سفاري قناصة أثرياء.. اصطادوا مدنيي ساراييفو وأطفالها

شبكة النبأ

2025-11-20 03:54

أدى الإعلان عن تحقيق في إيطاليا بشأن “قنّاصة عطلة نهاية الأسبوع” الذين يُشتبه بأنهم كانوا يدفعون أموالا لقاء “اصطياد” مدنيين خلال حصار ساراييفو، إلى نكء جراح العاصمة البوسنية التي تعرضت لأطول حصار في التاريخ الحديث.

وأفادت وسائل إعلام إيطالية بأن النيابة العامة في ميلانو فتحت تحقيقا في رحلات يُشتبه بأن أثرياء إيطاليين كانوا يقصدون فيها البوسنة للترفيه عن أنفسهم بإطلاق النار من التلال المحيطة بساراييفو على المدنيين المحاصرين فيها بين نيسان/أبريل 1992 وشباط/فبراير 1996. ولكن لم يرشَح من التحقيقات سوى نذر يسير من التفاصيل.

ويؤكد القضاء البوسني الذي تولى التحقيق في الاتهامات نفسها عام 2022، أن تحرياته لا تزال جارية.

وفي ما يأتي أبرز المعلومات عن هذه القضية بعد ثلاثين عاما من الحرب التي خلّفت أكثر من 100 ألف قتيل.

ماذا حصل خلال الحصار؟

في مطلع نيسان/أبريل 1992، عمدت قوات صرب البوسنة بعد استيلائها على أسلحة من الجيش الاتحادي اليوغوسلافي، إلى فرض حصار على ساراييفو. وطوال السنوات الأربع التي استمر خلالها هذا الحصار، قُتل أكثر من 11500 شخص في المدينة، من بينهم مئات الأطفال، وفقا للأرقام البوسنية الرسمية.

ويخلّد نصب تذكاري في وسط المدينة أسماء الأطفال القتلى، في تذكير يومي بالمأساة التي عاشتها ساراييفو.

وقُتِل كثر من هؤلاء الضحايا برصاص قناصة كانوا يتمركزون على التلال المحيطة بالمدينة. وأطلق صحافيون أجانب على الشارع الرئيسي في ساراييفو خلال الحرب اسم “طريق القناصة” Sniper alley. وكان القنص إحدى الوسائل المتبعة لإرهاب السكان المدنيين، على ما لاحظت أحكام عدة للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.

لكنّ أيّ قنّاص لم يُحاسب بصفة شخصية، بل استهدفت الإدانات المسؤولين والقيادة.

سَفاري القناصة

كانت صحيفة “أوسلوبودينيي” أول وسيلة إعلامية نشر مقالات عن سياحة الحرب التي كانت تضيف المزيد من الأهوال إلى مآسي الحصار.

وتحت العنوان العريض “سَفاري القناصة في ساراييفو” (رحلات صيد القناصة)، أوردت “أوسلوبوديينيي” في الأول من نيسان/أبريل 1995 “روايات مُرعبة عن سياحة الحرب” وأشارت مثلا إلى أن “ضابطا صربيا عرض على صحافي إيطالي إطلاق النار على امرأة كبيرة السن”.

وجاء في عنوان فرعي آخر “إنهم يُفضلون إطلاق النار على الأطفال”.

واستشهد المقال بوسائل إعلام إيطالية تُغطي “حرب نهاية الأسبوع” في ساراييفو وبالاتهامات المرفوعة إلى “المحكمة الشعبية” في ترينتي.

وبعد 30 عاما، وفي مقال رأي نُشر في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر على الموقع الإلكتروني لـ”راديو ساراييفو”، روى ضابط المخابرات السابق في الجيش البوسني إدين سوباسيتش، كيف عثر عام 1993 على محاضر استجوابات أدلى فيها صربي وقع أسيرا، بأن صيادين إيطاليين في طريقهم إلى ساراييفو برفقة متطوعين صرب.

ونقل سوباسيتش في روايته عن السجين قوله إنهم “رجال أثرياء سيدفعون للقوات الصربية في ساراييفو للسماح لهم بإطلاق النار على مسلمين”.

لم يُفتح حينها أي تحقيق قضائي. وأفادت التقارير بأن الاستخبارات البوسنية أبلغت عملاء لنظيرتها الإيطالية في سراييفو بالأمر. إلاّ أن القضية لم تُعاوِد الظهور إلاّ بعد عقود.

فتح تحقيقات

كانت بنيامينا كاريتش تبلغ عاما واحدا عندما اندلعت الحرب.

