التصاعد الهندسي للغلاء وتشاؤم مالثوس
خلق لكم ما في الأرض جميعاً (9)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2020-01-20 04:45
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(1) وقال جل اسمه: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(2).
في هذه الآية الكريمة الكثير من البصائر، كما ان منها يستنبط الوفير من الحقائق ويستلهم الغزير من اللطائف والدقائق.
من البصائر: الأرض وافية بحوائج البشر وتحديد النسل باطل
قد يستنبط من هذه الآية الكريمة (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) ومن الآية الكريمة الأخرى (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) ان الأرض وما فيها من معادن وثروات وكنوز وذخائر وتربة وماء وهواء وطاقة شمسية ونووية وغلاف جوي و... وافية بحوائج البشر مهما تكاثروا إلى يوم القيامة، سواء منها المسكن أم المأكل والمشرب أم الملبس أم غير ذلك.
نظرية مالثوس التشاؤمية: شيطان تناقص العوائد!
ويستفاد من الآيتين الكريمتين ان تحديد النسل؛ للدواعي التي ذكرها الاقتصادي التشاؤمي الشهير (مالثوس ت 1834م) باطل آخر.
فقد ذهب مالثوس(3) في مقال كتبه عام 1798م (أي قبل 222 عاماً بالضبط)! باسم "مقالة حول مبدأ السكان"(4) إلى وجوب تحديد النسل وإبطاء النمو السكاني عبر خفض معدلات الولادة وعبر تأخير سن الزواج، وذلك كحل أساسي لمواجهة (شيطان تناقص العوائد)! وقد أضحى هذا الكتاب من أكثر الكتب مبيعاً في العالم، وولّد تموجات كبيرة جداً على تفكير أمم العالم خاصة على المسلمين الذين أصبح الكثير منهم دعاة، لفكرة تحديد النسل وتأخير الزواج، بتأثّر مباشر أو غير مباشر، بأفكار مالثوس التشاؤمية حول التزايد الهندسي المخوف لعدد سكان الأرض.
والمعادلة التي أوصلته إلى ضرورة تحديد النسل تتلخص في النقاط التالية:
أولاً: ان مساحة الأرض ثابتة، والقدرة على المناورة بردم المستنقعات وطمّ أقسام من أطراف البحار وإن كانت مفيدة لكنها توسع محدود جداً.
ثانياً: ان أعداد البشر في تزايد مستمر متواصل.
ثالثاً: ان هذا التزايد ينتهج منهج التصاعد الهندسي وليس التصاعد الحسابي فقط، عكس تزايد إنتاج الغذاء، الذي حتى إن كان في ازدياد فانه يتصاعد حسابياً أي ان الناتج المحلي الإجمالي من الطعام إنما يتم حسب متوالية عددية.
والتصاعد الحسابي تصاعد بسيط وهو (1-2-3-4-5-6-7-8-9-10-11-12-13-14....) وهكذا، والمقياس فيه ان يضاف أول رقم إلى كل عدد لاحق.
والتصاعد الهندسي (الأُسي) تصاعد مركب يتضاعف كل رقم عن الرقم السابق عليه، هكذا (1-2-4-8-16-32-64-128-256-512-1024-2048-4096-8192... والمقياس فيه ان يضاف آخر رقم إلى كل عدد لاحق وهكذا فلاحظ ان الرقم 14 في التصاعد الحسابي عَادَلَ الرقم 8192 في التصاعد الهندسي وكلما صعَدْتَ أكثر ارتفع الرقم بشكل أكبر حتى يصل إلى أعداد مهولة جداً.
رابعاً: ان السكان يميلون لأن يتضاعف عددهم كل 25 سنة تقريباً وذلك، كما قال مالثوس، حسب ما توصل إليه بنجامين فرونكلين...
وتوضيحاً لكلامه وتطبيقاً له على الزمن المعاصر فان عدد البشر الآن عام 2020م 7.5 مليار (سبع مليارات وخمسمائة مليون تقريباً) وهذا يعني ان عددهم بعد 25 سنة عام 2045 سيكون 15 ملياراً وسيكون عددهم عام 2070، ثلاثين ملياراً، وعددهم عام 2095 سيكون ستين ملياراً، وسيكون عددهم عام 2120 (أي بعد مائة سنة) مائة وعشرين ملياراً! وسيكون عددهم بعد 25 سنة أخرى أي عام 2145، مائتين وأربعين ملياراً! واما عام 2170، فسيكون عددهم اربعمائة وثمانين ملياراً... وهكذا وهو تصاعد مذهل غريب.
خامساً: وذلك كله يعني، حسب مالثوس، بان أعداد البشر ستزداد بشكل رهيب إلى درجة ان لا يبقى مجال للناس حتى لمجرد ان يكونوا واقفين على سطح الكرة الأرضية!
ومن الطريف ان نمثل لتوضيح فكرة التصاعد الهندسي بما ذكره بعض العلماء الظرفاء من اننا لو أخذنا ورقة (لا متناهية فرضاً) بسُمك معين (ولعله افترض الورقة بسُمك نصف سانتي أو أقل(5)) فاننا لو طوينا الورقة مرة ثم طوينا المطوي مرة أخرى وهكذا فانه في الطيّة الأولى ستصير الورقة بسمك ورقتين، اما في الطيّة الثانية فتصير بسُمك أربع أوراق، وفي الطيّة الثالثة ستكون بسُمك 8 أوراق وفي الطيّة الرابعة ستكون بسُمك 16 ورقة وهكذا.. في تصاعد هندسي مستمر... فلو اننا طوينا الورقة 50 طيّة فان حجم ارتفاع الورقة المطوية 50 مرة سيصل إلى درجة مذهلة لا يتصورها بشري إلا بعد ان يتفهم حقيقة معنى التصاعد الهندسي.. وهي ان ارتفاعها سيصل ما بين كرة الأرض وبين الشمس بنفسها.. وهذا يعني ضخامة بضخامة حوالي 150 مليون كيلو متراً!!
