36
(يجب على الإنسان أن يبتعد عن الظلم بأقصى ما يستطيع) الإمام الشيرازي
يكاد الظلم أن يتصدر كل الأسباب التي تُضعف الروابط الإنسانية بين الناس وتُخلخل البناء الاجتماعي، وتجعل من المجتمع أو الأمة، في حالة متدنية، لا تعرف الطريق إلى التطور حتى لو مضى عليها دهور من الزمن، يحدث هذا بسبب ظلم الناس لبعضهم، وهنا تكمن خطورة الظلم، ففي عالم اليوم يُقاس المجتمع بمقدار التطور الذي يمكن أن يحرزه ويتفوق فيه على مجتمعات أخرى، والظلم هو العائق الأكبر لتقدم المجتمعات.
وإذا أردنا البحث في معنى الظلم فإنه يعني فيما يعنيه وضع الشيء في غير مكانه أو موضعه، وكلنا على علم بالقول المعروف (وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب)، فالظلم يكاد يتشابه في المعنى مع هذا القول، لذا فإن الظلم لا يسمح للفرد ولا للأسرة، ولا للجماعة ولا للمجتمع أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الامام، وهذا سبب تخلف الدول والمجتمعات التي يكثر فيها ظلم الناس بعضهم بعضا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (آثار الظلم في الدنيا والآخرة):
(إن معنى الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمشرك ظالم؛ لأنه جعل غير الله تعالى شريكاً له، ووضع العبادة في غير محلها، وهكذا العاصي ظالم؛ لأنه وضع المعصية موضع الطاعة وهذا لا يُغفَر له؛ لأن المغفرة تكون لمن يعتقد بالغفار، أما الذي لا يعتقد بالله أصلاً فكيف ينتظر غفرانه).
وهناك ظلم يُغفَرُ للإنسان، لأن يتعلق بالإنسان نفسه، فهناك أناس يظلمون أنفسهم، ولا يبالون في هذا الأمر، وكأنهم يتعاملون مع عدوهم وليس أنفسهم، فظلم الإنسان لنفسه يتجسد في ارتكابه للذنوب سواء كانت صغير أو كبيرة، بشرط أن لا تصل إلى درجة الشرك بالله، أما دون ذلك فيمكن أن يُغفَر ذنب الإنسان وهذه المسألة ترتبط بمشيئة الله تعالى.
الحذر الشديد من اللامبالاة
هنالك بشر يسيئون لأنفسهم بشكل متكرر ومع سبق الإصرار، فيكون واحدهم مستعدا للمعصية ولا يفكر في عواقبها التي قد تكون وخيمة، وبهذا سوف يقع تحت وطأة العقاب، ومع ذلك طالما أن الأمر يتعلق بنفسه وليس بالآخرين، فإن الله تعالى رحيم بالعباد كما جاء في الآية الكريمة (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، سورة الزمر، الآية 53.
يقول الإمام الشيرازي:
(أما الظلم الذي يُغفَر فهو ظلم الإنسان نفسه بارتكابه صغائر الذنوب أو الكبائر التي لا تصل إلى حد الشرك بالله تعالى قال تعالى: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وأما الظلم الذي لا يدعه الله عزوجل، فهو ظلم الناس بعضهم لبعض، وإن تاب الظالم، لكن الله تعالى لا يتركه إلا برضا المظلوم أو التعويض للمظلوم بما لحقه من ضرر).
ودائما يركز الإمام الشيرازي على الابتعاد عن ظلم الآخرين بأقصى ما يمكن للإنسان ذلك، لأن العواقب التي يعود بها الظلم على الظالم لا يمكن تصوّر نوعها أو حجم تأثيرها، من هنا يجب الحذر الشديد من اللامبالاة التي قد يتعامل بها بعض الناس مع الظلم، فلا يترددوا في إظهار قوّتهم على الضعيف، أو على من لا حول لهم ولا قوة.
وفي كل الأحول لا يمكن إفلات الظالمين من الأفعال المحرّمة والأذى الذي يلحقونه بالآخرين، فإن الله تعالى ربط غفران هذا النوع من الظلم بالمظلوم حصرا، أي لابد أن يوافق المظلوم على إعفاء من ظلمَهُ من العقوبة الإلهية.
وإذا كانت بعض الحقوق يتم هدرها وبعض الذنوب يتم التغاضي عنها في الدنيا، تحت أسباب القوة والنفوذ والمال والسلطة والمحاباة وسوى ذلك، فإن الآخرة تغيب عنها مثل هذه الوسائل، فلا مال ولا قوة ولا سلطة ولا نفوذ يخلّص الظالم من الحساب الإلهي العادل.
الإمام الراحل يقول حول هذه النقطة:
(يجب على الإنسان أن يبتعد عن الظلم بأقصى ما يستطيع؛ لأن عناءه يزول عمن ظلمه ويبقى وزره عليه، فإن الظالم يرى عقوبة ظلمه في العوالم الثلاثة جميعاً، أولا في الدنيا وثانيا في البرزخ، وثالثا في يوم القيامة).