وفي 2022، عندما أصبحت رئيسة بلدية ساراييفو، حضرت عرضا لفيلم تسجيلي أثّر فيها بشدة ضمن مهرجان للأعمال الوثائقية نظمته قناة “الجزيرة البلقان”. وتناول الوثائقي الذي حمل عنوان “سفاري ساراييفو” (Sarajevo safari) وأخرجه السلوفيني ميران زوبانيتش، هذه الاتهامات المتعلقة بسياحة الحرب. 

وما هي إلا أيام بعد مشاهدته، حتى رفعت رئيسة البلدية دعوى، ووضعت النيابة العامة البوسنية يدها على القضية، لكنّ أية تفاصيل في شأنها لم تُعرف مذّاك.

وفي آب/أغسطس المنصرم، تواصلت مع الصحافي الإيطالي إزيو غافاتزيني الذي كان رفعَ دعوى في ميلانو، وأرسلت هي الأخرى دعوى إلى القضاء الإيطالي بواسطة السفارة الإيطالية في ساراييفو.

وأشارت كاريتش في منشور أوردته أخيرا على “فيسبوك” إلى أن “فريقا كاملا من الأشخاص المتفانين يعمل لضمان عدم بقاء الدعوى حبرا على ورق”. واضاف “لن نستسلم!”.

وأوضح القاضي السابق غيدو سالفيني الذي ساعد غافاتزيني على تكوين ملفّ دعواه، في حديث أدلى به الاثنين خلال برنامج تلفزيوني إيطالي، أن الصحافي أجرى “عملا كبيرا” اعتمد فيه “على مصادر محلية وشهود من كلا الجانبين”.

ولم تعلق النيابة العامة في ميلانو على مضمون الدعوى. ولم تستجب لطلبات وكالة فرانس برس للحصول على معلومات.

سراييفو سفاري

وقد تم تقديم ادعاءات مماثلة حول “صيادي البشر” من الخارج عدة مرات على مر السنين، لكن الأدلة التي جمعها غافازيني، بما في ذلك شهادة ضابط المخابرات العسكرية البوسني، يتم فحصها الآن من قبل المدعي العام الإيطالي لمكافحة الإرهاب أليساندرو جابيس.

ومن الواضح أن الضابط البوسني كشف أن زملائه البوسنيين علموا بما يسمى “سفاري” في أواخر عام 1993 ثم نقلوا المعلومات إلى المخابرات العسكرية الإيطالية سيسمي في أوائل عام 1994.

وقال إن رد سيسمي جاء بعد أشهر. وعلموا أن سياح “السفاري” سيسافرون جوا من مدينة تريستا الحدودية بشمال إيطاليا ثم يسافرون إلى الجبال فوق سراييفو.

ونقلت وكالة الأنباء الإيطالية (أنسا) عن الضابط قوله: “لقد أغلقناه ولن تكون هناك رحلات سفاري أخرى”. وفي غضون شهرين إلى ثلاثة أشهر توقفت الرحلة.

إزيو غافازيني، الذي يكتب عادة عن الإرهاب والمافيا، قرأ لأول مرة عن جولة القناصة في سراييفو قبل ثلاثة عقود عندما نشرت صحيفة كورييري ديلا سيرا الإيطالية القصة، ولكن من دون أدلة دامغة.

وعاد إلى الموضوع بعد مشاهدة فيلم “سراييفو سفاري”، وهو فيلم وثائقي لعام 2022 للمخرج السلوفيني ميران زوبانيك، والذي زعم أن المتورطين في عمليات القتل يأتون من عدة دول، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك إيطاليا.

بدأ غافازيني في البحث أكثر، وفي فبراير/شباط، سلم النتائج التي توصل إليها إلى المدعين العامين، والتي يقال إنها تصل إلى ملف مكون من 17 صفحة يتضمن تقريرًا أعده عمدة سراييفو السابق بنيامين تشوريك.

وسيطلق القناصة النار على المدنيين من المناطق التي يسيطر عليها صرب البوسنة والمطلة على سراييفو.

وفي حديثه لصحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية، زعم غافازيني أن “العديد” شاركوا في التدريبات، “ما لا يقل عن مائة” بعد كل شيء، حيث دفع الإيطاليون “الكثير” يصل إلى 100 ألف يورو (88 ألف جنيه إسترليني) وفقًا لشروط اليوم.

في عام 1992، تم تصوير الكاتب والسياسي القومي الروسي الراحل إدوارد ليمنوف وهو يطلق عدة طلقات على سراييفو من مدفع رشاش ثقيل.

وقام زعيم صرب البوسنة رادوفان كارادزيتش بجولة في موقع التلال، الذي أدانته محكمة دولية في لاهاي فيما بعد بارتكاب جرائم إبادة جماعية.

لكن ليمونوف لم يدفع تكاليف السياحة الحربية. وكان هناك كمعجب بكارادزيتش، وقال له: “نحن الروس ينبغي لنا أن نأخذ منك مثالاً”.

