أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وأثرها في صيانة وتعزيز الحقوق والحريات

د. علاء إبراهيم محمود الحسيني

2025-09-20 05:11

تتزايد يومياً استعمالات التقنيات التكنولوجية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في كل الميادين وتتوسل الكثير من الهيئات العامة والخاصة في إنجاز مهامها بتلك التطبيقات لتحقيق الكفاءة في العمل وإحراز السرعة والدقة والكفاءة، كما تهدف بعض الأجهزة الأمنية والاستخبارية إلى تحقيق الاختراق في صفوف المجتمعات أو الدول والجيوش الأخرى من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

 لذا بات التعرف على عواقب الركون إليها واجباً والتعرف على تأثيراتها الإيجابية منها أو السلبية أمر بغاية الأهمية والخطورة، ومن جانبها بادرت اليونسكو بوصفها أحد أهم أذرع الأمم المتحدة إلى إصدار توصية بخصوص أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي، كما عمدت الدول الأوربية إلى إصدار لائحة خاصة تسترشد بها دول الاتحاد عند وضع قوانينها الوطنية المنظمة لهذه الخوارزميات.

 ومن المعروف ان أي تغيير ثقافي أو معرفي أو تقني لابد ان يلقي بظلاله على المجتمعات البشرية ويؤثر بشكل مباشر على الفرد والمجتمع والبيئة والعلاقات الدولية، ولذا ننطلق من حديثنا عن أخلاقيات استعمال تطبيقات الذكاء الاصطناعي من مفهوم الكرامة الإنسانية وأهمية تكريس تلك التقنيات لتحقيق رفاهية وسعادة الإنسان، لا ان تكون مصدر خوف أو قلق أو ضرر مادي أو نفسي على بني البشر، فمن الأسس التي قامت عليها المجتمعات القديمة منها أو الحديثة ان الإنسان والأسرة والمجتمع يمثلون الغاية.

 ولما كانت النظم الالكترونية التي تستعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي من شأنها ان تتعامل مع البيانات والمعلومات سواءً منها العلمية أو الثقافية أو التاريخية أو الشخصية فلابد وقبل كل شيء ان يكون التعامل معها منطلقاً من الأمانة العلمية والأخلاقية وضرورة عدم التمييز لأي سبب كان، كما ان خوارزميات الذكاء من شأنها ان تقوم بعمليات رياضية معقدة قائمة بالدرجة الأساس على الاستدلال والتنبؤ وقدرة على التخطيط والتحكم والسيطرة، ولما تقدم تشكل خطورة على الحياة الخاصة للفرد والأسرة فينبغي ان تكون تلك الفعاليات قائمة على أسس إنسانية بالدرجة الأساس وان توجه باتجاه الخدمة العامة وتحقيق الإنجاز العلمي والمعرفي المسخر لخدمة الخير والجوانب المشرقة في المجتمعات الوطنية منها أو الدولية.

 ويمكن تحقيق ما تقدم حين تسخّر تلك التقنيات لإدارة الخدمات العامة وخصوصاً في أوقات الطوارئ والأزمات الكبرى أياً كان مصدرها، فمن الثابت ان الروبوتات والسيارات والطائرات المسيرة وغيرها جلها اليوم تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي والمفترض أنها توجه لخدمة الإنسان لا لقتله أو ترويعه أو العدوان عليه كما نرى بأم العين في الصراعات الدولية، اليوم حيث يمكن لتلك الأدوات التعلم والتفاعل والتأثير المباشر عندما تتلقى بيانات كالصور أو الأوامر الصوتية أو الاتصال مع قواعد التحكم ويمكنها ان تلعب دوراً محورياً في تحقيق قواعد السلامة أو تنجز مهام تتصل بالإنقاذ والإغاثة. 

