الجيش التركي ودوره في السياسة على ضوء المحاولة الانقلابية الجديدة
حيدر الجراح
2016-07-16 10:51
متابعة: في شهر اذار الماضي من العام الجاري، كان ملفتا للنظر نفي الجيش التركي نيته تنفيذ انقلاب لإخراج رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، المتهم بـ «الاستبداد بالسلطة».
وقتها قالت هيئة أركان الجيش التركي في تصريح غير عادي نشر على موقعها الإلكتروني: «الانضباط والطاعة غير المشروطة، وخط قيادي واحد هي أساس القوات المسلحة التركية». وأضاف الجيش أنه «لا يمكن الحديث عن خطوة غير شرعية تأتي من خارج هيكلية القيادة أو تعرضها للخطر».
واجتذب مقال للباحث الأميركي المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية مايكل روبن نشر في «نيوزويك» في نفس الشهر بعنوان: «هل سيكون هناك انقلاب ضد أردوغان في تركيا؟»، اهتماماً كبيراً خارج البلاد.
والجيش التركي، وهو ثاني أكبر جيش لناحية العدد بعد الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، نفذ ثلاثة انقلابات في الأعوام 1960 و1971 و1980، وأخرج من السلطة حكومة موالية للإسلاميين يقودها نجم الدين أربكان، المرشد السياسي لأردوغان.
ويعتبر الجيش تاريخياً قوة كبرى في السياسة التركية قادرة على إطاحة الحكومات التي أضرت بالمبادئ العلمانية للجمهورية الحديثة التي أنشأها مصطفى كمال أتاتورك.
منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في نوفمبر 2002، بدأت المؤسسة العسكرية تفقد نفوذها بشكل ملحوظ، من خلال إجراء تغييرات قانونية ومؤسسية، بدأت بها الحكومة..
مثل: الإصلاحات التي طالب بها الاتحاد الأوروبي للحد من تأثير الجيش في السياسة. ومن أجل تلبية المتطلبات السياسية لمعايير كوبنهاغن، عمل حزب العدالة والتنمية على إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات المدنية العسكرية.
محاكمات أرغنكون والمطرقة التي تعرض لها ضباط من الجيش التركي وافقدتهم مصداقيتهم.
ففي العام 2004، كشف عن مخططات لانقلابات تحت مسميات مشفرة؛ مثل الفتاة الشقراء وضوء القمر التي وضعها قادة القوات الجوية والبرية وقادة قوات الدرك (والذين ترددت انباء عن مشاركتهم في محاولة الانقلاب الأخيرة). بالإضافة إلى ذلك، في محاولة لتقويض وإسقاط الحكومة، كانت هناك عدة عمليات أطلق عليها بريق البحر، والقفازات، والقفص، خطط لها بعض أفراد الجيش الذين رأوا أن حكومة حزب العدالة والتنمية تعد تهديدًا على مبدأ علمانية الجمهورية.
التعديلات الدستورية في العام 2010 والتي حدت من اختصاص المحاكم العسكرية، وألغت حق الجيش في القيام بعمليات أمنية داخلية من دون الحصول على موافقة من السلطات المدنية والإشراف المدني على النفقات العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، عدلت الحكومة مؤخرًا المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية التي تمنح القوات المسلحة الحق في التدخل في مواجهة التهديدات الداخلية (الإرهاب).
ورغم ابتعاد الجيش عن ممارسة أي دور سياسي بارز في عهد أتاتورك وخليفته في قيادة حزب الشعب عصمت إينونو، إلا أنه عاد للظهور بقوة في المشهد السياسي مع وصول الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس إلى السلطة، حيث شهد العام 1960 بداية التدخل للمؤسسة العسكرية في السياسة بشكل مباشر او غير مباشر، وذلك عندما لجأت حكومة الحزب الديمقراطي إلى الأسلوب الاستبدادي في الحكم.