وبحسب ما ورد حدد المدعون العامون والشرطة الإيطالية قائمة من الشهود أثناء محاولتهم التأكد من هوية المتورطين.

ووصلت أصداء الدعوى إلى الولايات المتحدة، حيث أعلنت عضوة الكونغرس عن الحزب الجمهوري في فلوريدا، آنا باولينا لونا، أنها فتحت تحقيقا لمعرفة ما إذا كان أي أميركي قد شارك فيما يُسمى بـ"سياح القناصة" خلال حصار سراييفو.

وقالت على منصة "إكس" إنه "فيما يتعلق بسياحة القتل المزعومة، فقد فتحتُ تحقيقا في هذه المسألة، وأنا على اتصال بالقنصلية البوسنية والسفارة الإيطالية".

وأضافت "إن دفع المال لإطلاق النار على المدنيين -والأسوأ من ذلك إطلاق النار على الأطفال- هو شرٌّ لا يمكن لبلادنا أن تتسامح معه ولن تفعل ذلك. ستتبادل الحكومتان الإيطالية والبوسنية أي معلومات تتعلق بأي أميركي قد يكون متورطا، إذا وُجد، فهو يستحق الاتهام والمحاكمة".

العدالة البطيئة

وتقول رئيسة بلدية سراييفو السابقة "أؤمن بأن الحقيقة دائما ما تجد طريقها، مهما طال الزمن أو طال دفنها، لو لم أكن أؤمن بالعدالة، لما خضتُ هذا النضال. إن التحقيق في ميلانو خطوة حاسمة، وأنا على ثقة بأن القضاء الإيطالي سيتابعه بجدية ونزاهة. قد تكون العدالة بطيئة، لكنها ممكنة التحقيق، وضحايا سراييفو يستحقون ذلك".

وتضيف "أتوقع أن يتم تحديد هوية المشاركين فيما يُسمى بسفاري سراييفو ومحاكمتهم، بغض النظر عن جنسياتهم أو ثرواتهم أو مكانتهم الاجتماعية، جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم، يستحق ضحايا سراييفو معرفة من أطلق النار، ويستحق العالم أن يعلم أن مثل هذه الجرائم لن تمر أبدا دون عقاب، كما آمل أن يرسي هذا التحقيق مبدأ أن لا يعامل أحد في أي مكان كلعبة".

وتوضح كاريتش أن القضية مرفوعة أمام مكتب المدعي العام في البوسنة والهرسك منذ عام 2022، وقد أكدت النيابة العامة البوسنية رسميا أنها تجري تحقيقا، وتعتقد أن الاهتمام العام المتجدد والضغط الدولي -وخاصة من إيطاليا- قد ساعدا في دفع الأمور إلى الأمام، وتؤكد أنه "ثمة أدلة كافية على أن حقيقة هذه القصة لا يمكن الشك فيها، هذه ليست مجرد مسألة قانونية، بل واجب أخلاقي".

أما الصحفية إيرينا آنتيتش، والتي كتبت وبحثت لسنوات عن الحصار، فتقول إن "الدولة في البوسنة تملك في أرشيفها ووثائقها تفاصيل عمليات القنص، لكنها ظلت في الأدراج لأكثر من عقد ونصف، ولم يُتخذ أي إجراء بشأنها".

وتضيف أن "بعض الأبحاث تشير إلى أن ما بين 5 و15 شخصا كانوا ضحايا القناصة يوميا، سواء قُتلوا أو جُرحوا، وأن 10% من إجمالي عدد الأطفال القتلى قضوا برصاص القناصة".

لا يمكن تصور كل هذا الشر

يسلّط فيلم "سفاري سراييفو" الوثائقي الضوء على ما قام به بعض الأثرياء زمن الحرب في تسعينيات القرن الماضي من دفع الأموال للجنود الصرب لـ"اصطياد البشر" في البوسنة والهرسك.

وعرض الفيلم أول مرة، في العاصمة سراييفو، ضمن فعاليات أيام الجزيرة الوثائقية، وأنتجته شركة "آرسميديا" (Arsmedia) مع الجزيرة بلقان وآخرين كمنتجين مشاركين، وبتمويل جزئي من مركز الفيلم السلوفيني.

الفيلم الذي أخرجه السلوفيني ميران زوبانيتش حظي بإعجاب المشاركين في المهرجان الدولي الذي استمر حتى 13 سبتمبر/أيلول الجاري، وقال المخرج إنه في البداية لم يصدق وجود "كل هذا الشر"، مشيرا إلى أن الضحايا كانوا من المدنيين الذين وجدوا أنفسهم في مرمى نيران قناصة هؤلاء الأجانب القساة، حسب تعبيره.

