لماذا ابتعدنا عن منهج القرآن الكريم؟
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2018-05-26 05:50
مقدمة
يؤكد العلماء وجود علاقة سببية بين التقهقر الحضاري للمسلمين وبين استبدالهم القرآن الكريم بمناهج فكرية وفلسفية اخرى لتفسير الظواهر الاجتماعية وصياغة النظم الكفيلة بتحقيق الاهداف الانسانية المنشودة من؛ حرية، وعدالة، وسلام، وتقدم على الاصعدة كافة.
ولو راجعنا سيرة العلماء والأدباء والمصلحين خلال فترات التألق الحضاري، وجدنا معظمهم – إن لم نقل جميعهم- عرّج على القرآن الكريم، حفظاً وتلاوة وتفسيراً وتعمقاً في علومه ودلالاته، لان المدارس والمعاهد آنذاك كانت تعتمده كأهم منهج دراسي الى جانب اللغة العربية والفقه وعلم الكلام وغيرها، وبكلمة؛ كان القرآن الكريم يمثل منهجاً اساس في طريق طلب العلم والأدب والمعرفة، وهذا انعكس بشكل واضح على افراد المجتمع الاسلامي الكبير من أقصى الشرق الى أقصى الغرب، حيث الآيات القرآنية تصدح في بلاد الهند، كما كانت تصدح في المغرب العربي و افريقيا، ولذا كانت تجد المصاديق العملية لقيم السماء في حياتهم، مثل الامة الواحدة بلا حدود ولا فوارق عنصرية، والأخوة الاسلامية العابرة للغات والقوميات، وحرية السفر والعمل وغيرها، وكان الاسلام ينتشر ويسود في الشعوب والبقاع عن قناعة وإيمان كاملين، وإن كانت ثمة مراحل توتر واضطراب في التاريخ الاسلامي، فمنشأها من انحراف الحكام عن المنهج القرآني وانتهاكهم حقوق الناس وعدم الحكم بما أنزل الله في كتابه المجيد.
وللتذكير بتلكم الامجاد يدعو سماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- للعودة الحقيقية الى القرآن الكريم من خلال عدّه منهجاً اساس في الحياة يساعد الانسان على تحقيق ما يصبو اليه.
وفي هذا المقطع الصوتي يشير الى سماحته الى ضرورة ان يكون القرآن كتاب حياة بما تعنيه الكلمة، لا كتاب عبادة و احكام وحسب، وفي الحديث الشريف: "تستشفون به دائكم..."، وان يكون محور حركة الانسان والحياة ايضاً.
لنقرأ معاً ما جاء في هذا المقطع:
"...الآيات القرآنية ليست مختصة بموضعها ومفهومها، وقد جاء في الاحاديث عن المعصومين، عليهم السلام، أن "مثل القرآن مثل الشمس تشرق كل يوم".
والامثلة الواردة في القرآن إنما يُراد منها الوعد والوعيد والتهديد والإرشاد والتوجيه والوعظ، الى جانب كل هذا، فان القرآن يشير الى صنع داوود للدرع، وفي التاريخ أطلق على بعض الدروع بأنها "دروع داوودية"، بمعنى أن الدرع الذي صنعه نبي الله داوود، تحول الى رمز ومنهج للصناعة المتقنة، علماً أن الدروع لا تستخدم اليوم، إنما حلّت مكانها الآليات المدرعة وناقلات الجند المصفحة، وهذه تمثل رسالة من القرآن الى البشر بأن اصنعوا المناهج، وثمة فرق بين صنع المنهج، وبين صنع الشيء المفرد، مثال ذلك؛ الصلاة التي يصليها أحدنا، فربما يصلي لمدة سبعين سنة، وتكون الصلاة صحيحة ومقبولة ومثاب عليها ومأجور. ولكن؛ هل هذه الصلاة التي يصليها الانسان بمفرده، أفضل عند الله، أم ان يبني نفس هذا الانسان مسجداً يصلي فيه آلاف الناس؟
قطعاً؛ بناء المسجد أفضل، لأن وجود المسجد ولسنوات طوال، سيكون سبباً في أداء الآلاف من الناس للصلاة.
وهكذا بالنسبة للعلم، فالجميع يتسابق لحجز مقعد له في الجامعة ليكون طبيباً او مهندساً، او محامياً وغير ذلك، وكل واحد من هؤلاء سيؤدي دوره في المجتمع، الطبيب يداوي الناس، والمهندس يبني البيوت، وكذا المحامي وغيرهم، ولكن؛ أيهما اكثر فائدة وأفضل ان يمارس الانسان عملاً خاصاً وفردياً، أم أن يؤلف كتاباً في تخصصه ليبقى عشرات السنين ويقرأه الملايين؟
في حديث مروي عن النبي الأكرم يخاطب فيه الامام علي، عليه السلام: "اذا أقبل الناس الى كثرة العمل فعليك بصفو العمل"،بمعنى أن الملاك ليس في الحجم إنما في الفائدة. فالطبيب بامكانه ان يشافي ألف انسان، وهو في ذلك مثاب ومأجور في كل مريض يُشفى، ولكن؛ اذا توصل الى كشف علمي في الطب ضمن اختصاصه وألف كتاباً في هذا التطور، فان الملايين من القراء والمتابعين سيستفادون منه.