 يشار أن ما تقدم لا يرتبط بمرحلة من مراحل الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي بل هي مبادئ حاكمة لجميع مراحل الاستفادة منها في مختلف المجالات الطبية أو الصناعية وحتى الحربية، وكما أنها ضرورية عند جمع البيانات والمعلومات أو تحليلها أو الاستنتاج منها ومعالجتها والوصول إلى نتائج نهائية، فإن كانت تطبيقات الذكاء غير البشري وجدت طريقها معبداً إلى أفق اتخاذ القرارات ووظفت في مجالات العمل والإنتاج والتشغيل والإدارة غير المباشرة لوسائل التواصل الاجتماعي وطرقت باب التربية والتعليم والإعلام وكل المجالات التي كانت حكراً على الذكاء البشري، فبات التحدي الأخلاقي كبيراً جداً في مجال الملكية الفكرية وردم الفجوة العلمية بين المجتمعات وإيجاد سبل الحماية الحقيقية للمستهلك وللبيانات الشخصية والاهتمامات الفردية، ودعم سيادة القانون وضمان الأمن وحفظ النظام.

 وكل ما تقدم يتصل بالحقوق والحريات الأساسية ومنها حرية التعبير عن الرأي والحق في الخصوصية وعدم التمييز العنصري، والحق بالأمن والحق في تكافؤ الفرص فمن شأن هذه الخوارزميات القادرة على المحاكاة والتنبؤ واتخاذ القرار ان تشكل تحدياً وجودياً للكرامة البشرية حيث يمكن ان تقيم أحكامها أو قراراتها على أسس من التمييز أو الأفكار المنحرفة عن القيم والنواميس البشرية ويمكنها ان تتخذ الأحكام المسبقة وتوضع نتاجاتها في قوالب وصور نمطية معينة، ولا أدل على ما نواجهه يومياً في وسائل التواصل الاجتماعي التي تمت تغذيتها بحظر تداول عناوين أو تسميات معينة بغض النظر عمن يقوم بمناقشتها أو غايته من ذلك فالحكم المسبق موجود بحظر المستخدم وتقييد حقه في الوصول أو النقاش أو التعليق بل حتى التفكير النقدي أو محاولة التصويب أو التقويم.

 ومن نافلة القول ان لتحديد أخلاقيات للذكاء الاصطناعي أهمية كبيرة جداً في ميدان حقوق الإنسان في التربية والتعليم إذ أن الاستخدامات المتزايدة لهذه التقنيات لا شك أنها تنعكس سلباً أو إيجاباً على ما تقدم بحسب طريقة وتوقيت وتوجيه الاستعمال بالنظر لتأثير هذه التطبيقات على آليات ووسائل ومنهاج تتبعها المدارس والجامعات ما يتطلب التكيف مع مهارات ومعارف مختلفة تتطلب مراعاة عدم التأثير على التكوين التدريجي لذهنية وعلوم الفرد وتدرجه في المراحل الدراسية وما يتلقاه من مناهج أو برامج تؤثر في نفسه وفي وعيه وتسهم في تكامل شخصيته ليكون بالمستقبل فرداً صالحاً في مجال تكوين الأسرة أو سوق العمل.

 ولما كانت تطبيقات الذكاء اللابشري من شأنها التعامل مع العلوم الصرفة والإنسانية على نحو من الاحترافية لذا قد تؤثر هذه الاحترافية على التطبيقات العملية والميدانية والحقلية فيكون الجانب البشري مستبعداً، وبالمحصلة ستتأثر الوظائف والأعمال وتتراجع الجوانب الشعورية والتفاعلية مع المريض مثلاً ومع الأطفال وكبار السن وغيرهم، فيتحول المجتمع شيئاً فشيئاً إلى المادية البحتة والتوحش والاغتراب ويتعاظم الشعور بالوحدة ولعله يتأثر البناء المتين لرابطة الأسرة فقد نفتقد الجوانب الإبداعية وتغيب الفوارق الفردية بين الأفراد، ويمكن للحاكم الاستفادة من هذا الواقع ليعمد إلى مزيد من المركزية والاستبداد بالسلطة، لهذا ينبغي تقنين الاستعمالات بما لا يلغي الدور البشري في التربية والتعليم، بل يمكن توظيف الإمكانيات التي تتيحها التكنولوجيا لخدمة العملية التربوية وإيجاد حلول للمشاكل الأسرية أو النفسية أو الاجتماعية التي يعاني منها البعض من الأفراد.

