استراتيجيات الإمام علي (ع) في الحد من ظاهرة الفقر
إستراتيجية: الثروات لكل الناس
جميل عودة ابراهيم
2022-04-23 07:36
كان الإمام علي أبن أبي طالب (ع) رئيسا لدولة إسلامية مترامية الأطراف، وعاصمتها الكوفة، وهو رغم الأزمات السياسية المتعاقبة التي واجهته إثناء فترة حكومته القصيرة، فانه كان مهتما كثيرا باقتصاد الناس من أكل وشرب ومسكن وعمل. وقد وضع العديد من الاستراتيجيات التي تضمن حياة مستقرة وآمنة لمواطني الدولة الإسلامية يومذاك. فكان من الاستراتيجيات الأساسية التي اعتمدها الإمام علي بن أبي طالب(ع) للحد من ظاهرة الفقر والفقراء هي إستراتيجية (الثروات لكل الناس)
فما معنى الثروة وأصنافها؟ وكيف يمكن أن تكون للناس؟ وكيف يمكن توزيعها على الناس بالتساوي؟ وما هو الدور المفترض للدولة؟ وإذا كانت الثروة للناس فما هو نصيب الدولة منها؟ وكيف يمكن للدولة أن تدعم سلطتها؟ ومن أين يمكن أن تنفق على جيشها ومسؤوليها وموظفيها وعمالها، وعلى ذوي الفاقة من المواطنين لا سيما الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم؟
الثروات جمع ثروة، والثروة لغة هي: كثرة المال. يقال: أثرى القوم إذا كثرت أموالهم. والمقصود هنا هي الثروات الطبيعية أي الموارد النافعة التي خلقها الله سبحانه في الكون بأنواعها الكثيرة، فهي كل ما خلق الله وسخره لنا من كائنات طبيعية في السماء والأرض (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)، فكل ما سخره الله للبشر من الموارد الموجودة في الكون مما يمكنهم الانتفاع به، وتمويله مما لا يد للبشر في وجوده، بل هو موجود في أصل الطبيعة والخليقة كل ذلك من الثروات الطبيعية.
والثروات الطبيعية أنواع كثيرة، فهي تشمل الثروة المائية من الأمطار، والسيول، والعيون والآبار والأنهار والشلالات، والثروة البحرية، وما في البحار من نباتات وأسماك وحيوانات مختلفة ومستخرجات. قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وتشمل الثروة الحيوانية، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)، وتشمل الثروة المعدنية، قال تعالى (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وتشمل الثروة النباتية من المراعي والغابات من أشجار الله ، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) وتشمل تيارات الرياح، والطاقات المنبعثة من الشمس ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائبين وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، فكل هذه الثروات الطبيعية بأنواع المختلفة هي ملك لله تعالى سخرها للإنسان، ومكنه منها، وأمره أن يستعمرها لمصلحته ومصلحة مجتمعه.
في إطار فلسفة (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) و(الأرض وضعها للأنام...) اعتمد الإمام علي (ع) للحد من الفقر في دولته على مبدأ (الثروة لكل الناس) ووفق هذا المبدأ تكون ثروة البلاد لكل الناس، دون تمييز بين أحد وأحد من مواطنيها، ودون أن تكون ملكيتها للدولة، فهي ليست صاحبة حق بل المواطن هو صحاب الحق الأصلي والمباشر. وبناء على ذلك يستطيع أي مواطن أن يحصل على أرض يسكن فيها، أو يستعملها للزراعة أو للتجارة أو للصناعة أو أي مشروع يدر عليه وعلى عياله مالا يستعين به دون أن يٌكلف الدولة شيئا، ودون أن يستجدي من الناس عطاء.
وبحسب السيد مرتضى الشيرازي (إن الدولة لا تملك الأراضي والمعادن، والبحار والأجواء،... بل هذه كلها للناس مباشرة، فمن حاز شيئاً كان له، وعلى الدولة أن تنظم فقط هذه العملية. وهذا يعني ببساطة أن تكاليف هائلة جداً ترفع عن أكتاف الفقراء، فلكي يمتلك الفقير مسكناً لا يحتاج إلى شراء الأرض إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله (الأرض لله ولمن عمرها) بل يملكها بالحيازة، فلا يتحمل إلا نفقات البناء فقط. مما يؤدي إلى زيادة قدرة الفقراء على الاستثمار، ورأس المال الذي يحتاجه ذوو الدخل المحدود لأن يبني مزرعة، أو أن يربي الدواجن، أو أن يرعى الأغنام والأبقار وغيرها سينخفض بنسبة هائلة، إذ لا يحتاج في توفير أرض المزرعة أو أرض الرعي إلى أن يدفع أي مبلغ للدولة، وكذلك لا يحتاج في أن يبني معملاً إلى توفير قيمة شراء الأرض، أو توفير قيمة شراء مواد البناء، بل كل ذلك له مجاناً، فله أن يستقطع من الجبال أو من أشجار الغابة أو من المعادن الجص وغيره).