وبذلك يتضح الوجه المخوف لتصاعد عدد السكان في العالم تصاعداً هندسياً (أو مركباً، أو أسّيأ).
سادساً: ان ذلك يوصلنا إلى معنى شيطان تناقص العوائد، فانه هو ذلك بالضبط! إذ الأرض ثابتة، واما الطعام فغاية الأمر انه يتصاعد تصاعداً حسابياً واما أعداد البشر فمتزايدة هندسياً، فكلما ازداد عدد البشر وتضاعف تناقصت العوائد أكثر فأكثر (والمقصود بالعوائد الطعام والشراب والملبس والمسكن.. الذي يكون بمقدور كل بشري ان يحصل عليه).
بعض نتائج نظرية مالثوس وتوصياته
سابعاً: ان الموانع التي تعمل على كبح تصاعد نفوس السكان، تصاعداً هندسياً أو غيره هي إما عوامل قهرية، كالفيضانات والمجاعات والحروب والأوبئة وشبهها والتي تقضي على أعداد هائلة من البشر فيعود حينئذٍ التوازن بين عدد سكان الأرض وكمية الطعام، وإما عوامل وقائية، كتأخير سن الزواج، ومنع الحمل والإنجاب أو تقليله إلى أقصى حد، أو حتى الامتناع عن الزواج(6). وان علينا ان نلجأ إلى الموانع الوقائية كي لا نبتلى بالموانع القهرية!
وهكذا نجد ان نظريته الاقتصادية – الديموغرافية، تتأسس عليها مجموعة من أغرب التوصيات فانه:
ثامناً: يوصي مالثوس (بناء على نظريته التشاؤمية) بالوصايا التالية:
- عدم زيادة أجور العمال، لأنهم كلما حصلوا على مال أكثر، فانهم يتناسلون أكثر فيزدادون فقراً (إذ تزداد بسرعة عد الأفواه الجائعة المحتاجة للطعام!).
- عدم تقديم الإعانات للفقراء! للسبب أعلاه!
- لا داعي أبداً للضمان الاجتماعي والإنفاق على العاطلين!
- يجب وضع العوائق أمام الزواج المبكر.
- يجب وضع العوائق أمام الحمل والإنجاب، كما سبق.
فهذا هو إجمال نظرية مالثوس مع بعض التوضيح، والتي يحمِّل فيها (الطبيعة الشريرة) بزعمه كل المسؤولية عن الفقر والشقاء والبؤس البشري، ويبرّى عَرَضاً النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والارستقراطية والرأسمالية الحاكية.
قال مالثوس في كتابه "بحث في مبدأ السكان": إنَّ الرجل الذي ليس له من يعيله ولا يستطيع أن يجد عملاً في المجتمع، سوف يجد أن ليس له نصيب من الغذاء على أرضه، وبالتالي فهو عضو زائد في وليمة الطبيعة، حيث لا صحن له بين الصحون. وعليه فإنَّ الطبيعة تأمره بمغادرة الزمن).
وقال ديورَانت في (قصة الحضارة):
(عندما ظهر كتاب جودوين (1793م) راح الأب والابن مالتوس يتناقشان بشغف فيما ورد به من أفكار، ولم يشارك الابن أباه في حماسه لأفكار الكتاب، فلقد شعر الابن بأنّ هذا الولع المثالي بالعقل المنتصر لا مُبرر له، لأنه قد جرى تسفيهه مرارًا بواسطة الحقيقة البسيطة التي مؤداها أنه كلما زاد الطعام وتحقق الرخاء سرعان ما يؤدي تزايد السكان إلى محقِ هذا الرخاء، وقد عَبّر(سِفْر الجامعة) في التوراة عن هذا ببلاغة، فما دامت خصوبة الأرض محدودة، ولا سبيل لوقف الشهوة الجنسية فهذا يؤدي إلى تضاعف عدد الأفواه بسبب الزواج المبكر والإنجاب الكثير وانخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال والشيوخ، وهذا بدوره يؤدي إلى استهلاك أيّة زيادة في الطعام بسرعة)(7).
مناقشات سريعة لنظرية مالثوس حول تحديد النسل
ولكن حركة التاريخ اثبتت بطلان نظرية مالثوس.. ولم تتطابق حسابات الحقل والبيدر ولم يحدث ما تخوّف منه مالثوس أشد الخوف والرهبة.. وأبطلت التجربة الخارجية نظريته. كما انه لم يدعم نظريته أبداً بأدلة إحصائية وبحوث تطبيقية.
إضافة إلى انه (ومع مرور الوقت، والشعور بمدى قوة حجج بعض من خالفه، قام في سنة (1824)م بنشر مقال في دائرة المعارف البريطانية راجع فيه نظريته وتراجع عن نِسَبِهِ، وركّز على زيادة عدد السكان كعامل في النضال من أجل الوجود)(8) إضافة إلى ان من البديهي ان الحروب والأوبئة والفيضانات لها أسبابها الخاصة ولها حلول معينة، فكيف توهم ان تحديد النسل وتأخير الزواج والشذوذ الجنسي وعدم تقديم المعونات للفقراء وعدم زيادة أجور العمال، يكفل بالقضاء على الحروب والفيضانات و.. واننا إذا لجأنا إلى الموانع الوقائية فاننا لا نبتلىَ بالموانع القهرية التي تبيد البشرية؟ وقال بعض الباحثين: (إلا أن الوقائع الاقتصادية والتقنية التي شهدها العالم مثّلت الرد الأهم على نظرية مالثوس، حيث ترافق النمو السكاني مع تطور تقنيات الزراعة ما أدى إلى تنامي معدلات الإنتاج الزراعي، في العديد من البلدان التي تشهد نمواً سكانياً مضطرداً.
