المجاعة في القانون الدولي.. غزة نموذجا

جميل عودة ابراهيم

2024-05-01 03:35

من المشكلات الإنسانية التي تناولها القانون الدولي الإنساني مشكلة (المجاعة) كونها من المشكلات المجتمعية التي تحدث كثيرا في كل زمان ومكان، ولأسباب مختلفة منها ما يكون لأسباب طبيعية: كالزلازل والبراكين والفيضانات والحرائق والعواصف الاستوائية والأعاصير والجفاف وغيرها، ومنها ما يكون لأسباب إنسانية: صحية كانت أم اقتصادية، أو نتيجة حروب والنزاعات وصراعات.

شهد العالم عدة مجاعات، منها المجاعة التي ضربت الصين في الفترة ما بين (1959 و1961) وأدت إلى وفاة ما بين (20 و30) مليون إنسان. ومنها المجاعة التي ضربت نيجيريا، في الفترة ما بين (1967 و1970) وأدت على وفاة نحو مليون شخص. والمجاعات التي أصابت عددا كبيرا من الدول أثناء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) والمجاعة التي ضربت كوريا الشمالية بسبب هطول أمطار غزيرة التي امتدت حتى عام 1998، وخلفت فيضانات كبيرة في المناطق الزراعية. ناهيك عن المجاعات الحديثة في عدد من البلدان منها اليمن نتيجة العدوان عليها. 

تذكر المنظمات الأممية في تقرير السنوي وجود ثلاثة أسباب رئيسة لحدوث مشكلة الأمن الغذائي، وهي (الصدمات الاقتصادية؛ وهي الدافع الرئيسي في 27 بلدًا. والنزاعات/انعدام الأمن؛ وهو الدافع الأهم في 19 بلدًا/إقليمًا. والظواهر الجوية/المناخية المتطرفة؛ وهي الدافع الرئيسي الكامن وراء انعدام الأمن الغذائي الحاد في 12 بلدًا..)، ووفقًا للتقرير العالمي بشأن الأزمات الغذائية لعام 2021، دفعت النزاعات وغياب الأمن قرابة (100) مليون شخص إلى هوة انعدام الأمن الغذائي الحاد، وتليها الصدماتُ الاقتصادية التي أضرت بنحو (40) مليون شخص، وظواهر الطقس المتطرفة التي أضرت بنحو (16) مليون شخص.

كتب الأمين العام للأمم المتحدة في توطئة التقرير السنوي الذي أعدّته شبكة معلومات الأمن الغذائي (FSIN) أن (أكثر من ربع مليار شخص يعانون الآن من مستويات حادة من الجوع، وبعضهم على شفا المجاعة. وهذا أمر لا يتصوره عقل). وأضاف (هذا الإصدار السابع من التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية هو إدانة صارخة لفشل البشرية في إحراز تقدم نحو تحقيق الهدف (2) من أهداف التنمية المستدامة المتمثل في القضاء على الجوع وتوفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة للجميع).

فماذا نعني بمصطلح (المجاعة) وماهي الآثار التي تتركها على المجتمعات الجائعة؟ وماهي المعايير التي وضعتها الأمم المتحدة لإعلان حالة (المجاعة) في المناطق والدول التي تُصاب بها؟ وما هو الموقف الأممي والإنساني من الأوضاع في قطاع غزة في فلسطين، جراء الحرب التي تخوضها إسرائيل بحق الفلسطينيين هناك؟ 

 تُعرف المجاعة بأنها حالة شديدة من فقدان الأمن الغذائي في بلد أو منطقة ما، بحيث يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدل الوفيات بشكل أكثر من المعتاد نتيجة نقص في المواد الغذائية، أو تعذر الحصول على ما يكفي منها بسبب جفاف أو أمراض أو حروب أو نزاعات. وللجوع مخاطر وتداعيات كثيرة اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية على الأفراد والمجتمعات والدول، فالجوع هو الخطر الأول الذي يهدد صحة الإنسان في العالم، ويتجاوز ضحاياه كل عام ضحايا أمراض السل ومرض فقدان المناعة المكتسب (الإيدز) والملاريا مجتمعة. ولا يؤثر الجوع فقط على الفرد، بل يفرض أيضا عبئا أخلاقيا وإنسانيا واقتصاديا هائلا على العالم النامي، إذ يقدر الاقتصاديون أن كل طفل يعاني من ضعف النمو الجسدي والعقلي بسبب الجوع وسوء التغذية يتعرض لخسارة (5% إلى 10%) من دخله المكتسب مدى الحياة.