وحين نتساءل عن نوع العذاب الذي يتلقّاه الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فإن الظالمين غالبا ما يُصابون بأمراض معقدة أو مركبة يصعب العلاج والبراء منها، كذلك هناك آلام مبرحة تُلحَق بالظالمين وهم لا يزالون على قيد الحياة، وتوجد أمراض تجعل الظالم يتأسف كثيرا ويلوم نفسه ويشعر بالندم لأنه أقدم على ظلم الآخرين.
تصحيح الأخطاء قبل فوات الأوان
هذه في الحقيقة عبارة عن دروس مجانية تُقدَّم للجميع، حتى لا يتوهموا بأن قوتهم وسلطتهم ونفوذهم ومصالحهم تستحق أن يظلموا بسببها الناس، فالظالم سوف يتلقى جزاءها الإلهي إن لم يكن في الدنيا، فتوجد المحطة الأبدية التي يظهر فيها كل ذنب إلى العلن، وكل نفس سوف تذوق العذاب الذي يوازي الذنب الذي ارتكبته.
كما يؤكد الإمام الشيرازي في قوله:
(أما العذاب الذي يراه الظالم في الدنيا، فيكون عن طريق الأمراض والآلام التي يتعرض لها في حياته بسبب ما ارتكبه من جرائم، فإن الآلام والأمراض قد تكون من باب الامتحان والاختبار، وذلك لتخفيف بعض ذنوبه التي ارتكبها في دنياه، وقد تكون عقوبة دنيوية على ظلمه للناس، فكم من الظالمين أصيبوا في هذه الدنيا بأمراض نفسية وجسدية أودت بحياتهم بعد ذلّ عاشوه).
لذلك ينبغي ان يحذر الجميع من التعامل بلا مبالاة في ارتكاب الذنب بحق الآخرين، لأنه لا يُغفَر إلا بموافقتهم أو بتعويضهم عما لحق بهم من ظلم، وهذه أيضا دروس لابد أن يطلع عليها الجميع حتى لا يتوهموا بأنهم قادرون على ظلم الناس متى ما أرادوا.
الله تعالى يحمي عبادهم، ويعدل فيما بينهم، ويقتص من الظالمين، ويرحم من يستحقون الرحمة، لاسيما في عالم مادي باتت الأموال هدفا واسعا له، وصارت المادة المعقدة عنوانا عريضا له، فلا يجوز التعدي على الآخر، ولا إلحاق الأذى بشخصه أو أسرته، فالنتائج ستكون وخيمة عليه، وليس أمامه سوى التخلص من هذه الذنوب وهو لا يزال محسوبا على الدنيا، فليحرك سريعا أولئك المذنبون الذين تجاوزا على حقوق الناس بدافع القوة والسلطة والنفوذ.
يقول الإمام الشيرازي:
(هناك روايات كثيرة تشير إلى عذاب يوم القيامة. وسنشير إلى بعضها؛ فمثلاً: الشخص الذي يظلم أخاه المؤمن، بالتعدي عليه، سواء بجوارحه أو بلسانه، يرى رد فعل ظلمه في الآخرة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إياكم والظلم، فإن الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة).
ولا يجب أن يفرح الظالم، عندما يرى ظالما أفلح من العقاب في الدنيا، أي أنه مات ولم يتعرض لعقاب ملحوظ، فهذا لا يعني مطلقا بأن العقاب قد رُفِعَ عنه أو ابتعد عنه، بل هو يقف له بالمرصاد في دار البقاء، حيث الآخرة ويوم الحساب بانتظار الظالمين لكي يروا بأنفسهم ظلمهم الذي دمّر حياة الآخرين وحرمهم من العيش بكرامة وأمن وسلام، فحينما يُمهل الله تعالى الظالم إنما يؤجل حسابه إلى يوم القيامة وهو يوم الحساب الذي لا يستثني الظالمين.
الإمام الشيرازي يركز على هذه النقطة فيقول:
(قد يحصل في بعض الحالات أن الظالم لا ينال جزاءه في الدنيا، فهل هذا يعني أنه في الآخرة يترك ولا يعاقب؟ كلا، بل ان الله للظالمين بالمرصاد، وإمهال الله للظالم لا يعني تركه أبداً).
وهكذا فإن الظلم والظلام لا يفترقان، لأن الظلم يقود صاحبه إلى ظلام يوم القيامة، وبهذا يتم استرداد الحق الذي أهدره الظالمون بحق المظلومين، لذا حريٌّ بمن لا تزال الفرص متاحة لهم بإصلاح وتصحيح حالات الظلم التي قاموا بها، حري بهم أن يتحركوا سريعا وقبل فوات الأوان، لتصحيح ومحو الظلم الذي ألحقوه بالناس حتى يكونوا في مأمن من عذاب يوم الحساب.