 وتجدد تأثيرات تطبيقات الذكاء الاصطناعي على ميداني الصحافة والإعلام فمن المتوقع استعمال تلك الخوارزميات لنشر الأخبار أو لإدارة نشرها بطريقة معينة، ويمكن بواسطتها التأثير بالمحتوى المتضمن في وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث حيث قد تستثمر لبث الشائعات أو تضليل الرأي العام أو لتغيير الحقائق وتزييفها، فالأصل ان تسخر تلك الإمكانات لخدمة البشرية ودرء المضار عنها، لا ان يكون العكس هو الغاية.

 فمن القيم الأخلاقية لإدارة الإعلام والصحافة ووسائلها ومنها التواصل الاجتماعي احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وكرامة الإنسان، والالتزام بحدود أخلاقية، فمن يحترف العمل الإعلامي أو الصحفي هو يحترف مهنة إنسانية قوامها نقل المعلومات الصحيحة القائمة على الأسس الموضوعية والحياد إلى الكافة.

 فمن المعلوم ان حقوق الإنسان وحرياته العامة مترابطة ومتشابكة وغير قابلة للتجزئة أو التصرف بها بأي شكل من الأشكال، وينبغي ان لا يتعرض أي إنسان أو مجموعة بشرية لأي شكل من أشكال الأذى أو الضرر أو الإذلال الجسدي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو النفسي أو حتى الثقافي بوسائل الإعلام أو بمساهمة منها لتحقيق ذلك، فالمهنية الإعلامية تفترض ان يبتغي الإعلامي أو المؤسسة الإعلامية خدمة المجتمع ومناصرة قضاياه المصيرية، ويركز على سيادة القانون لكونه الحل الأمثل لمعالجة المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع، لاسيما الفئات الأكثر ضعفاً كالأطفال والمسنون وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى.

 ويقع واجباً ليس على الجهات الرسمية ما تقدم بل نجد ان واجب سن لائحة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقها مهم جداً بالنسبة للشركات التجارية التي تصنع أو تدير أو تطور أو تستعمل على الأقل تلك التقنيات الكبيرة والمهمة والمؤثرة في الحياة العامة والخاصة وان مراقبتها ليست من وظائف الحكومة فحسب، بل أعتقد ان منظمات المجتمع المدني والأحزاب الوطنية والمؤسسات الإعلامية وسائر الفعاليات المجتمعية يقع واجباً عليها جميعا التعامل اليومي مع نتاج هذه الشركات ورصد مخالفاتها أو أخطائها والدعوة المباشرة لتقويم سلوكها لاستنقاذ الأفراد من مخاطر جمة تنتج عن نشاطها التجاري.

 فمن مقتضى واجبها الالتزام الصارم بما أقرته الشرائع القانونية لاسيما القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان فلو أخذنا مثالاً لشركات مصنعة لأدوات ووسائل القتل العسكرية التي لا يهمها إلا الربح الوفير الذي تقتضيه من هذه الصناعة، يبرز أثر استعمالات الذكاء الاصطناعي في إنتاج وإدارة أدوات قتل المدنيين والعدوان على الأعيان المدنية كالمستشفيات والمدارس وغيرها، فلا تقيم تلك الوسائل القتالية لمبدأ الضرورة العسكرية أو التناسب بين الخطر والضرر الذي تلحقه بالأفراد أي حساب.

 لذا هي دعوة إلى ضمان العدالة والإنصاف لضحايا تقنيات الذكاء الاصطناعي بإلزام الهيئات العامة أو الشركات التجارية لتولي للإشراف البشري على تلك التقنيات الاهتمام الأكبر لتجنب الوقوع في الخطأ قدر المستطاع، وكذا يمكن تحديد المسؤولية وأعمال المساءلة والإنصاف للضحايا.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

هل نصدّق الكرامات المتداولة.. وهل نصدّق الوعود الانتخابية؟العدالة الاقتصادية والرحمة الاجتماعية في فكر الإمام الصادق (ع)التجربة العراقية الأخيرةفي الحياة الزوجية: ماذا يجب على الزوجة تجنبه؟مظلة باكستان النووية.. هل تحقق توازن الردع للسعودية في المنطقة؟