وضعت الأمم المتحدة إطارا متكاملا لتصنيف الأمن الغذائي يتضمن (5) مراحل ممكنة بالنسبة للوضع الغذائي لأي بلد أو منطقة تعاني من مشاكل، حيث يجري تصنيف المناطق المعرضة لحالة المجاعة من خلال خمس مراحل هي (المرحلة الأولى: هي الحد الأدنى من الضغوط المرتبطة بالأمن الغذائي أو عدم الإبلاغ عن أي ضغوط، المرحلة الثانية: بعض الأشخاص يواجهون ضغوطا في العثور على الطعام، المرحلة الثالثة: هي أزمة الغذاء، المرحلة الرابعة: حالة الطوارئ، والمرحلة الخامسة: وضع كارثي أو مجاعة. ولكل مرحلة من هذه المراحل آثار مهمة ومحددة تتعلق بسبل التدخل وموقعها وكيفيتها، وبالتالي تؤثر على أهداف الاستجابة ذات الأولوية).

وعلى مستوى الأمم المتحدة هناك لجنة باسم (لجنة مراجعة المجاعة) وهي تتألف من خمسة خبراء معترف بهم عالميا في مجالاتهم، من التغذية والصحة إلى الأمن الغذائي. حيث تجتمع اللجنة بمجرد تصاعد الظروف الشبيهة بالمجاعة، عندما يمر أكثر من 20% من المتضررين بالمرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي للأمن الغذائي، أي الظروف الكارثية أو المجاعة. يجتمع الخبراء ويفحصون جميع البيانات والتحليلات المقدمة من شركاء التصنيف لتحديد ما إذا كانت النتائج ذات مصداقية وتبرر تصنيف المجاعة أو تصنيف معقول للمجاعة المحتملة. ثم يقدم الخبراء تقريرا يوجزون فيه الوضع ويقدمون توقعاتهم لفترة تتراوح بين 3 و6 أشهر، مثل تقرير التصنيف المرحلي للأمن الغذائي الصادر في كانون الأول/ديسمبر عن الوضع في غزة.

يحظر القانون الدولي الإنساني تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب. كما يقدم حمايةً خاصة لـ(الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين) وتشمل هذه الأعيان والمواد، على سبيل المثال لا الحصر، المواد الغذائية، والمساحات الزراعية، والمحاصيل، والماشية، ومنشآت وإمدادات مياه الشرب، وأعمال الري. ويذكر القانون الدولي لحقوق الإنسان بشكل واضح وصريح (حق الإنسان في الغذاء) وتؤكد المادة (25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على (حق كل فرد في مستوى من المعيشة يكفي للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، بما في ذلك المأكل والملبس والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية).

كما أكّد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المواد 11 و2) هذا الحق، وأكّد اعتراف الدول وتعهدها بالعمل على الحفاظ على هذا الحق. أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المواد 6)، فينص على (الحق الأصيل في الحياة لكل إنسان، إذ تجب حماية هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً)، ومنها يتفرع عدم جواز تجويع الأشخاص أو تعريضهم لما يمكن أن يحرمهم الحق في الحياة تعسفاً. وتنص المادة 1.2 (المشتركة بين العهدين) على أنه (لا يجوز بأي حال من الأحوال حرمان أي شعب من وسائل عيشه الخاصة)، ما يعني عدم جواز ما تقوم به "إسرائيل" في غزة من حصار ومنع السكان من القدرة على تحصيل وسائل العيش، إضافةً إلى عدم جواز قيامها باستخدام الفسفور الأبيض الحارق للتربة بهدف منع سكان غزة في المستقبل من إمكانية الزرع وإنتاج الغذاء.

وحذر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) العالم بالأمس من ارتفاع خطر المجاعة في قطاع غزة، والذي يتزايد كل يوم في حال استمر الوضع على ما هو عليه. وعلى وجه التحديد، ذكر تقرير اللجنة أن أسرة واحدة على الأقل من كل 4 أسر في قطاع غزة، أي أكثر من نصف مليون شخص، تواجه مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وهو أعلى مستوى من الإنذار. أشار التقرير أيضًا أن حوالي 1.2 مليون شخص يعانون من مستويات طارئة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وأقر بأن عتبات المجاعة لانعدام الأمن الغذائي الحاد قد تم تجاوزها بالفعل. وباختصار، فإن هذا يعني أن خطر الموت جوعاً أصبح حقيقياً بالفعل بالنسبة للعديد من الأسر في غزة.