ويروي الفيلم الوثائقي أحداثًا وقعت في أطول حصار في تاريخ الحروب الحديثة، حين قام بعض الأثرياء بزيارة مواقع الجيش الصربي وتقديم الأموال لعناصره بهدف عيش تجربة "اصطياد البشر" من البوسنيين.

يفتتح الفيلم الوثائقي الذي تبلغ مدته 75 دقيقة مع لقطات شاعرية على ما يبدو لموقع على التلال الجميلة المطلة على المدينة، لكن سرعان ما تأتي لقطات أرشيفية مفجعة من الحياة في المدينة تحت الحصار بين 1992-1995، ثم يبدأ الراوي سرد قصته عن رحلات "السفاري" وعلاقته بها كشاهد.

تلقى الراوي المجهول (لم يذكر اسمه) تعليما عسكريا في يوغوسلافيا السابقة في الثمانينيات، وكسب لقمة العيش من العمل في الاستخبارات قبل انهيار البلاد، ولكنه عندما كان عاطلًا عن العمل اتصلت به "وكالة أميركية مهمة" وقدمت له عرضا مربحا يتضمن السفر إلى أجزاء مختلفة من الدولة المنهارة "للاستماع إلى نبض شعبها ومجتمعاتها"، حسب شهادته التي عرضها الفيلم.

ومن خلال اتصالاته في بلغراد، تعرف على برنامج "سفاري" حيث "الصيادون" المنغمسون في هذا النشاط كانوا يطلقون النار على الناس في مدينة سراييفو المحاصرة من مواقع القناصة للقوات الصربية، مقابل مكافأة مالية، وتم تنظيم رحلات "السفاري" وتسهيلها من قبل جيوش كل من صربيا وجمهورية صربسكا (كيان قانوني يمثل جزءا من البوسنة والهرسك حاليا)، وجاء المشاركون من الخارج لتلبية رغباتهم المحمومة.

وتحدث رجل الاستخبارات السابق عن رؤيته للغرباء الذين أتوا إلى أحد أحياء سراييفو لاصطياد المحاصرين فيها، وأثارت الشهادة جدلا واسعا في البوسنة، إذ عدّ حقوقيون بوسنيون الفيلم دليلا جديدا على جرائم حرب لم توثق بالكامل سابقا، في حين قال ناشطون من جمهورية صربسكا إن الفيلم مبني على كذبة غير حقيقية.

ويدعم الفيلم القصة بالاستماع للضحايا ومنهم زوجان فقدا ابنتهما البالغة من العمر عامًا واحدًا برصاص قناص، وجندي أسير روى قصة الصيادين. كذلك تحدث في الفيلم إدين سوباسيتش، المحلل العسكري الذي عمل سابقا في جيش البوسنة والهرسك، عن معلومات استخبارية تلقاها الجيش من جهاز الأمن العسكري الذي أسر مقاتلًا متطوعًا، وأثناء الاستجواب أكد وجود أجانب في ساحة المعركة، حسب سوباسيتش.

في الفيلم، يصف سوباسيتش استجواب السجين الذي أخبرهم عن إيطاليين نُقلوا مع مقاتلين متطوعين من بلغراد إلى بلدة بالي بالقرب من سراييفو، حيث اعترف أنهم لا يتلقون أجرًا للذهاب إلى الحرب، بل يدفعون المال للذهاب إلى الخطوط الأمامية أثناء الحصار.

وقال مخرج الفيلم السلوفيني زوبانيتش إنه لا يعرف هوية القتلة، مشيرا إلى أن هذه مهمة هيئات التحقيق، ومؤكدا أنهم عملوا أكثر من 3 سنوات في التقصي والبحث عن شهود، وأضاف أن الهدف هو استكشاف هذه الظاهرة الموجودة على نطاق عالمي والتفكير في أخلاقيات المجتمع البشري.

يُذكر أن حصار القوات الصربية لسراييفو بدأ في الخامس من أبريل/نيسان 1992 واستمر حتى توقيع معاهدة دايتون للسلام يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1995، التي أنهت الحرب البوسنية.

وخلال الحصار، ألقيت على سراييفو قرابة 500 ألف قنبلة، ولقي 11 ألفا و541 شخصا حتفهم، وانهار نحو 80% من مباني المدينة، فضلا عن أضرار كبيرة لحقت بالبنية التحتية.

ذات صلة

التأثير الطردي للإحسان والذنوبالتهديدات الرقمية للمؤسسات الديمقراطيةهل انتهى مجلس النواب قبل أوانه الدستوري؟نكوص الحكومة عن وعودها: بين فقدان الثقة واهتزاز صورة الدولةبولونيا.. درس في التفكك والوحدة