فيما اعتبر بعض الاقتصاديين أن الداء الذي يخشاه مالثوس للبشرية ليس عدم إمكان زيادة المواد الغذائية اللازمة لإطعام البشر، بل يكمن في النظام الرأسمالي نفسه والتفاوت الاقتصادي والتركيز في المداخيل وعدم توزيعها توزيعاً واسعاً.
كما انه اعتمد في ما يتعلق بتزايد السكان على إحصائيات الولايات المتحدة التي كان سكانها في ذلك الوقت يتزايدون لا بسبب الولادات وحدها، وإنما بسبب الهجرة من البلاد الأخرى. كما لا يوجد دليل على أن المواد الغذائية تتزايد بمتوالية حسابية، إذ لم يأخذ مالتوس بعين الاعتبار التقدم العلمي الذي حدث في الآونة الأخيرة، وما يمكن أن يؤدي إلى زيادة الإنتاج من المواد الغذائية حتى من المركبات الكيميائية، فمن النفط أمكن صنع اللحوم والدجاج والزبدة ومنتجات أخرى).
ولذلك وعلى أنقاض نظرية مالثوس ولدت (مدرسة الوفرة)، بل لقد طرح العديد من العلماء والفلاسفة من قبله(9)، ان الفقر والبؤس الاجتماعي يعودان إلى النظم الاقتصادية الفاسدة وليس إلى الطبيعة التي يراها مالثوس وأشباهه شريرة.
والغريب ان نظرية مالثوس أعطت أسلحة نافذة بيد الحكومات الفاسدة والطبقة الرأسمالية والإقطاعية الحاكمة، لمكافحة دعوات زيادة أجور العمال والتضامن الاجتماعي بتكفل الفقراء والعجزة والعاطلين وغير ذلك.
وليس من الغريب ان يستثمر بعض علماء الاقتصاد أفكار مالثوس ليستنبط منها نظرية قاسية جداً على الفقراء، بل هي نظرية متوحشة إلى ابعد الحدود فلاحظ (يبين هذا التطبيق المهم لقانون تناقض العوائد الأثر العميق الذي يمكن لنظرية بسيطة ان تفعله. لقد كان لأفكار مالثوس أصداء واسعة. فقد استخدم كتابه لدعم وجهة نظر كانت قائمة وتهدف إلى مراجعة القوانين الإنجليزية المتعلقة بالفقر. فبتأثير من كتابات مالثوس جادل الكثيرون بضرورة جعل الفقر مزعجاً بأكبر قدر ممكن. وساندت آراؤه الحجة القائلة بأن نقابات العمال لا تستطيع تحسين رفاهية العمال (بدعوى ان أية زيادة في أجورهم لم تفعل شيئاً سوى أنها ستجعلهم يتكاثرون إلى ان يتردوا جميعاً إلى معيشة أشد فقراً)(10).
وقال بعض الباحثين: وتلقى المحافظون البريطانيون ما ورد في كتاب مالتوس كوحي مقدس (إلهي)، وشعر البرلمان وأصحاب الأعمال بأن لديهم مايبرر موقفهم في مقاومة مطالب الليبراليين.
وكان وليام هازلت Hazlitt استثناءً: ففي مقال عن مالتوس في كتاب روح العصر The spirit of the Age (سنة 1824) هاجم هذه القدسية التي لا تعرف الرحمة أو بتعبير آخر هاجم نسبة القسوة إلى الله بكل ما أوتي من طاقة عقلية وحدة في الذهن. لقد ذكر أن خصوبة النبات تفوق كثيرا خصوبة النساء فالحبوب ستتكاثر وتتضاعف أسرع بكثير جدا من زيادة الجنس البشري، فمقدار بوشل bushel (مكيال للحبوب يساوي ثمانية جالونات أو نحو 23 لترا ونصف اللتر) يزرع حقلا، وهذا الحقل سيثمر حبوبا تكفي لزراعة عشرين حقلا آخر. ستكون هناك ثورات خضراء green revolutions).
بل والأعظم من ذلك ان نظريته كانت، كما يقول العديد من المؤرخين والباحثين، هي السبب في حدوث كوارث إنسانية عظمى حيث ان تجربة التنمية السوفيتية في روسيا استحلت إبادة 10-15 مليون إنسان (حسب بعض التقديرات) محتجين بضرورة تقليص التراكم البشري الضاغط لتحقيق التقدم الصناعي والتنمية الاقتصادية.
ويقول آلان تشيس Allan Chase) في كتابه (Legacy of Malthus تركة مالتوس):
إن أكثر من (63) ألف شخص قد جرى تعقيمهم قسريًا بين عامي [1907]م وَ[1964]م في أمريكا، والحقيقة -وفقاً للتحقيقات القضائية- فهناك مئات الآلاف من عمليات التعقيم الأُخرى التي كانت طوعيّة في الظاهر، غير أنها قسرية جرت عنوة في واقع الحال.
وهذا ما أكده القاضي الأمريكي الفيدرالي (جيرهارد جيسيل Gerhard A Gesell) عام [1974] في خضم قضية ترافعت فيها المحاكم لمصلحة ضحايا التعقيم القسري للفقراء: "على مدى السنوات القليلة الماضية قامت الدولة ممثلة بالهيئات والوكالات الفيدرالية بتعقيم ما بين مائة إلى مائة وخمسين ألف شخص سنويًا من الفقراء")(11).
فهذه إشارة إلى نظرية مالثوس وبعض الأجوبة، وقد يكون لنا لاحقاً بحث مفصّل عن مختلف كلماتهم والجواب عن مختلف إشكالاتهم. هذا.