ثم تدخلت مرة أخرى في 1971 حين أطاحت بحكومة سليمان ديمريل، رئيس حزب العدالة الذي وصل إلى السلطة عام 1965 وأعيد انتخابه عام 1969، و1980 عندما كانت البلاد في حالة من الفوضى وصراع بين الجماعات اليمينية واليسارية المتطرفة، حدث انقلاب كنعان ايفرين وهو الذي يعد اكثر الانقلابات دموية في تاريخ تركيا، حيث جاءت فاتورة انقلاب 1980 باهظة جدًا ودموية وكانت محصلتها: 650 ألف معتقل، وأحكام بالإعدام على 517 شخص، وإعدام 50، وفصل 30 ألف من أعمالهم، وتجريد 14 ألف شخص من الجنسية التركية وترحيل 30 ألف آخرين ووفاة المئات في ظروف غامضة وتحت التعذيب وحبس عشرات الصحفيين ومنع أكثر من 900 فيلم.
في أعقاب كل تدخل، زاد الجيش من سلطته السياسية معطيًا لنفسه صلاحيات كبيرة. هذه الامتيازات تم تنفيذها في شكل مؤسسات كبيرة: مثل مجلس الأمن القومي (MGK)، ومحاكم أمن الدولة، ومختلف الإدارات والمراكز، التي خضعت لسيطرة هيئة الأركان العامة.
في أعقاب انقلاب 28 فبراير 1997، حذر الجيش حكومة حزب الرفاه (RP) الائتلافية مع حزب الطريق القويم (DYP) من السياسات الإسلامية التي يرى الجيش أنها معادية للعلمانية ثم أجبرها على الاستقالة. أدت الاستقالة القسرية إلى تأسيس حزب العدالة والتنمية.
منذ عام 2002، عملت حكومات حزب العدالة والتنمية على تقليص سلطة الجيش في السياسة من خلال تعديلات قانونية ومؤسسية حولت تدخلات الجيش في السياسية الداخلية والخارجية الصراع على السلطة مع حزب العدالة والتنمية إلى صراع مفتوح. حزب العدالة والتنمية، بعد أن حصل على 46.7٪ من الأصوات في الانتخابات العامة في يوليو 2007، شعر بقوة كبيرة لبسط نفوذه وسلطته على الشؤون السياسية وممارسة ضغوط على الجيش. لكن كان أحد الأسباب الرئيسة للصراع بين الجانبين هو فتور حزب العدالة والتنمية تجاه إصلاحات الاتحاد الأوروبي في أعقاب بدء مفاوضات الانضمام في 3 أكتوبر 2005. فأدى خوف الأوروبيين وقلقهم بشأن عضوية تركيا إلى تصاعد شكوك الأتراك تجاه نوايا الأوروبيين. هذه التطورات أعطت مساحة للجيش للتحرك ضد حكومة حزب العدالة والتنمية التي قلصت من صلاحياته من خلال إصلاحات الاتحاد الأوروبي. وثمة سبب آخر للمواجهة بين الطرفين؛ كان الاستعاضة عن رئيس هيئة الأركان العامة المعتدل حلمي أوزكوك، إذ استبدل به يشار بويوك أنيت القومي والمؤيد للعلمانية بشدة مفرطة. فعلى عكس الجنرال أوزكوك، الذي فضل البقاء بعيدًا عن السياسة اليومية، انخرط الجنرال بويوك أنيت في السياسة من خلال إلقاء الخطب حول الأنشطة المناهضة للعلمانية والانفصالية.
أهم صراع بين حزب العدالة والتنمية والجيش حدث عندما رشحت الحكومة عضوًا بارزًا في الحزب، ثم وزير الخارجية آنذاك عبد الله غول لخوض الانتخابات الرئاسية عام 2007. وشعر الجيش بامتعاض من هذا القرار، لكنه كان مجردًا من آلياته الرسمية التي استخدمها سابقًا للتدخل سياسيًّا، ولجأ الجيش إلى آليات غير رسمية من خلال مذكرة نشرها بيوك أنيت على موقع للجيش في 27 أبريل 2007 تتحدث عن المخاوف من العمل ضد العلمانية في تركيا. وأوضح أن الجيش يعارض ترشح كلّ من رئيس الوزراء أردوغان ووزير الخارجية غول. كان رد فعل النخبة الحاكمة في حزب العدالة والتنمية قاسيًا، بالإعلان عن أن مكتب رئيس هيئة الأركان العامة خاضع وتابع دستوريًّا لرئيس الوزراء. في النهاية، جاء الانتصار المدوي في الانتخابات التي جرت في يوليو 2007، وأصبح غول رئيساً للجمهورية. وكانت مذكرة الجيش الإلكترونية في 27 أبريل نقطة تحول في العلاقات المدنية العسكرية التركية، لصالح المدنيين على حساب الجيش، ومنذ ذلك الحين تم إخضاع الجيش لأوامر المدنيين.
