صيانة الحقوق في زمن العقوق
د. جمانة جاسم الاسدي
2025-10-19 03:04
يعيش الإنسان المعاصر في زمن تتداخل فيه التحديات الأخلاقية والقانونية بشكل غير مسبوق، فبينما تطورت المنظومات الحقوقية وارتقت إلى مستوى عالمي بفضل المواثيق الدولية والدساتير الوطنية، نجد في الواقع العملي مظاهر عقوق للحقوق، سواء من الأفراد تجاه مجتمعاتهم أو من السلطات تجاه مواطنيها، ومن هنا تبرز الحاجة إلى خطاب جديد يؤكد أن الحقوق لا تُصان بالنصوص وحدها، وإنما بالوعي والالتزام والممارسة.
العقوق لغةً هو التنكّر والجحود، وفي السياق الحقوقي يعني الاعتداء على استحقاقات الإنسان أو إهمالها، سواء عبر انتهاك مباشر أو تهميش غير مباشر، فقد يمارس العقوق من السلطة عندما تُضيّق على الحريات أو تهمّش الفئات الضعيفة، وقد يمارسه المجتمع عندما يتخلى عن قيم التكافل، أو الفرد حين يتقاعس عن واجباته.
صيانة الحقوق ليست منحة ولا تفضّلًا، بل هي واجب حضاري يضمن بقاء المجتمعات. ويتجلى ذلك في حماية الكرامة الإنسانية باعتبارها الأساس الذي تُبنى عليه كل الحقوق، تفعيل سيادة القانون حتى لا تكون النصوص مجرد شعارات بلا أثر، وإشاعة العدالة الاجتماعية لمواجهة التفاوتات الاقتصادية والتمييز الطبقي، كذلك ترسيخ ثقافة الواجب فالمجتمع الذي يطالب بحقوقه دون أداء التزاماته يعيش خللاً قيمياً.
يمكن رصد العقوق الحقوقي في مستويات متعددة منها على مستوى الدولة في التسلط، تقييد حرية التعبير، أو تعطيل استقلال القضاء، وعلى مستوى المجتمع في تفشي العنف الأسري، التمييز ضد المرأة، وإقصاء الشباب، وعلى مستوى الفرد يتجسد في الانسحاب من الشأن العام، والتخلي عن المسؤوليات الاجتماعية، وعليه هذا يوضح أن أزمة الحقوق ليست قانونية فحسب، بل هي أزمة قيمية تقتضي إعادة بناء الضمير الجمعي.
إن مواجهة زمن العقوق تستلزم مشروعا متكاملا يقوم على إصلاح تشريعي يواكب التحولات ويغلق منافذ الانتهاك، وعلى تربية قيمية تعزز ثقافة الحقوق والواجبات في الأسرة والمدرسة والإعلام، وعلى تمكين شبابي يضمن مشاركة الجيل الجديد في الدفاع عن منظومة القيم، وعلى رقابة مجتمعية تعزز الشفافية وتحدّ من استبداد السلطة.
ختامًا- صيانة الحقوق في زمن العقوق ليست شعاراً إنشائياً، بل هي معركة وعي وقيم وتشريع، فإذا كانت النصوص الدستورية قد أرست الأسس، فإن مسؤولية الإنسان المعاصر تكمن في أن يحميها من الانتهاك والتهميش، فالمجتمع الذي يُهمل حقوقه أو يتواطأ على إهدارها، يُشرّع لعقوق جديد قد يطيح بكل منجزاته، لذلك، فإن صيانة الحقوق هي في جوهرها صيانة للإنسان ذاته، وصيانة لمستقبل الدولة العادلة.