ولكن بطلان نظريته التشاؤمية والنظريات المشابهة، يمكن استفادته، قبل التجربة، من الآيتين الكريمتين اللتين صدّرنا بها البحث، وتوضيح ذلك:
دلالة الآيتين على بطلان نظرية عدم وفاء الأرض بحاجات البشر
انه قد يقال ببطلان نظرية مالثوس السابقة (شيطان تناقص العوائد) وعدم كفاية الأرض لإطعام البشرية ولا لسكناهم نظراً لمحدودية مساحة الأرض من جهة وتصاعد إنتاج الطعام تصاعداً حسابياً بينما يتصاعد النمو السكاني تصاعداً هندسياً من جهة أخرى، وذلك استناداً إلى ما قد يستنبط من الآيتين الكريمتين (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) و(هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)، فانه يمكن الاستدلال بالآيتين على بطلان نظرية مالثوس وبطلان الدعوة إلى تأخير سن الزواج وتحديد النسل، بوجوه ثلاثة:
أولاً: لأن المقابلة تفيد التكافؤ والتناسب
الوجه الأول: ان المقابلة في الآيتين تقتضي المكافئة والتناسب بين المجموعتين المتقابلتين؛ فان ذلك هو ظاهر التقابل والمقابلة، إذ يقول تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) فالأنام في جانبٍ وجهةٍ، والأرض في جانبٍ وجهةٍ أخرى، وقد وضعت هذه الأرض لنفع أولئك الأنام و(النفع) الأظهر من معاني اللام في المقام على انها لو كانت لام الملك أو الاختصاص أو الاستحقاق(12) لما اضرّ وذلك لأن جامعها النفع، وإيقاع المقابلة بينهما يقتضي كفاية الأرض للأنام، وكذلك الحال في قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) فان (لَكُمْ) في جهة و(ما فِي الْأَرْضِ) في جهة أخرى وقد خلقت تلك لهؤلاء فلا بد من وجود تناسب وتكافؤ بينها.
ثم ان كفايتها (لِلْأَنامِ) وكفاية ما في الأرض (لَكُمْ) هي دوماً وعلى مرّ الأزمان؛ وذلك لأن الخطابات القرآنية عامة لكل الأمم على امتداد التاريخ وليس خطاب (خَلَقَ لَكُمْ...) خاصاً بمعاصري الرسول صلى الله عليه واله وسلم ولا (الأنام) في (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) خاصة بالأنام في ذلك الزمن، بل هو خطاب عام لكل الأمم في كل الأزمان كما هي القاعدة في كافة الخطابات القرآنية، فان من الواضح ان القرآن لم ينزل لتلك الأمم فقط بل نزل كآخر كتاب سماوي خالد يتضمن تعاليم السماء للبشرية حتى آخر الزمن كما ثبت في علم الكلام، كما ان الأصوليين حققوا ذلك في مبحث ان القاعدة العامة في أحكام الشارع كونها على نحو القضايا الحقيقية لا الخارجية، فما بالك بمثل هذه الخطابات القرآنية؟.
وقاعدة ان المقابلة تقتضي التناسب، كأصل عام، لعلها من بديهيات القواعد العقلائية فلو قلت مثلاً: ان الواجب ان نعيّن أساتذة لطلاب هذه المدرسة، افاد لزوم التناسب الكمّي بين أعداد الأساتذة والطلاب بحيث يغطون احتياجاتهم وأفاد كذلك لزوم التناسب الكيفي في المستوى بان يكون الاساتذة بمستوى تدريس أولئك الطلاب، ولو اريد غير ذلك كان هو المخالف للأصل المحتاج للقرينة، وكذلك لو أخبرت باننا عيّنا في الدائرة الفلانية الموظفين لتمشية أمور الناس، كان الأصل فيما يفهم من الكلام (إلا لو كان عهد خارجي أو حضوري أو ذهني أو قرينة حافة معاكسة) اننا عيّنا العدد الكافي الوافي بحاجات الناس.
بل تجري قاعدة التناسب حتى فيما ربما بدا في بادئ النظر غير متناسب كمّياً، وذلك فيما إذا عوّضت الكيفية عن الكمية وذلك كما في قوله تعالى: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(13) أو (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً)(14) فإن التناسب موجود وهو التكافؤ في ميزان القوى الكمّي - الكيفي الذي يجعل مائة من المؤمنين يقابلون ألفاً من الكفار نظراً لقوة إيمانهم وعدم تخوّفهم من الموت إذ يرون الجنة نصب أعينهم، ومن لا يخاف من القتل يهاجم بقوة وحماس وضراوة مذهلة، عكس من يخاف منه فانه يفرّ إذا حمي الوطيس، وعلى ذلك تكون المائة متناسبة مع الألف، ولكن حيث ضعف إيمان المسلمين بعد ذلك كان التناسب بين مائة منهم ومائتين من الكفار.
وعليه: فان قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) و(هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) ظاهر بقرينة المقابلة وإيقاع التقابل، في كفاية الأرض للأنام وفي كفاية ما في الأرض لجميع البشر على مرّ التاريخ فانها خلقت لنفعهم فكيف لا تكون وافية بحاجاتهم؟ ولو لم يكن كذلك لوجب القول: والأرض وضعها لبعض الأنام أو خلق لبعضكم ما في الأرض أو شبه ذلك.
وغير خفي ان أصالة التناسب، كأي أصل عام، هي ظاهر الكلام وظاهر الكلام يحتمل فيه خلافه لكن الظاهر هو الحجة وخلافه ليس بحجة أبداً إلا لو اقام المتكلم قرينة على الخلاف، وذلك كالعام والمطلق حيث هما حجة وإن أمكن التخصيص والتقييد، فإذا لم يُقِم قرينة على الخلاف كان المعنى الظاهر هو الحجة المتّبعة دون كلام.