في العام 2013 ظهرت سياسة أخرى حاسمة استهدفت إخضاع الجيش للرقابة المدنية، كان الغرض منها تعديل قانون الخدمة العسكرية الداخلية. ومع أن المادة 35 عرّفت أن مهمّة القوات المسلحة التركية هي حماية الوطن التركي، والدستور والجمهورية، إلا أن ضباط الجيش دائمًا فسروها على أنها حماية البلاد من الأعداء في الخارج والداخل، ومن ثّمَّ منحوا الجيش واجب حماية البلاد من التهديدات الإرهابية من خلال القيام بانقلابات. المادة بعد تعديلها عرّفت مهمة الجيش، في أضيق نطاق، على أنها “الدفاع عن الأراضي التركية ضد الأخطار الخارجية أو التهديدات الإرهابية، وتمكين الجيش من الردع، والوفاء بمهامه في الخارج بموافقة البرلمان التركي ومساعدته على الحفاظ على السلام الدولي”، وهو ما قلص من نطاق التدخل في السياسة الداخلية.
في محاولة لتحليل عقلية الجيش، حدد أيدينلي نوعين من ضباط الجيش، هما: أصحابُ وجهة النظر المحافظة/الحكم المطلق التقليديون، الذين يرون أن الجيش التركي الحارس المطلق للوضع الراهن ويفضلون اتخاذ خطوات سريعة وموجهة عسكريًّا نحو التحديث. والتقدميون/التدريجيون الذين يعُدّون مهمة الجيش هي حماية تحول وتحديث الأمة. ويرون أن الانقلابات تأتي بنتائج عكسية، ويفضلون العمل مع المدنيين لتحقيق التحديث. وعلى نفس المنوال، يصنف تانل ديميريل أيضًا ضباطَ الجيش إلى مجموعتين: المجموعة الأولى تتكون من الضباط الذين يرون أن الديناميات المتغيرة الحالية تجعل من الصعوبة اتباع أساليب الانقلابات أو التلاعب بالمجتمع المدني من أجل فرض حمايتهم القسرية على الجمهورية التركية.
تفضل هذه المجموعة اعتماد نموذج التغيير الخاضع للسيطرة، مما يجعل المجال مفتوحًا أمام إعادة النظر في علاقة الدين بالدولة والقضية الكردية من وجهات نظر مختلفة. وتتكون المجموعة الثانية من هؤلاء الضباط الذين يفضلون الاستمرار في نفس نظام الوصاية العسكري الذي تأسس خلال الحرب الباردة، حتى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى انقلابات للحفاظ على هيمنتهم. وبالمثل، علي قَرا عثمان أوغلو يشير إلى اعتقاد ضباط الجيش التركي أن التبعية للمدنيين تضعف دورهم في الوصاية حتى الجنرالات أصحاب التوجه الديمقراطي، مثل أحد رؤساء الأركان السابقين الجنرال حلمي أوزكوك، لم يكونوا قادرين على التغلب على هذه المعضلة. وبعبارة أخرى، فإن ضباط الجيش لم يستوعبوا مبدأ التفوق المدني على القوات المسلحة.
في الواقع، الثقافة العسكرية التنظيمية تحدد هويتها الجماعية، التي تشكل سلوكها في النظام السياسي وتتضح في مجال التدريب العسكري والتعليم. هذا التدريب والتعليم، يخضعان للسيطرة الأيديولوجية العسكرية والبيروقراطية المطلقة، حيث يُلقن الطلاب العسكريين عقيدة الوصاية التي تقوم على المبادئ والإصلاحات الكمالية. يعتقد الطلاب العسكريون أنهم يشكلون طبقة مميزة في المجتمع التركي، وأن لهم كل الحق في التدخل سياسيًّا كلما رأوا أي انحراف عن المبادئ والإصلاحات. لذا فإن تغيير الفكر والثقافة التنظيمية أمر ضروري؛ لتقليل احتمال التدخل العسكري في المستقبل، بسبب الميل للوصاية المتجذرة بقوة في الجيش.