إن العالم المشهور ابوعلي سينا، كتب كتاباً قبل حوالي ألف سنة، بعنوان: القانون في الطب، وهذا الكتاب كان محل دراسة وبحث معظم علماء الطب في العالم منذ حوالي مئتي عام".
القرآن الكريم وفقه الحياة الطيبة
عندما نتحدث عن مشاريع الإصلاح ومحاربة الفساد والاحتكام الى القيم والفضائل، نكون بين جهتي التنفيذ على صعيد الواقع؛ الجماهير من جهة، والشريحة المثقفة والواعية من حملة العلم والثقافة والمعرفة، فعلى من تقع مسؤولية الانطلاق وتقديم التضحيات في الطريق؟ هل الجماهير أولاً؛ أم الطليعة الواعية؟ وهو جدل قديم توقف عنده الكثير من الباحثين، وعلى نفس الشاكلة؛ مثلث العلاقة بين القرآن الكريم، والكتاب السماوي للدين الخاتم، وبين الشريحة المثقفة، وبين جماهير المجتمع والامة، فعلى من تقع مسؤولية ابتعاد الأمة عن القرآن الكريم؟
صحيح إن افراد المجتمع لهم تأثير في إنجاح أي عملية تغييرية او إصلاحية، ومنها ما يتعلق بالعودة الى القرآن الكريم، بيد أن المبادرات الفردية في اتجاه الحثّ على تلاوة القرآن وحفظه، لاسيما للصغار في السن، وإحياء المحافل القرآنية، بيد أن هذا وغيره ليس بوسعه ان يسهم في تأسيس منهج للحياة في ضوء القرآن الكريم، بينما أهل العلم والمعرفة هم الأقدر على هذه المهمة، بناءً على تخصصاتهم وتفرغهم للبحث العلمي والدراسة والتحقيق.
وكما أشرنا آنفاً، أن معظم المراكز العلمية في تاريخنا، وتحديداً منذ أول جامعة أسسها الامام الصادق، عليه السلام، وما تلاها من مراحل زمنية في مسيرة العلم والمعرفة، كان القرآن الكريم محور العلم والتعلم، فكان هو الشعاع الذي يضيء، كما يشير سماحة الامام الشيرازي، وليس العلم نفسه، كما انطبع ذلك في اذهان البعض تاريخياً وحتى في الوقت الحاضر، وهذا الخطأ الذي وقعت فيه الحوزات العلمية التي ركزت جهودها على الفقه وأحكام العبادات والمعاملات، لصياغة منهج علمي – ديني، لنكون أمام صرح يطلق عليه "حوزة علمية"، لدراسة "العلوم الدينية"، فقد بلغ علماؤنا مراتب عالية في البحث الفقهي والعقائدي ايضاً، بالاستفادة من القرآن الكريم، فأصبح اساس المنهج هو الفقه وبحوثه العلمية، وليس القرآن الكريم.
والذي حصل أن مشاكل الامة والاسئلة المتراكمة والاستفهامات المتعددة في المجالات كافة، والتي بمعظمها نتاج التقدم العلمي والتقني، وايضاً تطور الفكر الانساني في الوقت الحاضر، كل ذلك صار في مواجهة الفقه والفقهاء، فظهر بعض القصور في الاجابة القاطعة والمقنعة على بعض الاسئلة، بل وحتى التشكيكات في العقيدة، وهذا ما أعيا معظم العلماء والفقهاء – للأسف- عن صياغة منهج اسلامي متكامل يستوعب جميع شؤون حياة الفرد والمجتمع، بحيث يغنيه عن الافكار والفلسفات والنظريات المتناثرة هنا وهناك.
وكانت الخسارة كبيرة وفادحة في عدم تمكين القرآن الكريم من الفكر والثقافة والآداب، و اضحينا مجتمعات ذات توجهات وأذواق وسلوكيات مختلفة واحياناً متناقضة، وهم على دين واحد، بل ومذهب واحد!
إن المنهج القرآني الذي يدعو اليه سماحة الامام الشيرازي لقيادة الحياة، ينبغي ان ينطلق من الحوزات العلمية وعلى يد الفقهاء والعلماء والبدء بالمشروع الحضاري العظيم بعرض مشاكلنا وقضايانا برمتها على القرآن الكريم، وحسناً فعل المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي بتخصيصه جزء من سلسلة الوجيز في الفقه، أسماه "فقه الحياة الطيبة"، ليستلهم من القرآن الكريم ما تحتاجه الأمة في حياتها من سبل العيش الكريم والأمن والسلام والتربية وغيرها.
ونختم بمقطع من نهج البلاغة، يقدم لنا أمير المؤمنين، عليه السلام، خير وصف للمنهج القرآني الذي تحتاجه الأمة حاجة حياتية شديدة وهو بين ظهرانيها: "...واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب. وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان في عمي. واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه.. إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله".
واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب.. وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان في عمي. واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى.. فاستشفوه من أدوائكم