لكن يبقى الكلام في ان ذلك الذي استنبطناه في ظهور قرينة المقابلة في التناسب، هل يرقى إلى درجة الدليل؟ أو انه يبقى في خانة المؤيد؟ وانه ظهور عرفي أو استشعار فلسفي؟ فان ارتقى ذلك إلى مستوى الدليل في نظر المجتهد فبها وإلا انتقلنا إلى الدليل الآخر وهو:
ثانياً: لأن ذلك مقتضى قاعدة الامتنان
الوجه الثاني: ان ذلك هو مقتضى (الامتنان) فان قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) و(هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) لا شك في انه وارد مورد الامتنان على البشر، بل لعل الامتنان فيهما أوضح من الامتنان في حديث ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))(15) وفي ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ: السَّهْوُ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَمَا لَا يَعْلَمُونَ وَمَا لَا يُطِيقُونَ وَالطِّيَرَةُ وَالْحَسَدُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ مَا لَمْ يَنْطِقِ الْإِنْسَانُ بِشَفَةٍ))(16) وفي (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)(17) فانّ من أوضح الواضحات انّ ذلك فضل ولطف من الله تعالى: أنْ خلق ما في الأرض جميعاً لنفعنا جميعاً وأن جعل الأرض لنا، ومن الواضح ان مقتضى الامتنان التناسب والتكافؤ الآنف الذكر، بل ان عدم التناسب خلاف الامتنان بدون شك، فان الله تعالى إذا خلق الأرض التي لا بد لنا منها وخلق ما فيها مما لا بد لنا منه، بحيث تقصُر عن الوفاء بحاجاتنا رغم قدرته على خلقها بحيث تفي بكافة الحاجات، كان خلاف الرحمة والامتنان، إذ أية منّة في إعطاء الألف شخص طعام مائة شخص بحيث يتقاتلون عليه؟ أو بحيث لا يعيش به إلا مائة ويموت الآخرون أو يتضورون جوعاً؟
ثالثاً: علم الله وقدرته وكرمه، يفيد وفاء الأرض بحاجات البشرية
الوجه الثالث: سلّمنا لكن ذلك (التكافؤ والوفاء بحاجات البشر) هو مقتضى:
1- علمه المحيط بحاجات البشر ومحدودية مساحة الأرض وبتزايد أعداد البشر حسابياً أو هندسياً أو أمراً بينهما (كما لعله الغالب).
2- غناه المطلق وقدرته على ان يخلق للبشر ما يفي باحتياجاتهم من أرض ومأكل ومشرب وملبس ومسكن الخ، وكلها تعود إلى الأرض وما فيها وما عليها من ماء وهواء ومعادن وطاقة شمسية، وغابات وأشجار وأثمار وأنهار وأطيار وحيوانات بريّة وبحرية.. الخ.
3-4- رحمته وكرمه، فانه إذا لم يكن رحيماً أو كان بخيلاً لأمكن ان يخلق الخلق ولا يخلق لهم ما يفي باحتياجاتهم، وإلا فمع عموم رحمته (وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)(18) و(إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحيمٌ)(19) ومع جوده وكرمه فكيف لا يخلق لهم ما هم بأمسّ الحاجة إليه إلى درجة انهم سيعانون أشد المعاناة ويموتون أسوأ ميتة، بدونه؟.
5- حكمته تعالى فان السفيه قد يبني بيتاً صغيراً لا يسع إلا لعشرين ثم يروم إسكان ألف شخص فيه، اما الحكيم، إذا كان قادراً عالماً، فانه لا يعقل ان يفعل ذلك فكيف بسيد الحكماء؟
والحاصل: ان مقتضى الحكمة والرحمة الإلهية ومقتضى جوده وكرمه ومقتضى حكمته ان يخلق الأرض للأنام بحيث تفي باحتياجاتهم وان يخلق لهم ما في الأرض جميعاً بحيث يكفيهم على امتداد الأزمان إلى يوم القيامة، لفرض علمه المحيط بالمستقبل كله وقدرته الواسعة وغناه وكرمه (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)(20).
الغلاء في معادلة التصاعد الهندسي
ومن ذلك كله يتضح وجه آخر وحِكمة أخرى للقانون الإلهي ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا))(21) (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) و(هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) وقد أشرنا إليها سابقاً بوجه والتفصيل الآن بوجه آخر، وهو: ان العمل بهذا القانون يوجّه ضربة قاصمة للتضخم والغلاء والفقر، وان إهمال هذا القانون يؤدي إلى سلسلة متصلة الحلقات من الغلاء والتضخم، والغريب في هذا السلسلة هو انها تتصاعد تصاعداً هندسياً لا حسابياً فقط وتوضيح ذلك:
إن (الْأَرْضِ) إذا انخفض المعروض منها، بسبب سيطرة الحكومات عليها ومنعها الناس من حيازتها واستثمارها، فان ذلك يؤدي إلى ارتفاع قيمتها وغلائها كما سبق وكما هو مقتضى قانون العرض والطلب البديهي، ولكن الجديد الذي نريد طرحه هنا، وقد صرح به كبار علماء الاقتصاد، ان حلقات الغلاء المتتالية في (البضائع الطولية) ستتصاعد تصاعداً هندسياً لا حسابياً، وذلك حسب معادلة أشار إليها بعض كبار علماء الاقتصاد وإجمالها ان ارتفاع (الأجور) يؤثر في غلاء البضائع ويرفعها بنحو التزايد الحسابي (1-2-3-4-5...) اما ارتفاع (الأرباح) فانه يؤثر في غلاء البضائع وارتفاع قيمتها بنحو التزايد الهندسي (1-2-4-8-16...).