والتساؤلات التي تفرض نفسها هنا: ما حجم المساحة المسموح بها (لإحياء الموات) في شريعتنا الإسلامية؟ وهل يجوز لأي إنسان أن يضع يده على ما يريد من الأرض الخالية من العمران، ويقيم عليها ما يشاء من زراعات أو صناعات ثم يتمسك بها عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل إحياء الموات يشمل الاستصلاح من أجل الزراعة فقط كما كان في تراثنا الفقهي أم يتوسع المفهوم ليشمل المنشآت الصناعية والإنتاجية التي تمثل أحد مظاهر التعمير والتنمية؟
إن إحياء أرض الموات من جواهر شريعتنا المكنونة في مجال العمران والتنمية، وهذا الاصطلاح يعني تحويل أرض غير منتفَع بها إلى واحة عامرة منتجة لما يناسب مناخها وطبيعتها من محاصيل زراعية أو أشجار تثمر فاكهة أو يُنتفع بها في غير ذلك، كأن تكون مصدات وحواجز للرياح والرمال المتحركة مثلاً. وعليه، إن مفهوم أرض الموات لم يعد يقف عند حدود الأرض التي تستصلح من أجل الزراعة، فهو يشمل كذلك تشييد المباني، أو إنشاء المصانع.. وغيرها مما يعود على الناس بالنفع وييسر لهم سبل معيشتهم..
إحياء الموات يمكن أن ينقذنا من أزمات طاحنة تعصف بالناس في زماننا، فمعظم أزماتنا لا تعود إلى شح الموارد، وكثرة البشر، كما يحلو لكثير ممن يأخذون بظواهر الأمور أن يرددوا، وإنما هي نتاج عدم الاستغلال الأمثل لمواردنا والسلوكيات الخاطئة في التعامل مع الثروات المتاحة. فنحن اليوم نتكدس بالملايين فوق مساحة محدودة لا تزيد كثيراً على المساحة التي استوطنها أجدادنا حين كان عددهم في كل مجتمع قليلاً، بل إن هذه المساحة تتناقص أحياناً بسبب العدوان على الأراضي الزراعية كما هو الحال في مصر والعراق، حيث حل محل الزراعة وغرس الأشجار ناطحات سحاب ومساكن عشوائية، تنافس وتسابق على إنشائها البعض دون وعي ودون وازع ديني أو وطني.
يستنبط السيد مرتضى الشيرازي من الآيتين المباركتين (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ):
1. إن الأرض هي للناس كافة وليس للحكومات، فان قوله تعالى: (لَكُمْ) و(للأنام) يمكن أن يعدّ من الأدلة على أن إحياء الأرض سبب لأن يملكها المحيي لها سواء كان مسلما أو كافرا.
2. إن تملك الأرض وما فيها وما عليها وما فوقها لا يكون إلا على وفق ضوابط منها:
الضابط الأول: أن يكون السبق إلى حيازة المباحات في إطار قوله تعالى (لَكُمْ) فحيث انه تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) وحيث إن (الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) فلا يجوز لشركة أو ملياردير أو حكومة أن تحوز الأراضي والمعادن والثروات كلها إذ لا تكون الأرض وما فيها (لَكُمْ) حينئذٍ.
الضابط الثاني: أن يحيي الأرض ويعمّرها ولا يهملها، سواء أكان إحياؤه بزراعة أم ببناء دار أو معمل أو مصنع أو إسطبل أو حظيرة أو غير ذلك، فان المستفاد من عدد من الروايات الصحيحة السند، والتي أفتى بعض الفقهاء على طبقها، أن إهمال الأرض يسقطها عن كونها (ملكاً للمحيي السابق) أو عن كونها حقاً للحائز.
وليس للمحجّر تعطيل الموات المحجّر عليه والإهمال في التعمير، بل اللازم أن يشتغل بالعمارة عقيب التحجير، فإن أهمل وطالت المدّة وأراد شخص آخر إحياءه فالأحواط أن يرفع الأمر إلى الحاكم مع وجوده وبسط يده، فيلزم المحجّر بأحد أمرين: إمّا العمارة، أو رفع يده عنه ليعمّره غيره، إلّا أن يبدي عذراً موجّهاً مثل انتظار وقت صالح له أو إصلاح آلاته أو حضور العَمَلة فيُمهل بمقدار ما يزول معه العذر، وليس من العذر عدم التمكّن من تهيئة الأسباب لفقره منتظراً للغنى والتمكن فإذا مضت المدّة ولم يشتغل بالعمارة بطل حقّه وجاز لغيره القيام بالعمارة؛ وإذا لم يكن حاكم يقوم بهذه الشؤون فالظاهر أنّه يسقط حقّه أيضاً لو أهمل في التعمير وطال الإهمال مدّة طويلة يعدّ مثله في العرف تعطيلًا فجاز لغيره إحياؤه، وليس له منعه، والأحوط مراعاة حقّه ما لم تمض مدّة تعطيله وإهماله ثلاث سنين).
ومع العمل بهذين الضابطين فان العدالة ستكون حاكمة أولاً وسيخيّم الرخاء على المجتمع ثانياً: أما العدالة فلأننا اشترطنا أن لا يأخذ كل أحد من المعادن والثروات والأراضي إلا بالقدر الذي لا يضر بالآخرين ويكون في إطار (لَكُمْ) وأما الرخاء فلأن الكل حينئذٍ سينطلق وينشط لإعمار الأراضي ثم أن من تقاعس وأهمل يسقط حقه فلا تبقى الأرض بائرة حينئذٍ، بل سيكون للغير الحق في إعمارها من جديد.