في النتيجة، وبالرغم من وضوح النص حول حظر تجويع المدنيين ووجوده في القانون الدولي لحقوق الإنسان، ليس هناك آليات للمحاسبة على خرق هذا الحق في ذلك القانون، وتبقى آلياته ومبادئه معنوية، وبالتالي لا يمكن إلزام "إسرائيل" بها، ولكن يمكن بالطبع محاسبتها على انتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني، إذ إن مخالفة الدولة لالتزاماتها في حفظ هذه الحقوق خلال النزاعات المسلحة ترتب مساءلة جنائية للأشخاص المسؤولين في الدولة عن ارتكابها وتسهيلها وإعطاء الأوامر لتجويع المدنيين. ففي عام 1919، أدرجت لجنة المسؤولية الدولية بعد الحرب العالمية الأولى "التجويع المتعمد للمدنيين" كانتهاك لقوانين وأعراف الحرب التي تؤدي إلى الملاحقة الجنائية لمن يرتكبها. وبموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يعتبر "تعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب" جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية.

ونخلص مما تقدم إلى ما يأتي:

1. إن المجاعة هي أحد أعراض الحروب الممتدة. فعندما تظهر، فإنها نادرًا ما تظهر لوحدها، بل يصاحبها تدهور في المنظومة الصحية والبنية التحتية والأوضاع الاقتصادية. والمجاعة تحدث عندما لا يتوفر أدنى احترام للكرامة والحياة البشرية.

2. إذا ما أردنا منع وقوع المجاعة وإعادة اللُّحمة إلى النسيج الاجتماعي، يتعين على الجميع احترام القانون الدولي الإنساني، لحماية الناس من أسوأ أشكال الانتهاكات، ولإنهاء دائرة الهشاشة التي نراها في النزاعات الطويلة الأمد دون حدود أو قوانين. 

3. يفترض القانون الدولي الإنساني أن كل طرف في نزاع مسلح يتحمل المسؤولية الأساسية عن ضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان الخاضعين لسيطرته، بما في ذلك إمدادات الغذاء والمياه الكافية.

4. لابد من وقف العدوان الإسرائيلي على غزة وقفا نهائيا، لتدارك خطر المجاعة، فمن دون ذلك ستظل المساعدات الغذائية غير كافية لدرأ خطر الموت المحتمل لإعداد كبيرة من أهالي القطاع. ويجب فتح جميع طرق المساعدات المتاحة على الفور.

5. إنَّ تمكين توفير المساعدات الإنسانية الكافية للفلسطينيين في غزة هو أيضًا مطلب مُلزم قانونًا من جانب محكمة العدل الدولية التي أمرت إسرائيل باتخاذ تدابير مؤقتة إضافية لمنع الإبادة الجماعية في ضوء تدهور الوضع في غزة، في أعقاب حكمها الصادر في 26 يناير/كانون الثاني 2024. وأقرت المحكمة بأن المجاعة في غزة لم تعد خطرًا فحسب بل (بدأت في الظهور) وأمرت إسرائيل باتخاذ تدابير ملموسة للسماح بوصول المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها.

6. إن على المجتمع الدولي الاستمرار في الضغط على إسرائيل لوقف سياستها العدوانية وانتهاكاتها المستمرة ضد الفلسطينيين

7. في غزة نحن بحاجة إلى وقف إطلاق نار إنساني فوري ودائم حتى تتمكن الجهات الفاعلة الإنسانية من دعم تعزيز واستعادة الخدمات الأساسية في جميع أنحاء قطاع غزة، مما يسمح للأطفال الأكثر هشاشة بتلبية احتياجاتهم الغذائية والصحية الأساسية. ويشمل ذلك توفير حليب الأطفال، والمكملات الغذائية والمغذيات، والأغذية العلاجية الجاهزة للاستخدام للوقاية المبكرة من سوء التغذية الحاد والكشف عنه وعلاجه، فضلاً عن المياه والإمدادات الطبية والوقود، واستئناف الحركة التجارية.

8. على الدول العربية اتخاذ مواقف أكثر جرأة وجدية في إسناد الشعب الفلسطيني، وخاصة تلك الدول التي تربطها علاقات مع إسرائيل. لتفعل تلك الدول مثلما فعلت جنوب إفريقيا ودول أخرى في دول أمريكا اللاتينية، بقطع العلاقات مع إسرائيل، أو مثل كولومبيا التي أوقفت وارداتها من الأسلحة الإسرائيلية، ونيكاراجوا التي اتهمت ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية بمساندة إسرائيل في الإبادة الجماعية.

9. على الصعيد الشعبي، لا بد من الاستمرار في حملات المقاطعة الشعبية للمنتجات والشركات الداعمة لإسرائيل، فهذه المقاطعة تعتبر أداة فعالة في مكافحة التغول الإسرائيلي على الحقوق الفلسطينية.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2024

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي