الطغيان والإيمان
من كتاب خواطري عن القرآن
الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي
2019-05-09 08:01
(كَلاَّ... إِنَّ الإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) سورة العلق: 6 ـ 7.
(الطغيان) هو: الاستعلاء مع الغمور، فيقال: طغى الماء على المزرعة، إذا غمرها حتى لم يظهر منها شيء. والإنسان إذا استعلى على شيءٍ حتى غطاه، فقد طغى عليه.
(والطغيان) من المرتكزات الأساسية في الإنسان. فيجب أن يكون هو، وأن لا يكون عليه حاكم، وأن لا يكون له ندّ: لا من الناس، ولا من المبادئ، ولا من الأشياء.
وهو يحب والديه، وأولاده، وإخوانه، وأصدقائه، وأشياءه... ولكن بشرط أن يكون كل ذلك تحته، يتصرف بها كنقوده، ليمارس من خلالها تلك الركيزة.
وهذه الركيزة تحكم الإنسان حتى الموت. فيضحي براحته، وأعصابه، وكل ما يحب ـ وحتى بنفسه ـ لممارستها. ولا يتخلى عن هذه الركيزة إلا إذا اضطر إلى التخلي عنها، لأن الواقع يبقى فوق الإنسان، وللواقع أحكامه المفروضة على الإنسان: فيطيع أباه، لا احتراماً له، وإنما لحاجته إليه. ويقدس مبدأه، ليشق به طريقه في الحياة. وينتهج الصدق، ليفرض كلامه على الآخرين. ويتظاهر بالدين، ليسخر به بعض الناس... وإذا وجدنا إنساناً خاضعاً لشيءٍ، فعلينا أن نفتش عن الاضطرار الذي أجبره على هذا الخضوع.
والذي يدل على أن الإنسان لا يحني رأسه إلا مضطراً، هو: أنه لا يرفع هذا الاضطرار إلا ويرفع رأسه. وإذا وجد المجال مفسوحاً، يستعلي على ذات الشيءٍ ـ الذي كان يحني له رأسه ـ ، ويدوسه، متجاوزاً نحو الأعلى.
وقد يفلسف خضوعه الأول واستعلائه الأخير بمبدئية معينة، ولكنه لا يكلف نفسه بهذا التفلسف إلا تكريساً لسيطرته على من حوله عن طريق التظاهر بالمبدئية، بدليل:
أنه لا يطمئن إلى اشتداد وطأته إلا ويستغني عن التفلسف لتصرفاته أمام من لا يشرطون انقيادهم له بشرط معين، فيتعرى أمامهم عن ركائزه التي كان يسترها عنهم، فيصبح هو المبدأ والمقياس. فبعدما كان يقول: المبدأ يفرض علي أن أعمل كذا... أو لا أعمل كذا... يقول: أنا أعمل كذا... وأنا لا أعمل كذا... وأنا أحب كذا... وأنا لا أحب كذا... فهو الذي يتخذ القرار، وبوحي من رغباته الشخصية، لا بوحي من أي مصدر يحق له الإيحاء بالتوجيه.
وقد شهد التاريخ أناساً استحكموا سيطرتهم على الجماهير التي شعروا بالاستغناء عن التظاهر أمامها بالتمذهب والتمسلك، فأعلنوا انسلاخهم عن المذهبية والمسلكية. وعرف التاريخ أناساً آخرين شعروا باستحكام سيطرتهم على الجماهير أكثر من أولئك، فاستغنوا حتى عن الاعتراف بالله، وادعوا الربوبية لأنفسهم.
فركيزة (الطغيان) المتأصلة في الإنسان، ركيزة لا يمكن كبحها إلا بالاضطرار. ولذلك: جاءت الأديان لتوجد شعوراً أقوى ـ في قرارة الإنسان ـ بحاجته المستمرة إلى الله، مهما بلغ من حول وقوة في الدنيا.
وهذا الشعور الذي يبقى الإنسان ـ في كل الحالات تحت إرادة الله، هو: (الإيمان).
فإذا تمكن الإيمان من نفس الإنسان، حتى وجد نفسه ـ بالفعل ـ محتاجاً إلى الله في كل الحالات، فإنه يمكن أن يلتزم بمسلكية معينة، لأنه تحلى بالاستقامة الذاتية، فالإنسان لا يمكن أن يحظى بالاستقامة الذاتية طالما فيه نزوات الأرض، وحتى الأنبياء. لأن أقصى ما في الأنبياء، أنهم عملوا حتى استحقوا أن يعصمهم الله. ولو أنهم نالوا الاستقامة الذاتية، لما احتاجوا إلى أن يعصمهم الله، ولما كان لـ(العصمة) معنّى.
فالتزام المؤمن بمسلكية معينة، ناتج من أنه بقي محتاجاً إلى الله، الذي فرض عليه تلك المسلكية. فلم يستغن: ولو استغنى، لطغى، لأن ركيزة (الطغيان) أصيلة فيها.
من هنا نعرف:
1ـ أن الإيمان في نفس الإنسان، لا يظهر إلا من خلال نوعين من تصرفاته:
أ ـ تصرفاته المستورة عن الآخرين.
ب ـ تصرفاته أمام من استحكمت عليهم سيطرته، حتى اطمأن إلى أن انقيادهم له غير مشروط، وحتى أطمئن إلى أن أبناءه لا ترشح منهم.
2ـ إن أي مبدأ لا يمكن أن يلزم بمسلكية معينة:
أ ـ لأنه يمكن للإنسان أن يشعر بحاجته المستمرة إلى مبدئه، حتى خلال تصرفاته في غياب الآخرين، وحتى خلال تصرفاته في حضور من يطمئن إليهم.
ب ـ سرعان ما يستغني الإنسان عن الالتزام ببعض توجيهات مبدئه. فيتخلى عنه بذلك المقدار.
وبمدى تقدمه في السيطرة، يتقدم في الاستغناء عن مبدأه، ويستمر في التخلي عما استغنى عنه، حتى يصل إلى الوقت الذي يعتبر نفسه مبدءاً، ويسخر مبدأه لرغباته. وكم شهد التاريخ من استغنى عن مبدئه، فسخره، وحرّفه، حتى كأنه صيغ ثوباً له فقط، لا له ولسواه.