ولنقتطف فقرة من كلام أب الاقتصاد الحديث منذ قرنين ونصف فانه حجة عليهم دون شك، كما انه مطابق للقاعدة العقلية قال في ثروة الأمم:
(لكننا في الواقع نرى الأرباح المرتفعة تؤدي إلى رفع سعر العمل أكثر مما تؤدي إليه الأجور المرتفعة. فإذا كانت أجور مختلف العمال في صناعة الكتان على اختلاف أدوارهم من تحضير الخيوط إلى الغزل، والنسيج على سبيل المثال، تدفع لهم مسبقاً بمعدل بنسين في اليوم، فمن الضروري رفع سعر قطعة الكتان بمقدار يعادل عدد الأفراد الذين تقاضوا بنسين في هذا العمل، مضروباً بعدد الأيام التي عملوا فيها. وذلك الجزء من سعر السلعة الذي تحول إلى أجور سيرتفع بنسبة متوالية حسابية عبر المراحل المختلفة للصنع ليصل إلى هذا الارتفاع في الأجور. أما إذا ارتفعت أرباح كل أرباب عمل هؤلاء العاملين بنسبة خمسة بالمائة، فان ذلك الجزء من سعر السلعة الذي تحول إلى ربح سوف يرتفع عبر المراحل المختلفة للتصنيع بنسبة متوالية هندسية إلى هذا الارتفاع في الربح. وعندما يقوم رب عمل العمال العاملين في تهيئة خيوط الكتان ببيع هذه الخيوط فإنه يحتاج إلى إضافة خمسة بالمائة على كامل قيمة المواد والأجور التي دفعها مسبقاً إلى عماله. ورب عمل العاملين في غزل الخيوط يحتاج إلى إضافة خمسة بالمائة على السعر المدفوع مسبقاً لهذه الخيوط ولأجور عمال الغزل. ورب عمل العاملين في النسيج سوف يحتاج بالمثل إلى إضافة خمسة بالمائة على السعر المدفوع لغزول الكتان وعلى أجور عمال النسيج.
وعند رفع سعر السلع يعمل ارتفاع الأجور بالطريقة نفسها التي تفعلها الفائدة البسيطة في تراكم الدين، أما ارتفاع الربح فيعمل كما تعمل الفائدة المركبة، لكن تجارنا وأرباب الصناعة لدينا يتذمرون كثيراً من الآثار السيئة لارتفاع الأجور عند رفعهم للسعر، وبذلك تقل مبيعات بضائعهم داخلياً وخارجياً. وهم لا يقولون شيئاً عن الآثار السيئة لارتفاع الأرباح؛ هم صامتون فيما له صلة بالآثار الضارة لأرباحهم. لا يشتكون إلا من أجور أولئك الأشخاص)(22).
كيف يؤثر غلاء الأراضي بمتوالية هندسية على غلاء كافة البضائع؟
وتوضيح الفكرة أو القاعدة: (ارتفاع الغلاء بمتوالية هندسية عند ارتفاع نسبة الأرباح، وزيادته بمتوالية حسابية عند زيادة الأجور):
ان الحكومات بمنعها حيازة الناس للمباحات والأراضي الموات، إلا بألف قيد وشرط وروتين وبيروقراطية، وباستيلائها هي على الكثير من الأراضي وتجميدها(23) فانها تقلل نسبة المعروض من الأراضي، ومن الثابت انه كلما قلّ العرض، مع بقاء الطلب على حاله، زاد الغلاء، فإذا فرضنا ان الحكومة قلّلت عرض الأراضي بعدم سماحها للناس ببنائها وزراعتها، ولو كان ذلك تحت ستار قوانين وقيود قد لا يستطيع الناس تلبيتها أو قد يمكنهم تحقيقها ولكن بعد مضي فترة كسنة أو أكثر)، فان الأراضي ترتفع حينئذٍ قيمتها كأية بضاعة إذا قلّ عرضها بشكل مؤقت (خاصة إذا كان لفترة طويلة نسبياً) أو دائم.
فإذا فرضنا انها منعت حيازة نسبة 5% من الأراضي (وهو حد أدنى بكثير مما تمنعه حالياً الحكومات، لكن القصد إيضاح مبدأ الغلاء المتصاعد تصاعداً هندسياً) وفرضنا ان خفض المعروض من الأراضي بنسبة 5% سيؤثر على ارتفاع قيمتها بنسبة 5% أيضاً(24) (وفي الواقع الخارجي قد يكون تأثيره أكبر بكثير جداً وقد يكون أقل) فهذا يعني:
أ- ان مالك الأرض وليكن اسمه (أ) مثلاً الذي اشتراها بمائة ألف دولار وكان يبيعها بمائة وخمسة آلاف دولار مثلاً أي (بربح معين قدره 5% بالنسبة إلى رأس المال) فانه سيبيعها الآن بمائة وعشرة آلاف دولار(25) أي بربح أكبر (من ربحه المعيّن السابق) بنسبة 5% فهذه هي الحلقة الأولى.
ب- ثم ان التاجر (ب) الذي يشتري هذه الأرض (أو يستأجرها بارتفاع قيمة الإجارة 5% فرضاً) ليربي فيها الماشية ليتاجر بصوفها مثلاً (وكذا بلحومها... الخ) فانه حيث يريد ان يربح 5% (فرضاً) فان هذه الـ5% سيحمّلها فوق 110 آلاف وليس فوق الـ105 ألف في الحالة العادية أي ان التاجر (ب) إذا كانت قاعدته ان يربح على كل رأسمال يخصصه للتجارة بـ5% فان رأسماله الذي خصصه للتجارة واشترى به الأرض هو 110 آلاف فسيبيع الصوف بحيث يغطي الرأسمال الذي صرفه وأنفقه (أي يعوضه) زائداً 5% على الـ110 آلاف (بدل 5% على الـ105 ألف) فهذه هي الحلقة الثانية.
نعم، حيث ان التاجر الذي اشترى الأرض بسعر أغلى، لا يقوم عادة، بتعويض الخسارة، في الدورة والوجبة الأولى من المبيعات، بل يقسمها على عشر دورات متتالية مثلاً(26) فان هذا الغلاء يتوزع على عشر دورات (وسلاسل من المبيعات) مما يعني ان نسبة الغلاء في الدورة الأولى ستكون نصف بالمائة (05%) في مثالنا السابق فيكون التصاعد محسوباً على أساس نصف بالمائة، ثم تبدأ سلسلة التصاعد الهندسي المذكور في الحلقات اللاحقة، بدءً من نصف بالمائة، واما إذا سحب كامل الخسارة على الوجبة الأولى من المبيعات (في السنة الأولى مثلاً) فسيكون الأمر حسبما ذكرناه من معادلة تضاعف الـ5% والتي بنينا افتراضاتنا عليها، وذلك غير بعيد إذ أحياناً يتحمل السوق إضافة 5% على الأسعار وذلك فيما إذا كان الطلب شديداً والعرض قليلاً، خاصة وان ارتفاع سعر الأراضي جميعاً يؤثر بشكل عام على أسعار مختلف البضائع لأن أكثرها يعود، بشكل أو بآخر، إلى سعر الأرض، لذلك فانه سيكون من مصلحة التجار جميعاً رفع الأسعار بنسبة كبيرة إلى حد ما.
وهذا كله مع اننا، دفعاً لتوهم الإشكال والأخذ والرد، يمكننا ان نفرض ان التاجر (ب) (استأجر) هذه الارض (ولم يشترها) وذلك نظراً لأن قيمة الإيجار حيث كانت سنوية فان التاجر يضطر حينئذٍ على تعويض الخسارة في ضمن السنة نفسها فإذا كان إنتاجه ومحصوله في السنة دفعة واحدة، كالمحاصيل الزراعية عادة، حمّلها كامل الخسارة وهي 5% وهكذا.
ج- ثم إن التاجر (ج) الذي اشترى الصوف من تاجر المواشي وكانت تجارته بان يحوله إلى خيوط ويربح 5% مثلاً فانه سيضيف على سعر بضاعته 5% على كامل الرأسمال الذي دفعه(27) (وهو مائة وخمسة آلاف + 5% التي دفعت لمالك الأرض + 5% التي دفعت لتاجر المواشي) فهذه هي الحلقة الثالثة.
د- ثم ان التاجر (د) الذي يشتري المغزول لينسجه يضيف 5% على كامل ما دفعه لبائع المغزول (والمتضمن رأسمال المال الأصلي مع إضافات متتالية بقدر 5% تزداد بزيادة كل حلقة) وهكذا نجد تاجر الأقمشة.. ثم تاجر الملابس.. يضيف كل منهم 5% على الأصل وعلى الزيادات، وهذا يعني بالنتيجة النهائية ان الثياب والدشاديش مثلاً ارتفعت قيمتها 5% ولكن بمتوالية متصاعدة هندسياً فكلما توسطت حلقة زادت الـ5% على الرأسمال السابق وعلى مجموع الزيادات السابقة.
وهكذا فبدل ان تتزايد حسابياً أي 5% × 5% ×5% على أصل رأس المال نجد النتيجة هي 5% على الأصل والزيادة السابقة التي هي 5% ثم 5% على الأصل والزيادة السابقة والزيادة الأسبق.. وهكذا.
وبلغة رياضية تكون المعادلة هكذا: في الحلقة صفر 105 آلاف (قبل الزيادة التي حدثت بعد خفض المعروض من الأراضي)، وفي الحلقة الأولى: 105×1.05، وفي الحلقة الثانية: 105 × 1.05 × 1.05 وفي الحلقة الثالثة: 105 × (1.05)3 وفي الحلقة العاشرة: 105 × (1.05)10 وهكذا وهلم جرا.
وبعبارة أخرى: المبلغ الذي يجب ان يدفعه صاحب المواشي مع افتراض عدم تدخل الدولة في احتكار 5% من الأراضي
(100 + 100 × 0.05) − −−→ 105000
المبلغ الذي يجب ان يدفعه صاحب المواشي مع افتراض تدخل الدولة في احتكار 5% من الأراضي
(100 + 100 × 0.10) − −−→ 110000
الزيادة التي يدفعها صاحب المواشي (ب) هي 5%
110000 − 105000 = 5000
لكن الزيادة التي يدفعها مشتري الصوف (ج) ليست 5% بل هي:
110000 + 110000 × 0.05 = 115500
105000 + 105000 × 0.05 = 110250
إذن الزيادة التي يدفعها مشتري الصوف (ج) 10.25%
115500 − 110.25 = 5250
الزيادة التي يدفعها مشتري المغزول (د)
115500 × 1.05 = 121275
110250 × 1.05 = 115762.5
الزيادة التي يدفعها مشتري المغزول (د) ٧٦٢٥.۱٥%
121275 − 115762.5 = 5512.5
على هذا الغرار يمكن محاسبة الزيادة التي يدفعها المستهلك الموجود في الحلقة الرابعة مثلاً وهو مشتري الأقمشة (هـ)
5000 × (1.05) 4 = 6078
الزيادة التي يدفعها المستهلك النهائي الموجود في الحلقة العاشرة هي 63%
5000 × (1.05) 10 = 8145 )
ومن القواعد العامة الرياضية في الزيادة المركبة هي "قاعدة الـ70" Ruleof 70"" والتي تقول بان مقداراً من الزيادة قدرها س في كل حلقة (أو في كل سنة في أرباح الفوائد المركبة) ستتضاعف خلال 70/ س سنة فإذا كانت الزيادة مثلاً 2% سنوياً فان المبلغ الكلي سيتضاعف في 35 سنة، وعليه فإذا اقترضت بفائدة مقدارها 7% سنوياً فهذا يعني ان المبلغ الذي عليك دفعه للمقرض بعد عشر سنوات (لو لم تسدد له شيئاً طوال هذه المدة) سوف يتضاعف فإذا كان الذي اقترضته مائة ألف فان عليك، إذا تحملت فائدة مركبة قدرها 7% سنوياً، على ان تسدد له كامل المبلغ مع فوائده بعد عشر سنوات، فان عليك ان ترجع له مائتي ألف دولار وبعد عشر سنوات أخرى عليك ان ترجع له اربعمائة ألف وهكذا..
وقد ذكر ذلك في كتاب (الاقتصاد) إذ يقول: (ومن القواعد المفيدة ذات العلاقة بالفائدة المركبة "قاعدة الـ10" "rule of 70" والتي تنص على ان مقداراً من النمو معدله س في السنة سيتضاعف خلال 70/ س سنة مثلاً، جماعة بشرية تزيد بمعدل 2 بالمئة سنوياً سوف تتصاعد خلال 35 سنة، وبالتالي إذا استثمرت أموالك بفائدة مقدارها 7 بالمئة سنوياً، فإنها سوف تتضاعف كل 10 سنوات).
(وحين تستثمر النقود بشكل متواصل، فإنها تكسب فائدة مركبة، أي ان هناك فائدة تكتسب على الفائدة السابقة. والنقود التي تكتسب بفائدة مركبة تزداد حسب متوالية هندسية.
ومن الحسابات المحيّرة تحديد ما كانت ستؤول إليه قيمة الـ24 دولاراً التي تلقاها الهنود الحمر ثمناً لجزيرة مانهاتن لو أنها أودعت بفائدة مركبة في ذلك الحين وبقيت حتى اليوم. افرض ان هذا المبلغ قد أودع كوقف بفائدة مقدارها 6% سنوياً منذ العام 1624، فإنه سيساوي 59 بليون دولار في العام 1995)(28).
إشكال: لا نجد تصاعد الأسعار هندسياً، بمنع الحكومة حيازة الأراضي؟
لا يقال: لكننا لا نجد الأسعار تصاعدت تصاعداً هندسياً، إثر منع الحكومات حيازة وإحياء نسبة كبيرة من الأراضي؟
الجواب: أولاً: ارتفاع الأسعار خلال القرن الماضي، بشدة
إذ يقال: أولاً: ان أسعار الاراضي وكافة الأشياء الأخرى، ارتفعت ارتفاعاً مذهلاً طوال القرنين الأخيرين، فقبل مائة عام كان البيت بمساحة 500 متراً يُشترى بألف دينار بل أقل(29) ولكنك لا يمكنك شراؤه الآن إلا بـ500 مليون في بعض المناطق وبأضعاف ذلك في مناطق أخرى وربما بأقل من ذلك في بعض المناطق النائية من العراق، وذلك يعكس أمرين في وقت واحد: 1- انخفاض قيمة العملة، 2- وارتفاع أسعار الأراضي وغيرها، ومن الواضح ان السبب في هذا الارتفاع المذهل يعود إلى عوامل عديدة:
منها: ارتفاع الطلب عليها نظراً لتزايد أعداد السكان المستمر بالتوالد وبالوافدين الجدد.
ومنها: ارتفاع قيمتها نظراً لاحتكار الحكومة للأراضي – وهو مورد البحث - ولذلك كانت الأراضي تنخفض أسعارها فوراً كلما سمحت الحكومة للناس بحيازة مساحات معينة جديدة بأسعار منخفضة أو رمزية.
ومنها: ارتفاع قيمتها بسبب شق الطرق وتشييد الجسور والأنفاق أو مرور خط سكك الحديد لديها، أو شبه ذلك مما منحها ميزات من حيث استراتيجية الموقع فزاد الطلب عليها أكثر. وفي ذلك كله تفصيل سنتطرق له في كتابنا الآتي (الاقتصاد الفطري) بإذن الله تعالى.
ثانياً: لأن التقدم التكنولوجي، قاوم الغلاء إلى حد كبير
ثانياً: ان غلاء احدى البضائع (خاصة عوامل الإنتاج كالأرض وهي الأم لسائر البضائع) يعدّ أحد أهم العوامل التي تقود نحو غلاء أسعار البضائع الأخرى التي تقع في سلسلتها الطولية، ولقد كان البحث في هذا المقال عن تأثير هذا العامل لو انفرد بنفسه ولم تزاحمه عوامل أخرى، ولكن من أهم ما حال دون ارتفاع أسعار البضائع الطولية ارتفاعاً هندسياً (رغم انها ارتفعت ارتفاعاً كبيراً) هو التطور التكنولوجي وحيث ان التكنولوجيا المتطورة جاءت بالوفرة لذلك زاد العرض بشكل كبير جداً مما وازن إلى حد تأثير الغلاء المتصاعد..
قانون التصاعد الهندسي في العلم والأخلاق والمجتمع
ومن الجدير في الخاتمة ان نشير إلى ان قانون التصاعد الهندسي يمكن استثماره في شتى المجالات خارج دائرة علم الاقتصاد، بل في كل العلوم وفي حياة الناس اليومية ولنمثل لذلك بمثالين مفيدين:
الأول: ان الشخص لو قرّر ان يتطور أخلاقياً بنسبة 7% أسبوعياً بنحو الزيادة المركبة فهذا يعني انه بعد 10 سنوات سيصبح أفضل من سابقه بدرجة مضاعفة.
الثاني: ان الشخص لو قرر ان يزداد في معلوماته كل سنة بنسبة 7% أو في علاقاته الاجتماعية بنسبة 7% فان ذلك يعني انه سيصبح بعد 10 سنوات أعلم مما هو عليه الآن بنسبة مضاعفة، وان شبكة علاقاته الاجتماعية لو كانت عشرة آلاف شخص مثلاً فانه لو قرر زيادتها كل سنة 7% فقط (لكن بنحو الزيادة المركبة) فانه شبكة علاقاته ستبلغ العشرين ألف بعد عشر سنوات.. وهكذا.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين