مركز المستقبل ناقش.. التعاون السعودي الباكستاني وتحولات الردع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط
مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
2025-10-26 12:38
عقد مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية ملتقاه الفكري في مقر مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام تحت عنوان "التعاون السعودي—الباكستاني وتحولات الردع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط"، بمشاركة عدد من مدراء مراكز دراسات بحثية، وأكاديميين، وإعلاميين، قدم الورقة البحثية الاستاذ حيدر عبد الستار الاجودي- باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية، وابتدأ حديثه قائلا:
"في لحظة إقليمية مشحونة بالتوترات، جاء توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان يوم 17 سبتمبر/أيلول 2025 بالرياض لتشكل نقطة تحول في معادلات الأمن الإقليمي.
فبعد الضربة الإسرائيلية التي استهدفت العاصمة القطرية الدوحة، تسارعت التحركات الخليجية لإعادة رسم خرائط الردع والتحالفات، في ظل ما يبدو أنه تراجع الثقة بالمظلة الأمنية الأميركية التقليدية.
تبحث هذه الورقة أبعاد وأهداف وتداعيات الاتفاقية الاستراتيجية الدفاعية بين السعودية وباكستان على معادلات الردع في منطقة الشرق الأوسط. مع رسم سيناريوهات محتملة لتطورات الوضع الأمني في المنطقة، كما تُسلط الضوء على دور محور المقاومة، خصوصًا في العراق، في التفاعل مع هذا التحالف الجديد، وتأثيراته على سياسات الردع والاحتواء الإقليمي.
تعود العلاقات السعودية–الباكستانية إلى ثمانية عقود من الشراكة التاريخية تقاطعت فيها السياسة والدين والأمن والاقتصاد، وجاء الإعلان الأخير عن اتفاقية دفاعية متبادلة ليضع هذه الشراكة في مرحلة جديدة، مع إمكان إعادة رسم معادلات الردع في منطقة الشرق الأوسط، ويأتي هذا الإعلان في ظل بيئة إقليمية متقلبة تشمل تحديات من إيران، تركيا، إسرائيل، والهند، وتنافس القوى العالمية على النفوذ في المنطقة.
تظهر الأدبيات أن التحوّلات في تحالفات دول الخليج تأتي استجابة للشعور بتراجع الضمانات الأمنية التقليدية، والناتج عن تغييرات في السياسات الأمريكية، وصعود القوى الإقليمية الأخرى، تقارير ومقالات تحليلية ربطت مساعي السعودية لتقوية شراكات أمنية بضرورة سدّ عجز الردع التقليدي والاستراتيجي، كما أن الدول الإقليمية تسعى لتوسيع مظلّات ردعها لتغطية تهديدات متعددة الأبعاد، بما في ذلك النووي والصاروخي والهجوم السيبراني، واشارت مصادر إلى أن تحالف السعودية مع باكستان يمثل حالة فريدة، حيث يجمع بين القدرة العسكرية الباكستانية وخبرة السعودية في التمويل والدبلوماسية، ويعكس التحالف الجديد إدراك الطرفين لتغير موازين القوى عالميا، ولبروز أطراف جديدة مثل الصين، بما يعزز الحاجة لشراكات إستراتيجية أوسع تتجاوز المألوف.
دوافع التعاون السعودي-الباكستاني
1. الأبعاد الأمنية والاستراتيجية: السعودية تسعى لتقوية مظلة ردع تشمل الدفاع التقليدي وقدرات باكستان النووية، خصوصًا في مواجهة تهديدات إقليمية من إيران أو حلفائها.
2. الأبعاد الاقتصادية والسياسية: الدعم المالي السعودي لباكستان يسهل ترسيخ التعاون العسكري، ويحقق توازنًا استراتيجيًا لكلا الطرفين.
3. الأبعاد الرمزية والدولية: الإشارة إلى استقلالية السعودية في بناء شبكة أمنية متعددة الأطراف، مع رسالة واضحة إلى اللاعبين الإقليميين والدوليين حول قدرتها على الدفاع عن مصالحها.
استراتيجية الردع: هو استراتيجية تهدف إلى منع الخصم من القيام بعمل عدواني عبر تهديده برد قوي يفوق المكاسب المتوقعة من عدوانه، وقد يكون: عسكري (امتلاك قوة رد سريع، صواريخ، دفاعات جوية). اقتصادي (عقوبات أو قطع علاقات). سياسي/نفسي (خلق صورة قوة راسخة تمنع التفكير بالتصعيد).
الردع الإقليمي: يعني إدارة معادلات القوة داخل منطقة جغرافية معينة لمنع هيمنة دولة بعينها أو تغيير ميزان القوى الإقليمي. مثال: الردع بين إيران وإسرائيل عبر الصواريخ الباليستية وحروب الوكلاء.
الردع الممتد: هو ردع يتجاوز حدود الدولة نفسها ليشمل حلفاءها. يعني أن دولة كبرى تتعهد بحماية حلفائها حتى ولو لم يكونوا داخل حدودها. يبرز غالبًا في إطار التحالفات الدفاعية. مثال: قد تسعى السعودية إلى ردع ممتد من باكستان: أي أن القوة النووية الباكستانية تُستخدم بشكل غير مباشر لحماية السعودية والخليج من إيران أو إسرائيل.
تحوّلات الردع الإقليمي:
1. التحوّل من ردع إقليمي تقليدي إلى تركيبة من الردع التقليدي والممتد: الاتفاقية تفتح الباب أمام شكل من «الردع الممتد» الذي قد يربط أمن المملكة بقدرات طرف ثالث (مثل الصين)، وهو ما يغير ميزان الردع في المنطقة. هذا قد يُثني خصومًا عن أعمال عدوانية، لكنه يطرح أسئلة حول حدود وشروط التفعيل.
2. ردود فعل إقليمية : الهند وخاصة إيران وإسرائيل (التي تُعتبر قوة نووية غير معلنة) ستراقب التطورات وتقدّر أجنداتها الاستراتيجية تبعًا لذلك؛ شركات وأطراف إقليمية قد تعيد ضبط حساباتها الأمنية.
3. خطر التصعيد والمُخاطَرَة بالانتشار: حتى في حال نفي صريح لانتقال تكنولوجيات نووية، فإن الإحاطة بقدرات باكستان في حلف مع دولة في الشرق الأوسط قد تثير مخاوف الانتشار أو سباق تسلح إقليمي. يجب التعامل مع هذا العنصر بحذر شديد في سياسات التواصل والضمانات الدولية.
مقارنة القدرة العسكرية والميزانية الدفاعية
السعودية رصدت الميزانية الدفاعية لعام 2025: حوالي 78 مليار دولار أمريكي، ما يعادل 21% من إجمالي الإنفاق الحكومي و7,1% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتمتلك أسطول جوي متقدم يشمل مقاتلات "تورنيدو" و"F-15" و"F-16". ومنظومات دفاع جوي متطورة مثل "باتريوت" و"ثاد"، وصواريخ باليستية متوسطة المدى.
اما باكستان فقد رصدت الميزانية الدفاعية لعام 2025: حوالي 11,67 مليار دولار أمريكي، مع تخصيص 2,5 مليار دولار للإنفاق على المعدات والأنظمة الدفاعية.
وتمتلك قوة نووية تضم صواريخ "غوري" و"شاهين". وأسطول جوي يشمل مقاتلات "GF-17" و"F-16". ومنظومات صواريخ ارض-ارض مثل "فاتح-4" بمدى يصل إلى 750 كم.
دور محور المقاومة
تشكل الفصائل التابعة لمحور المقاومة، بما فيها جماعات مسلحة مدعومة من إيران، أحد عوامل عدم اليقين في موازين الردع، ومن المتوقع أن تعمل هذه الفصائل على إعادة تقييم تحركاتها، بما في ذلك القدرة على الردع غير التقليدي والهجمات الرمزية، لمواجهة أي تحركات سعودية–باكستانية، عبر تكثيف التنسيق الإقليمي بين العراق وإيران وسوريا ولبنان لتطوير ردع غير تقليدي، وزيادة الضغط على السعودية وإسرائيل في سيناريوهات التصعيد.
السيناريوهات المستقبلية
السيناريو المتوازن: تعزيز التعاون السعودي– الباكستاني ضمن حدود واضحة، مع مراقبة محور المقاومة وردود رمزية محدودة، ما يضمن استقرار الردع الإقليمي وتجنّب التصعيد.
السيناريو التصاعدي: توسيع الشراكة إلى تدريبات ومعدات دفاعية استباقية، يقابله محور المقاومة بإجراءات رمزية في العراق، مع احتمالية توتر سعودي– إيراني وسباق تسلح أو مواجهات محدودة.
السيناريو الدبلوماسي: استخدام الاتفاقية كورقة ضغط للتفاوض مع إيران والهند، وإدارة التحالف بمرونة لتفادي التصعيد، مع دور لمحور المقاومة في كبح التوسع العسكري عبر الوساطة السياسية.
مخاطر وتحديات
- عدم الإفصاح الكامل عن بنود الاتفاقية يزيد من الشكوك ويتيح تأويلات متعددة تسبب توترات دبلوماسية.
- التزامات دفاعية متبادلة قد تقود إلى سحب السعودية أو باكستان إلى صراعات ليست من مصلحتهما المباشرة.
- قد تؤثر الاتفاقية على علاقات السعودية مع حلفائها التقليديين أو تفتح قنوات احتكاك جديدة.
- مواجهة محور المقاومة في العراق وسوريا ولبنان، ربما يعقّد إدارة التوازن العسكري.
وفي ضوء هذه الورقة البحثية، تجلت الأسئلة الجوهرية التي تشكلت محورا للنقاش السياسي امام السادة الحضور بالاتي:
السؤال الاول/ هل جاء تجديد هذا التعاون بناء على اختلال ميزان القوى لصالح اسرائيل بعد تراجع ردع محور المقاومة؟.
السؤال الثاني/ هل سيكون هذا التحالف مقدمة لتشكيل ناتو اسلامي، وماهو دور الولايات المتحدة في هذا التحالف؟.
المداخلات
توازنات الردع الإقليمي وتقاطعات المحاور الدولية
د. علاء الحسيني/ مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات:
إنّ موضوع التعاون السعودي–الباكستاني لا يمكن فصله عن مجموعة من الدوافع السياسية والعسكرية التي تقف خلف تشكّل هذا التحالف الجديد، فهناك عوامل متشابكة تُسهم في تفسير هذا التقارب، منها ما يرتبط بالسياق الإقليمي، ومنها ما يتصل بالتحولات الدولية في موازين القوى.
لا يمكن إغفال العداء التاريخي بين الهند وباكستان، وهو عامل أساسي ينعكس على خيارات باكستان الاستراتيجية، كذلك لا يخفى وجود حساسيات سياسية بين السعودية وبعض الأنظمة والدول المجاورة، ما يجعل من هذا التحالف جزءا من مشهد أعقد يرتبط بمحاولة إعادة تموضع في الإقليم.
من جهة أخرى، اتجهت الهند نحو محور روسيا–الصين، خاصة بعد تنامي التعاون في إطار منظمة شنغهاي وغيرها من الملتقيات الإقليمية التي عززت هذا الارتباط، في المقابل، تحتفظ السعودية بعلاقات تاريخية راسخة مع الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الغربية، وهي علاقات تتسم بالعمق والاستمرارية منذ عقود، وبذلك يبدو هذا التحالف وكأنه نقطة التقاء بين محورين متوازيين: محور الصين وروسيا من جهة، ومحور الغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى.
أما باكستان، فرغم تقاربها الواضح مع الصين، فإنها تبقى متوجسة من أي انفتاح صيني–هندي قد يهدد موقعها الاستراتيجي. وفي المقابل، تسعى السعودية انطلاقًا من دورها الإسلامي القيادي ولا سيما في العالم السني، إلى ترسيخ مكانتها كفاعل رئيسي في منظومة العمل الإسلامي والمنظمات الدولية ذات الصلة.
من هذا المنطلق، يبدو أن التحالف السعودي–الباكستاني يتجاوز مجرد كونه مواجهةً لمحور المقاومة الذي بدأ دوره يتراجع في السنوات الأخيرة، فالمسألة ترتبط في جوهرها بتحولات منظومة الردع في الشرق الأوسط، وبمحاولات إعادة رسم خريطة التحالفات بما يتناسب مع التوازنات الجديدة.
ورغم أهمية هذا التقارب، إلا أن التحديات التي تواجه الطرفين كبيرة، فالتجربة التاريخية تظهر أن العديد من التحالفات والمعاهدات الدفاعية العربية والإقليمية لم تصمد أمام اختبار الأزمات، بدءا من الاتفاقية العربية لعام 1950 مرورا بسلسلة من التحالفات التي جمدت عند أول اختبار حقيقي.
ومن الصعب أن تنفصل السعودية تماما عن المظلة الأمريكية، فهي لا تزال تعتمد على الدعم الغربي لحماية مصالحها الحيوية والدفاع عنها، ومع ذلك يبدو أن الرياض تحاول اليوم تنويع خياراتها الاستراتيجية دون المساس بجوهر تحالفها مع واشنطن، وذلك عبر بناء قنوات تواصل وشراكات جديدة مثل التعاون مع باكستان.
وفي المقابل، تسعى إسلام آباد من خلال هذا التقارب إلى الحفاظ على توازنها بين الشرق والغرب، مع تجنب الانغماس الكامل في محاور قد تتقاطع مع المصالح الأمريكية، لذا يمكن النظر إلى هذا التعاون بوصفه محاولة لاحتواء باكستان وإبقائها قريبة من المحور الغربي، سواء عبر المساعدات الاقتصادية أو الدعم السياسي أو غيرها من الوسائل غير المباشرة.
المظلة النووية الجديدة ومعادلات الردع الإقليمي
- د. خالد العرداوي/ مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية:
إنّ التعاون بين السعودية وباكستان ليس وليد اللحظة، بل هو تعاون قديم يمتد لعقود طويلة من العلاقات الوثيقة التي شملت المجالات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والمالية، ففي فترة الحرب السوفيتية في أفغانستان، كانت المخابرات السعودية نشطة للغاية في الأراضي الباكستانية، حيث تولّت، بالتنسيق مع وكالة الاستخبارات الأمريكية، دعم الفصائل الأفغانية ضد الوجود السوفيتي، وكانت الأموال والأسلحة تُنقل إلى باكستان، ومنها إلى أفغانستان، بينما كان يجري شراء أسلحة سوفيتية لتسليح المقاومة حتى لا يُتهم الغرب بالتورط المباشر في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي، وقد شكّل ذلك أحد أبرز فصول التعاون بين البلدين في تلك المرحلة الحساسة من التاريخ الإقليمي.
لم يقتصر هذا التعاون على البعد الاستخباراتي فحسب، بل امتد ليشمل الجانب المالي والتقني، إذ لعبت السعودية دورا مهما في تمويل المشروع النووي الباكستاني، ما جعل إسلام آباد مدينة للمملكة بدعم أسهم في تطوير قدراتها النووية، كما يجمع بين الدولتين توافق عقائدي وثقافي كبير، فهما تنتميان إلى بيئة إسلامية واحدة تتقاطع فيها المصالح والرؤى السياسية، الأمر الذي رسخ العلاقة بينهما وجعلها أكثر عمقا واستقرارا عبر العقود.
خلال السنوات الأخيرة، اتخذ التعاون بين البلدين منحى أكثر شمولا وانتقل من مستوى التعاون الاستراتيجي التقليدي إلى مستوى اتفاقية دفاع مشترك، وهو تطور يعكس إدراكا سعوديا متزايدا لضرورة تنويع الشراكات الأمنية والسياسية في ظل التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، ويبدو أن صانع القرار السعودي، ومنذ تولي الأمير محمد بن سلمان مقاليد الحكم، قد أعاد النظر في سياسات بلاده الخارجية بعد استخلاص دروس مهمة من تجربتين مؤلمتين: الأولى تمثلت في التورط الطويل والمكلف في الحرب اليمنية، والثانية في حادثة مقتل جمال خاشقجي وما نتج عنها من أزمات دبلوماسية وضغوط دولية، هاتان التجربتان دفعتا السعودية إلى إعادة تموضع أكثر حذرا وذكاء في إدارة علاقاتها الخارجية، مع التركيز على تحقيق توازن بين الحذر والانفتاح.
وقد تجلى هذا التوجه بوضوح عندما وقعت السعودية في مارس 2023 اتفاق التهدئة مع إيران في بكين بوساطة صينية، وهو اتفاق منح المملكة مساحة من الأمان السياسي وأبعد عنها شبح المواجهة المباشرة مع طهران، هذه الخطوة عكست نضوجا في التفكير الاستراتيجي السعودي الذي بات يسعى إلى تحييد التهديدات من خلال الدبلوماسية الذكية بدلا من المواجهة المباشرة، كما اتبعت الرياض سياسة خارجية متوازنة تجاه القضايا الدولية الكبرى، بما في ذلك الحرب الأوكرانية، إذ حافظت على موقف مستقل ومتزن يعكس ثقتها المتزايدة بقدرتها على رسم مواقفها بعيدا عن الإملاءات الخارجية.
وفي سياق موازي، اشترطت السعودية في مفاوضاتها غير المباشرة حول مسألة التطبيع مع إسرائيل، أن يسبق أي اتفاق بتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة تضع المملكة تحت المظلة النووية الأمريكية على غرار عضوية حلف الناتو، غير أن واشنطن ماطلت في الاستجابة لذلك الطلب لأسباب تتعلق بحماية إسرائيل وتخوفها من احتمالات صدام مستقبلي بين الرياض وتل أبيب، أمام هذا التردد الأمريكي اتخذت السعودية موقفا واضحا برفض المضي في التطبيع من دون ضمانات أمنية حقيقية، وبدأت تبحث عن بدائل استراتيجية أخرى تؤمن أمنها القومي من خارج المظلة الغربية التقليدية.
جاء التحول المفصلي بعد استهداف قطر في أحد الأحداث الإقليمية التي كشفت محدودية الدور الأمريكي في حماية حلفائه الخليجيين، إذ لاحظت الرياض أن واشنطن لم تحرك ساكنا للدفاع عن الدوحة أو لردع الهجمات التي استهدفتها، هنا بدا أن صانع القرار السعودي قرر تفعيل ما يمكن وصفه بـ “الخطة البديلة”، والمتمثلة في تعزيز التحالف الدفاعي مع باكستان، بحيث يصبح أي اعتداء على إحدى الدولتين بمثابة اعتداء على الأخرى، وبذلك وجدت السعودية في التعاون مع إسلام آباد فرصة لبناء مظلة ردع جديدة توازي المظلة الأمريكية وتمنحها حرية أكبر في إدارة مصالحها الإقليمية.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الرياض قد استبدلت المظلة النووية الأمريكية بالمظلة النووية الباكستانية، وهي خطوة تحمل في طياتها أبعادا استراتيجية بالغة الأهمية، فالسعودية تسعى من خلالها إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وردع خصومها المحتملين مثل إيران واليمن، وفي الوقت ذاته توجيه رسالة ضغط قوية إلى واشنطن وتل أبيب بأن لديها خيارات بديلة يمكن الاعتماد عليها، كما أن هذا التحالف يمنحها موقعا تفاوضيا أكثر قوة في أي محادثات مستقبلية مع الغرب بشأن الأمن الإقليمي أو قضايا التطبيع.
من جهة أخرى، لا يبدو أن الهدف من هذا التعاون هو تشكيل "ناتو إسلامي" كما يتداول أحيانا، إذ إن وجود إيران –بطموحاتها المتعارضة مع السعودية– يجعل من فكرة التحالف الإسلامي الشامل أمرا غير واقعي، الهدف الحقيقي يتمثل في أن السعودية أرادت أن تحتمي بمظلة نووية موثوقة، وأن تستخدم هذا التحالف كأداة ضغط متعددة الاتجاهات على خصومها ومنافسيها، سواء في الإقليم أو خارجه، ومن غير المستبعد أن يدفع هذا الواقع الجديد الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في موقفها وربما المضي مستقبلا نحو اتفاق دفاعي رسمي مع الرياض للحفاظ على نفوذها التقليدي في منطقة الخليج.
كلا الطرفين خرج مستفيدا من هذا التحالف؛ فالسعودية باعتبارها أكبر منتج للنفط في العالم، تملك أوراق قوة اقتصادية ضخمة يمكن أن تحدث تأثيرا مباشرا على الأسواق في حال تعرض أحد الطرفين لأي تهديد. أما باكستان، فتكسب من هذا التعاون دعما ماليا وسياسيا يعزز مكانتها كقوة نووية ذات ثقل إسلامي ودولي. في المقابل، تبدو إيران الطرف الأكثر خسارة، إذ أصبحت عاجزة عن تهديد السعودية في ظل الحماية النووية الباكستانية، كما أن العقوبات الدولية المفروضة عليها تمنعها من تطوير قدرات نووية هجومية. أما الولايات المتحدة وإسرائيل فتجدان نفسيهما أمام واقع جديد يتمثل في سعودية أكثر استقلالية وثقة، تتعامل بندية وتملك خيارات أمنية متعددة.
وبالنتيجة، يمكن القول إن السعودية نجحت في السنوات الأخيرة في إعادة بناء استراتيجيتها الخارجية على أسس أكثر توازنا وفاعلية، واستطاعت من خلال تحالفها مع باكستان أن توفر لنفسها غطاء رادعا قويا يمنحها هامش حركة أوسع في الإقليم. إنها اليوم لاعب إقليمي وازن، خرج من صراعات العقد الماضي أكثر قوة ونضجا، وأقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق معادلة الردع الذكي التي تمزج بين القوة والبراغماتية في آن واحد.
الحرب العالمية الثالثة وصعود التحالفات الجديدة
- الاستاذ علاء الكاظمي/ كاتب وباحث اكاديمي:
نحن اليوم نعيش حالة تُشبه إلى حد بعيد ما شهدته البشرية قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، حين بدأت التوترات تتصاعد تدريجيا حتى تحولت إلى مواجهة شاملة، العالم الآن في وضع مماثل؛ فإما أن يعيش في ظل صراعات مباشرة، أو أنه يترقب انفجارها في أي لحظة، لذلك يمكن القول إننا في الواقع نعيش ملامح الحرب العالمية الثالثة، التي تتخذ أشكالا متعددة من الحروب الاقتصادية إلى الحروب بالوكالة، مرورا بالمواجهات العسكرية المحدودة التي تنذر بتصعيد أوسع.
من هذا المنطلق، يمكن فهم التحرك السعودي في توقيت إعلان اتفاقها الدفاعي مع باكستان، وهو إعلان جاء بعد ضربة قطر، رغم أن العمل على هذه الاتفاقية كان جاريا منذ عام تقريبا، لكن الإعلان تأجل إلى اللحظة التي بدا فيها المشهد الإقليمي في أشد حالاته اضطرابا، اختيار التوقيت لم يكن عشوائيا، بل كان محسوبا بعناية ليحمل رسائل سياسية متعددة، في وقت أصبحت فيه الثقة بالولايات المتحدة في أدنى مستوياتها، ليس فقط لدى السعودية بل لدى معظم حلفائها في المنطقة.
فما يجري اليوم يعكس، إلى حد كبير، تراجع مكانة الإمبراطورية الأمريكية وتضعضع أركانها على أكثر من صعيد، فعلى المستوى الأخلاقي، فقدت واشنطن مصداقيتها في الالتزام بوعودها وتعهداتها، وأصبحت الدول تتعامل معها بحذر، إذ لم تعد “الكلمة الأمريكية” موضع ثقة كما كانت في العقود السابقة، فتجربة أوكرانيا تمثل نموذجا واضحا لذلك، فقد كانت كييف تظن أنها محصنة بالدعم الغربي بعد أن تخلت عن سلاحها النووي بموجب اتفاقية بودابست، لكنها اكتشفت لاحقا أن الضمانات الأمريكية لا تتجاوز التصريحات.
أما على المستوى الاقتصادي، فإن الوضع في الولايات المتحدة يمر بمرحلة حرجة غير مسبوقة، فحجم الدين الأمريكي تجاوز سبعة وثلاثين تريليون دولار، والبلاد تشهد أزمات متكررة تتعلق بالإغلاق الحكومي وعجز الكونغرس عن تمرير الميزانيات اللازمة لتسيير شؤون الدولة، وقد أدى هذا الوضع إلى توقف صرف الرواتب الحكومية في بعض القطاعات وتعليق برامج الدعم الصحي والتعليمي، كل ذلك يعكس حالة انهيار اقتصادي تدريجي يرافقه تآكل في البنية السياسية والأخلاقية للنظام الأمريكي، وهو ما يجعل العالم بأسره في حالة قلق من انعكاسات أي انهيار اقتصادي أمريكي على المنظومة المالية العالمية.
على المستوى السياسي، تشهد الولايات المتحدة استقطابا داخليا حادا تجسده شخصية دونالد ترامب، الذي يمثل حالة من التحول الخطير في الفكر السياسي الأمريكي، فالرجل الذي صعد عبر النظام الديمقراطي بات يتصرف بعقلية سلطوية تشبه إلى حد ما عقلية الأنظمة الشمولية، إذ يتعامل مع مؤسسات الدولة وكأنها أدوات لتنفيذ إرادته، ويبدو واضحا أن النزعة النرجسية وحب الذات المفرط اللذين يسيطران عليه جعلا البيئة السياسية الأمريكية أكثر هشاشة، بل وجعلت منه رمزا لانقسام المجتمع الأمريكي ذاته، وهذا ما يقلق حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط الذين لم يعودوا يثقون باتساق سياساتها الخارجية أو استقرار توجهاتها.
في خضم هذه المعادلة، تبدو السعودية واحدة من الدول القليلة التي نجحت في قراءة المرحلة مبكرا، فاختارت أن تتحرك بذكاء ومرونة لتأمين مكانتها في زمن تتبدل فيه موازين القوة بسرعة مذهلة، ويعاد فيه تعريف مفهوم الردع في ظل حرب عالمية ثالثة لم تعلن رسميا بعد، لكنها تمارس فعليا على أرض الواقع بكل أدواتها.
الشرق الأوسط بين مشروع إسرائيل الجديد وتحولات الردع الإقليمي
- الشيخ مرتضى معاش:
منذ أكثر من مائة عام، يعيش الشرق الأوسط حالة صراع مستمرة لتحديد هويته ومستقبله، فهذه المنطقة ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي الكنز الأثمن في التاريخ الإنساني من حيث الموقع والثروات والأهمية الاستراتيجية، تمتد من باكستان شرقا إلى المغرب غربا، وتشكل نقطة التقاء بين ثلاث قارات: آسيا، وأوروبا، وأفريقيا. لذلك من يربح الشرق الأوسط يربح العالم كله، خاصة في ظل مشاريع كبرى مثل مشروع طريق الحرير الذي جعل الصراع على المنطقة أكثر احتداما بين القوى العظمى.
هذا الصراع لم يتوقف يوما، بل تغيرت فقط أدواته وأطرافه، فبعد أن كانت المنافسة تدور بين بريطانيا وأمريكا في الماضي، وصلنا اليوم إلى مرحلة جديدة دشنها السابع من أكتوبر، الذي مثل لحظة مفصلية في التاريخ الإقليمي، حيث سعت إسرائيل إلى فرض مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، وهو مشروع يختلف عن “الشرق الأوسط الكبير” الذي كانت ترعاه القوى الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا. فالمشروع الجديد إسرائيلي الطابع والتوجه، يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح تل أبيب وحلفائها المباشرين.
صرح نتنياهو حينها بوضوح أن إسرائيل ستعيد تشكيل الشرق الأوسط وفق إرادتها كـ"منتصر"، معتبرا أن لحظتها التاريخية قد حانت لتكون القوة القائدة في الإقليم، لكن هذه الرغبة الإسرائيلية في الهيمنة المطلقة على الشرق الأوسط لم تلق قبولا دوليا، إذ رفضتها الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا وروسيا ودول الخليج – باستثناء الإمارات – وحتى معظم دول آسيا، لأنها تعد في نظرهم محاولة لاحتكار الكنز الجيوسياسي العالمي.
ورغم أن البعض يرى في إسرائيل حليفا لأمريكا، فإن الحقيقة أكثر تعقيدا، فإسرائيل ليست مجرد حليف بل منافس يسعى إلى جعل أمريكا تابعة لها في إدارة شؤون الشرق الأوسط. بينما تعتبر واشنطن نفسها القوة الكبرى التي يجب أن تقود لا أن تقاد، إلا أن اللوبي الصهيوني القوي في الولايات المتحدة جعل السياسة الأمريكية تميل أكثر نحو حماية المصالح الإسرائيلية حتى وإن تعارضت أحيانا مع المصالح الأمريكية المباشرة. ولهذا السبب، عندما سعت واشنطن إلى صياغة اتفاقيات جديدة في المنطقة، كانت تشترط أن أي تحالف مع السعودية لا بد أن يترافق مع تطبيع العلاقات مع إسرائيل، الأمر الذي واجه رفضا ضمنيا من الرياض لأنها لا تريد أن تظهر نفسها كدولة تابعة في هذا المحور.
السعودية، التي كانت قبل نحو عشرين عاما قد خففت من دعمها الفعلي لباكستان وعدتها عبئا أكثر من كونها شريكا استراتيجيا، عادت اليوم لتجدد هذا التحالف في توقيت بالغ الحساسية، فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الآن؟ ولماذا لم يتم هذا التقارب خلال ذروة البرنامج النووي الإيراني؟.
الإجابة تكمن في أن الرياض تدرك أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد مكانتها الإقليمية ليس إيران، بل إسرائيل. فإيران، رغم طموحاتها النووية، بقيت حبيسة حدود معينة ولم تمتلك نية السيطرة الكاملة على الشرق الأوسط. أما إسرائيل، فمشروعها قائم على قيادة الإقليم وفرض إرادتها على الجميع. ومن يمتلك القوة النووية في الشرق الأوسط يصبح صاحب القرار الأول فيه، سواء بالتحالف مع الغرب أو من دونه.
من هنا، رأت السعودية أن عليها التحرك لبناء تحالفات جديدة تكفل لها الحماية وتمنع تحولها إلى دولة تابعة ضمن محور الإمارات–إسرائيل–الهند –و(روسيا ولكن بغموض). فمحمد بن سلمان، الذي يسعى لتثبيت موقع بلاده كقوة إقليمية مستقلة، لا يمكنه القبول بأن يكون مجرد تابع لمحمد بن زايد أو جزءا من تحالف تقوده تل أبيب. لذلك جاء تجديد التعاون مع باكستان خطوة محسوبة لإيجاد توازن جديد في معادلة الردع.
هذا التحالف بين الرياض وإسلام آباد لا يمكن أن يتم دون مظلة أمريكية غير معلنة، إذ تدرك واشنطن أن استمرار توازن القوى في المنطقة يصب في مصلحتها، لكن اللافت أن الصين أيضا أصبحت طرفا مهما في هذه المعادلة، نظرا لاهتمامها العميق بالممرات التجارية المرتبطة بمشروع طريق الحرير، مما يجعلها طرفا راعيا غير مباشر لهذا التقارب السعودي–الباكستاني في مواجهة المشروع الإسرائيلي.
الإمارات من جهتها كانت أول من فهم أهمية التحالف الاقتصادي مع إسرائيل، فسعت مبكرا إلى بناء شراكة مباشرة معها للسيطرة على مراكز النفوذ الاقتصادي في المنطقة، ومن هنا نفهم أن الصراع في غزة اليوم لا يدور فقط حول الأرض، بل حول من سيحكم غزة بعد الحرب: هل سيكون التحالف الإماراتي–الإسرائيلي الذي يمثله توني بلير وشركاته، أم التحالف الذي تدعمه قطر والسعودية والولايات المتحدة؟ هذه التوازنات الجديدة هي التي دفعت الرياض إلى تعزيز تحالفها مع باكستان، في إطار بناء منظومة ردع جديدة تتجاوز التقسيمات التقليدية.
ومن المرجح أن يتطور هذا التعاون في المدى المنظور إلى ما يشبه “ناتو إسلامي”، خاصة بعد أن كشفت إسرائيل عن وجهها الحقيقي في عملياتها العسكرية الأخيرة التي أظهرت ميولها التوسعية وعدم اكتراثها باستقرار المنطقة، ومع هذا الانكشاف أصبحت جميع دول المنطقة –من مصر والسعودية إلى تركيا وباكستان– تشعر بأن التهديد الإسرائيلي تجاوز كل الخطوط الحمراء.
بل إن التحركات الإيرانية الأخيرة، ومحاولتها توجيه رسائل عبر حزب الله بدعوة السعودية إلى التعاون، تعكس تبدلا في موازين القوى الإقليمية، إذ تدرك طهران أن معادلة الردع الجديدة تبنى من حولها، وأنها قد تستبعد تدريجيا من المعادلة الإقليمية إذا لم تعد ترتيب أوراقها.
وهكذا يمكن القول إن ما نشهده اليوم ليس مجرد تحالفات آنية، بل إعادة صياغة شاملة لخريطة الردع في الشرق الأوسط، فالهند المستفزة، والإمارات المستفيدة من ضرب قطر، وإسرائيل الساعية للهيمنة، كلها عناصر في لوحة صراع كبرى ترسم ملامحها من جديد في هذه اللوحة، تحاول السعودية وباكستان أن تكونا محور توازن في وجه الفوضى، لا مجرد لاعبين ثانويين في لعبة الأمم.
بين حسابات السعودية وحدود النفوذ الأمريكي
- الاستاذ احمد جويد/ مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات:
يبدو أن مصلحة محمد بن سلمان اليوم تتجاوز الأطر السياسية التقليدية نحو تثبيت موقعه كـ الملك القادم رسميا للمملكة العربية السعودية، فعلى الرغم من أنه الحاكم الفعلي الآن، إلا أن الوصول إلى العرش بشكل رسمي يتطلب تثبيت دعائم السلطة داخليا وضمان استقرار الجبهة الداخلية التي لا تزال تحوي بعض الغموض، إذ لا يعرف على وجه الدقة ما تخفيه التوازنات داخل بيت الحكم، خاصة في ظل وجود تيارات قد لا تتفق بالكامل مع أسلوبه في الإدارة أو مع توجهاته الإقليمية الجديدة.
من جهة أخرى، يدرك محمد بن سلمان أن التهديدات الإقليمية وعلى رأسها إيران، ليست الخطر الأكبر على المملكة، مقارنة بالتحديات الداخلية التي تمس استقرار النظام السعودي ذاته، فبينما تستخدم إيران في الخطاب الرسمي والإعلامي كمصدر تهديد دائم، فإن الأخطار الحقيقية التي تواجه المملكة تنبع من داخلها، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
أما على صعيد التحالفات الإقليمية، فقد أثبتت التجربة أن كثيرا من التحالفات السعودية السابقة لم تصمد أمام الاختبار الواقعي، فمثلا التحالف الذي تشكل أثناء حرب اليمن، رغم انضمام دول عديدة كتركيا ومصر إليه، بقي هشا وفشل في تحقيق أهدافه، حتى بعد إعادة تسميته بـ"التحالف الإسلامي"، الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين الدول الإسلامية حالت دون أي تنسيق فعلي عميق بينها، مما يجعل فكرة “ناتو إسلامي” أمرا بعيد المنال في الظروف الحالية.
في المقابل، يبقى السؤال الجوهري: ما مصلحة باكستان في دعم السعودية؟ وما مصلحة السعودية في التوجه نحو باكستان؟.
من الواضح أن الرياض لا يمكنها في أي ظرف أن تخرج من تحت المظلة الأمريكية، فكل تحرك استراتيجي سعودي –حتى وإن بدا مستقلا– يتم بضوء أخضر أمريكي، مباشر أو غير مباشر، والسبب بسيط: المملكة تدرك أن الولايات المتحدة هي الضامن الحقيقي لأمنها، وأن أي تحالف آخر لا يمكن أن يوفر لها الحماية ذاتها.
أما من جهة واشنطن، فهي تدعم مثل هذه التحركات طالما تصب في مصالحها الواسعة في الشرق الأدنى والأوسط والآسيوي، وتخدم توازن القوى في مواجهة خصومها الدوليين كالصين وروسيا وإيران، وبالتالي فإن التحالف السعودي–الباكستاني ليس تحالفا قائما على استقلال القرار بقدر ما هو جزء من شبكة النفوذ الأمريكية في المنطقة.
وحتى في حال تعرض السعودية لاعتداء مشابه لضربة قطر، فإن إمكانية تدخل باكستان عسكريا تظل ضعيفة جدا، قد يصدر موقف إعلامي أو سياسي داعم، ولكن تحركا عسكريا فعليا ضد قوى كبرى مثل إسرائيل أو الولايات المتحدة أو حتى بعض دول أوروبا يبدو مستحيلا، في أقصى الأحوال قد يقتصر الدعم على انسحابات مالية أو إجراءات رمزية لا تغير من موازين القوى شيئا.
التاريخ الباكستاني نفسه يؤكد هذه الهشاشة، إذ شهدت باكستان خلال العقود الماضية انقلابات متكررة وتبدلات في الحكم، وكل تغيير في السلطة كان ينعكس فورا على طبيعة علاقتها مع السعودية، فكل حكومة باكستانية تنظر إلى الرياض بزاوية مختلفة، بحسب احتياجاتها الداخلية وأولوياتها الخارجية، ما يجعل التحالف غير ثابت وغير مضمون على المدى الطويل.
من جانب آخر، كانت السعودية قد أسست مدارس وجماعات دينية في باكستان وأفغانستان على مدى عقود، ورعتها فكريا وماليا، ما ترك أثرا طويل الأمد على البنية الاجتماعية والسياسية في البلدين، ومع ذلك فإن سياسة محمد بن سلمان الحالية تختلف جذريا عن تلك المرحلة، إذ تخلى عن دعم الجماعات المتطرفة، وزج بعدد من قادتها في السجون ضمن مسار إصلاح ديني وسياسي داخلي، ومع ذلك تبقى هذه الجماعات ورقة يمكن أن تؤثر في المشهد الباكستاني إذا استخدمت بشكل غير مباشر.
لكن في نهاية المطاف، لا يتوقع من باكستان أن تخوض مغامرة عسكرية دفاعا عن السعودية، خصوصا في قضايا تتعلق بإسرائيل أو القوى الغربية، فإسلام آباد ليست بالبساطة التي تجعلها تورط نفسها في صراع نووي أو عسكري كبير لمجرد الدفاع عن حليفها الخليجي، إنما قد تستخدم هذه العلاقة كورقة ضغط سياسية أو للحصول على دعم مالي أو نفطي متجدد.
أما من الناحية السعودية، فالأمر أوضح فمهما تنوعت التحالفات أو تبدلت الأسماء، يبقى الاعتماد الأول والأخير على المظلة الأمريكية، سواء في مجال الدفاع أو الأمن أو حتى السياسة الخارجية، فالسعودية تشتري الحماية لا بالتحالفات الإسلامية، بل بأموالها ونفوذها الاقتصادي والسياسي، وهذا ما ضمن لها البقاء في قلب المشهد الدولي حتى الآن، لذلك قد يبقى التحالف السعودي–الباكستاني اتفاقا إعلاميا أكثر منه تحالفا فعليا، يسجل في البيانات ويذكر في التصريحات، لكنه لن يتحول في الواقع إلى ركيزة استراتيجية حقيقية قادرة على تغيير معادلات القوة في المنطقة.
التحالفات الدولية بين غريزة البقاء ومنطق المراهقة السياسية
- الاستاذ علي عبيد/ كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:
يبدو أن الدول في نهاية المطاف تتصرف كما يتصرف الأفراد، فكما يسعى الإنسان بطبيعته إلى تكوين التحالفات حين يشعر بالتهديد، ويدخل في الصراعات حين تتقاطع مصالحه، كذلك تفعل الدول؛ تتحرك بدافع الخوف، وتتحالف بحثا عن الأمان، وتناور لسد ثغرات ضعفها هنا وهناك.
تخطر في بالي الآن صورة من الطفولة، مشهد بسيط لكنه يحمل في طياته ما يشبه ما نراه اليوم على مستوى العلاقات الدولية، في حينا القديم كانت هناك ساحة ترابية تتوسط البيوت، هي أشبه بساحة اللعب الكبرى التي يجتمع فيها الأطفال والمراهقون من الصباح حتى تغيب الشمس، كانت البيوت حولها تمثل حدود العالم بالنسبة لنا، وكل مجموعة من الأطفال تنتمي إلى بيت أو شارع محدد، تماما كما تنتمي الدول إلى محاورها وتحالفاتها.
في تلك الساحة، برز اثنان من “الزعماء”: أحدهما قوي الشكيمة وجريء، والآخر ضخم البنية وله حضور وكاريزما مؤثرة، سرعان ما انقسم الأطفال إلى معسكرين، كل فريق يتبع قائده المفضل، فصارت الساحة ميدانا لصراعات صغيرة لا تنتهي، معارك من العصي والتراب والهتافات، وكأنها محاكاة مصغرة للعالم الكبير الذي نعيش فيه اليوم.
كنت أراقب المشهد وأتذكر ذلك الصبي الوحيد الذي قرر أن يبقى “محايدًا”، قال: “أنا وحدي، أحمي نفسي بنفسي”، لكن سرعان ما صار الهدف المشترك للطرفين، يتعرض للضرب من هنا وهناك، دون حماية ولا سند. تحول إلى ذاك الذي يتلقى الضربات من الجميع لأنه بلا غطاء ولا تحالف.
فالدول تتحرك بنفس الغريزة التي تحرك بها أولئك الصغار: الخوف من العزلة، والرغبة في الحماية، والبحث عن مكان آمن في مواجهة الأقوى، وهنا يمكن قراءة التحالف السعودي–الباكستاني من هذا المنظور الإنساني البسيط: إنه تحالف من أجل البقاء، من أجل الحماية في وجه قوى أكبر، وفي مقدمتها إسرائيل كما أشار بعض الزملاء، كل طرف يشعر أنه بحاجة إلى الآخر لدرء الخطر أو لمعادلة ميزان القوى، حتى وإن كانت دوافعه تختلف أو مصالحه لا تتطابق تماما.
توازن شكلـي في زمن التحولات العميقة
- د. منتصر العرداوي- باحث اكاديمي:
إن التحالف القائم بين السعودية وباكستان لا يبدو تحالفا حقيقيا بقدر ما هو تحالف شكلي، يراد منه إيصال رسائل سياسية أكثر مما يراد منه تأسيس محور فعلي ذي تأثير ميداني أو استراتيجي، فالسعودية اليوم تمتلك شبكة واسعة من العلاقات مع مختلف القوى الإقليمية والدولية، بدءا من الولايات المتحدة الأمريكية، مرورا بإسرائيل، ووصولا إلى إيران، وهي علاقات متوازنة إلى حد كبير تجعلها في مأمن من أي تهديد مباشر أو تدخل في شؤونها الداخلية، هذا التوازن في العلاقات يمنحها موقعا آمنا نسبيا، فلا هي في حالة عداء صريح مع أي طرف، ولا تشكل تهديدا مباشرا لأي محور.
وفي المقابل، فإن باكستان أيضا تتمتع بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة ومع إيران على حد سواء، مما يجعلها حريصة على عدم الدخول في تحالفات قد تضعها في مواجهة مع أي من هذين الطرفين، لذلك يمكن القول إن البلدين لا يطرحان نفسيهما كقوتين للردع أو كأعضاء في محور مقاومة أو مواجهة، بل يسعيان إلى إبراز نفسيهما كدول معتدلة تميل إلى الحلول الدبلوماسية وتحقيق التوازن في السياسات الخارجية أكثر من ميلها إلى الصدام أو الصراع.
أما بالنسبة للسعودية، فهي في واقع الحال في مأمن من دول الإقليم التي تعد امتدادا للنفوذ الإيراني، مثل العراق ولبنان واليمن، لأن هذه الأذرع لا تتحرك بمفردها، بل وفق أوامر طهران، وبما أن العلاقات بين الرياض وطهران تشهد استقرارا نسبيا بعد الاتفاق الأخير بينهما، فإن احتمال تحرك تلك الأذرع ضد السعودية يبدو ضئيلا للغاية، لذلك فإن دوافع السعودية في هذا التحالف مع باكستان لا تقوم على الخوف من خطر مباشر، بقدر ما تقوم على الرغبة في توجيه رسالة سياسية تقول إن المملكة لا تزال لاعبا مهما في المنطقة، تماما كما أن إيران تعد لاعبا محوريا في معادلات الشرق الأوسط.
لقد أثبتت التجارب السابقة أن أغلب التحالفات السياسية والعسكرية في المنطقة لم تدم طويلا ولم تحقق الأهداف التي أنشئت من أجلها. فمثلا عندما نعود إلى الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، نجد أن واشنطن لم تفِ بوعودها تجاه العراق، خصوصا عندما اجتاح تنظيم داعش أراضيه، حيث اقتصر الدور الأمريكي حينها على دعم شكلي دون تدخل فعال وحاسم. الأمر ذاته يمكن أن ينطبق على التحالف السعودي–الباكستاني، فهو تحالف قابل للتبدل أو الانهيار في أي لحظة، بمجرد أن يصدر قرار أو توجيه أمريكي بوقف التعاون أو تجميده، ما يعني أنه لا يمتلك مقومات الاستمرار ولا يملك القدرة على التأثير الحقيقي في موازين القوى الإقليمية.
ثم إن السعودية، رغم ما تملكه من قدرات مالية وتسليحية، تبقى مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمنظومة الغربية، فمعظم أسلحتها مصدرها الولايات المتحدة، وهذا يجعلها في تبعية تسليحية كاملة تقريبا، فهي لا تستطيع مهما حاولت أن تخوض حربا أو تصعيدا عسكريا خارج الإطار الأمريكي أو ضد إرادته، لأنها ببساطة لا تملك القوة الكافية ولا القدرة الذاتية على إدارة حروب كبيرة دون الدعم الغربي، لذلك فإن هذا التحالف مع باكستان، وإن حمل شكلا من أشكال التعاون العسكري أو الأمني، يبقى محدود الفاعلية والتأثير، ويقرأ أكثر باعتباره تحركا دبلوماسيا محسوبا يراد منه تسجيل موقف، أو توجيه إشارة سياسية في لحظة معينة، أكثر من كونه تحالفا استراتيجيا راسخا يمكن البناء عليه في المستقبل.
تجديد لتحالف قديم في زمن اختلال الردع الإقليمي
- الاستاذ حسين علي عبيد/ مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية:
يعد التعاون السعودي–الباكستاني تعاونا قديم الجذور، إلا أن تجديده في المرحلة الراهنة لا يأتي من فراغ، بل هو استجابة لجملة من المتغيرات الإقليمية والدولية التي أفرزت واقعا جديدا في توازنات القوى داخل الشرق الأوسط، فالمشهد الحالي يشير بوضوح إلى أن الرياض وإسلام آباد أعادتا تنشيط تعاونهما، ليس انطلاقا من رغبة في تأسيس تحالف جديد، وإنما بهدف إعادة توزيع عناصر القوة والردع في منطقة تزداد اضطرابا.
أحد أبرز الأسباب وراء هذا التجديد يتمثل في تراجع الردع الإيراني ومحور المقاومة نسبيا، فإيران بعد أن خاضت مواجهات مباشرة مع إسرائيل، وجدت نفسها في موقع ضعف نسبي بسبب الاستنزاف العسكري والاقتصادي، إضافة إلى القيود المفروضة على برنامجها النووي والعقوبات الدولية المتصاعدة، كل ذلك جعل السعودية ترى في باكستان، الدولة النووية الإسلامية، عنصر توازن محتمل في مواجهة أي تهديد إيراني مباشر أو غير مباشر، ومن هنا يمكن فهم إعلان التعاون الأخير باعتباره رسالة ردع رمزية تظهر أن الرياض تمتلك أوراق قوة جديدة يمكن أن توظفها عند الضرورة.
إلى جانب ذلك، جاء صعود إسرائيل كقوة إقليمية بارزة بعد اتفاقيات التطبيع ليضيف عاملا آخر من عوامل القلق السعودي، فالهجوم الإسرائيلي على قطر والذي استهدف عاصمتها الدوحة، شكل صدمة في المنطقة وأرسل إشارة واضحة مفادها أن إسرائيل قادرة على ضرب أي دولة متى شاءت دون اعتبار لتحالفات أو تفاهمات سابقة، هذا الحدث جعل السعودية تدرك حجم المخاطر التي تحيط بها، فبادرت إلى تفعيل تعاونها مع باكستان كنوع من "المظلّة الوقائية" أو التحالف الرمزي الذي يعزز موقعها الإقليمي في مواجهة احتمالات غير محسوبة.
وفي هذا السياق، يستحضر كثيرون تجربة التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب الذي أعلن عنه عام 2015، والذي اعتبر حينها النواة المحتملة لتشكيل "ناتو إسلامي"، غير أن هذا المشروع لم ير النور لأسباب جوهرية. أولها، الخلافات العميقة بين الدول الإسلامية، إذ يصعب بناء تحالف متماسك في ظل انقسامات مذهبية وسياسية. أما السبب الثاني فهو غياب رؤية موحدة للعدو، إذ لم تتفق الدول المعنية على تحديد من هو "الخصم الحقيقي": هل هو الإرهاب بمفهومه الواسع؟ أم إيران؟ أم إسرائيل؟ هذا الارتباك في الرؤية جعل من فكرة "الناتو الإسلامي" مجرد عنوان إعلامي دون مضمون فعلي.
تحالفات الشرق الأوسط بين الواقع والممكن
- الاستاذ محمد علاء الصافي/ مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
تمر منطقة الشرق الأوسط منذ عقود بسلسلة من المراحل الحرجة التي غالبا ما تثير الحديث عن تشكيل تحالفات عربية أو إسلامية كبرى، مثل "ناتو عربي" أو "ناتو إسلامي"، غير أن التجارب السابقة أثبتت أن مثل هذه المشاريع تبقى في إطار الطرح النظري أو الاتفاقات الشكلية دون أن تتطور إلى تحالفات عسكرية حقيقية، فقد شهدنا بعد أحداث كبرى، كغزو الكويت أو حروب غزة، محاولات عدة لبناء جبهة عربية أو إسلامية موحدة، إلا أن تضارب المصالح بين الدول وارتباطها بمحاور وتحالفات خارجية متناقضة حال دون ذلك.
تختلف الدول الإسلامية والعربية في توجهاتها وتحالفاتها الدولية، فباكستان مثلا لها شبكة مصالح وتحالفات تختلف عن تلك التي تعتمدها إيران أو السعودية أو تركيا، وهو ما يجعل من الصعب الاتفاق على قيادة موحدة أو عدو مشترك، وبالنتيجة يبقى طرح "التحالف العربي أو الإسلامي" أقرب إلى الطموح منه إلى الواقع العملي، لأن أي مشروع من هذا النوع يصطدم أولا بتعدد الأجندات الداخلية، وثانيا بتداخل المصالح مع القوى الكبرى، وثالثا بغياب الإرادة السياسية الموحدة.
أما بالنسبة لدور الولايات المتحدة، فليس من المرجح أن يكون دورها إيجابيا في دعم أي تحالف عسكري عربي أو إسلامي مستقل، لأن واشنطن تدرك أن قيام تحالف كهذا سيحد من نفوذها المباشر في المنطقة ويقلل من قدرتها على التحكم في موازين القوى داخل الشرق الأوسط، لذلك غالبا ما تفضل أن تبقى الدول الإقليمية في حالة اعتماد متبادل عليها، لا في موقع استقلال تام عنها.
وإذا ما قيس هذا التعاون بالعلاقات المتنامية بين السعودية والهند، يتضح أن التعاون السعودي–الهندي يتفوق عليه بأضعاف، سواء في حجم التبادل التجاري أو التنسيق الأمني والتكنولوجي، فالهند تعد من أكبر مستوردي النفط السعودي، بينما تعتمد السعودية على استيراد المواد الغذائية والعمالة الهندية، إضافة إلى اتفاقيات التعاون التكنولوجي الموقعة بين الجانبين خلال السنوات الأخيرة.
من هذا المنطلق، يصعب تخيل أن تخاطر السعودية بخسارة علاقاتها الاستراتيجية المتينة مع الهند في مقابل توثيق علاقة جديدة مع باكستان، خصوصا وأن الهند وباكستان تقفان على طرفي نقيض سياسي وأمني، أما من الجانب الباكستاني فإن بنيتها العسكرية والسياسية تميل تاريخيا نحو النموذج البريطاني، في حين أن بريطانيا تعد اليوم أحد أبرز الداعمين للوجود الإسرائيلي، مما يجعل من غير الواقعي تصور صدام عسكري مباشر بين باكستان وإسرائيل في المدى المنظور.
من الردع الإقليمي إلى إعادة التموضع الاستراتيجي
- الاستاذ نبيل خالد مخلف/ باحث اكاديمي:
في البدء، لا يمكن اختزال التجديد في كونه استجابة مباشرة لاختلال ميزان القوى لصالح الكيان الإسرائيلي، وإن كان ذلك أحد العوامل المسهلة، فإن هذا الكيان الإجرامي يمتلك تفوقا نوعيا عسكريا وتكنولوجيا منذ عقود وبدعم أمريكي، والردع في المنطقة لم يعد تقليديا بل بات متعدد المستويات يقوم على صراع منخفض الشدة، كما إن التراجع النسبي لمحور المقاومة أسهم في إبراز الحاجة إلى شراكات أمنية بديلة، إلا أن الدوافع الأعمق تكمن بما يلي:
1- مواجهة التهديد الإيراني المتصاعد وتوسعه الإقليمي.
2- حاجة باكستان إلى الدعم المالي والسياسي السعودي في ظل أزمتها الاقتصادية.
3- ارتباط التعاون بأهداف رؤية السعودية 2030 وتنويع الشراكات الاستراتيجية.
4- إدراك الطرفين لتراجع التركيز الأمريكي على الشرق الأوسط مقابل أولويات واشنطن في آسيا.
إذن، يمكننا القول أن تجديد التعاون هو نتاج مصفوفة من الدوافع الأمنية والإقتصادية والاستراتيجية، كما يشكل التوازن مع إسرائيل جزءا منها، لكنه ليس المحدد الحاسم.
على الرغم من تكرار طرح فكرة "الناتو الإسلامي"، فإنها تظل غير واقعية في المدى المنظور لعدة أسباب: الانقسامات الجيوسياسية بين الدول الإسلامية، غياب عدو مشترك جامع، تبعية معظم هذه الدول لقوى كبرى متنافسة، واختلاف أنظمتها السياسية والعسكرية، وعليه، يبقى السيناريو الأقرب هو تعزيز التعاون الثنائي السعودي الباكستاني، وربما توسيعه إلى محاور إقليمية مرنة وموضوعية (اقتصادية وأمنية أكثر من كونها عسكرية شاملة).
أما دور الولايات المتحدة، فيتسم بالازدواجية: من جهة تشجع واشنطن على تقاسم الأعباء الأمنية عبر حلفاء إقليميين، ومن جهة أخرى تسعى إلى ضبط أي توجه قد يهدد نفوذها أو يفتح الباب أمام بدائل استراتيجية (مثل الصين أو روسيا). وبالتالي فهي تؤدي دور الداعم الحذر والموجه غير المباشر لهذا التعاون.
ملامح تحالف جديد في عالم متغير
- الدكتور محمد مسلم الحسيني/ باحث اكاديمي:
في عالم مضطرب تاهت فيه القيم واختلت فيه الموازين، وأصبحت القوة معيارا للحق، يعيش المجتمع الدولي مرحلة تتآكل فيها المواثيق ويستباح فيها الضعيف من قبل الأقوى، في ظل هذا الواقع تضعف الثقة ويسود القلق، وتغيب الطمأنينة ليس فقط على مستوى الأفراد والمجتمعات، بل حتى في العلاقات بين الدول، حين تستهتر دولة بالقانون الدولي وتمنح نفسها حق الاعتداء على من تشاء دون حساب، يصبح رد الفعل الطبيعي هو البحث عن توازن جديد يردع الطغيان ويعيد شيئا من العدالة المفقودة.
لقد بات واضحا أن النظام الدولي القائم على القطب الواحد يترنح، وأن العالم يتجه بخطى متسارعة نحو نظام متعدد الأقطاب، حيث تتشكل التكتلات والتحالفات في شتى المجالات: الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ظهرت كيانات جديدة مثل مجموعة “بريكس”، ومنظمة شانغهاي للتعاون، والاتحاد الأوراسي، ومحور المقاومة، ومعاهدة الأمن الجماعي الروسية، وغيرها من التكتلات التي تعكس تحولا في ميزان القوى العالمي.
وفي هذا السياق، جاء توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك بين المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية في 17 أيلول/سبتمبر 2025، لتضيف بعدا جديدا إلى مشهد التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، تنص الاتفاقية على أن أي اعتداء عسكري على أحد البلدين يعتبر اعتداء على كليهما، وهو ما يعكس مستوى متقدما من التعاون والتفاهم بينهما، مبنيا على روابط عقائدية واقتصادية وجغرافية وتاريخية عميقة.
إلا أن هذا الإعلان أثار ردود فعل متباينة، إذ اعتبره البعض تطورا مفاجئا وصادما، بل ومؤشرا على تراجع الثقة بالحماية الأمريكية التقليدية التي اعتمدت عليها المملكة لعقود، وربما عد كذلك نوعا من “التمرد الهادئ” على الحليف الغربي الذي بدا عاجزا عن حماية شركائه، كما حدث في الاعتداء الإسرائيلي الأخير على دولة قطر، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، دون أي رد أميركي فعال.
من هذا المنطلق، يصبح من الطبيعي أن تعيد الدول الخليجية ترتيب أولوياتها الدفاعية، وأن تبحث عن تنويع مظلاتها الأمنية، فإذا كانت إسرائيل تجرؤ على ضرب عاصمة خليجية حليفة لأمريكا دون أن تواجه عقابا، أفليس من حق بقية دول المنطقة أن تبحث عن شركاء استراتيجيين جدد؟ ولماذا يستنكر على العرب والمسلمين ما يعد مشروعا وضروريا لدى الآخرين، كإنشاء تحالف عسكري مشترك أو “ناتو” إسلامي–عربي يحقق توازن الردع في المنطقة؟
غير أن هذا الاتفاق يفتح في الوقت ذاته بابا واسعا للتساؤلات الجوهرية:
هل يتضمن مفهوم “الدفاع الاستراتيجي” نقل أسلحة نووية باكستانية إلى الأراضي السعودية كما فعلت روسيا مع بيلاروسيا؟ وإن صح ذلك، فما ستكون ردة الفعل الأمريكية والإسرائيلية؟ وهل جاءت هذه الاتفاقية كردّ فعل سريع على الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، أم أنها ثمرة تخطيط استراتيجي طويل المدى لموازنة التعاون العسكري الإسرائيلي–الهندي الذي يقلق باكستان؟
ثم، هل يقتصر هذا التحالف على الرياض وإسلام آباد وحدهما، أم أنه يشكل نواة لتحالف أوسع يضم دولا خليجية وإسلامية أخرى، برعاية صينية أو روسية؟ وإذا ما تحقق ذلك، فكيف ستتعامل واشنطن معه، وهو تحالف قد يعيد رسم معادلات القوة في الشرق الأوسط؟ وهل المقصود من هذا التعاون مواجهة إسرائيل تحديدا، أم أنه يستهدف بناء توازن إقليمي شامل يحصن الدول الإسلامية من أي تهديد خارجي محتمل؟.
وإذا ما نجح هذا النموذج في الصمود والفاعلية، فهل يكون نواة لتجربة شرقية جديدة توحد الصفوف بدل أن تفرقها، وتؤسس لتحالف إسلامي قادر على ردع العدوان وحماية الاستقرار؟
إن هذه الأسئلة تبقى مفتوحة أمام النقاش والتحليل، لكنها تعكس واقعا واضحا: العالم يتغير، وموازين القوة تعاد صياغتها.
بين الطموح النووي والدعوة لتشكيل ناتو إسلامي
- الاستاذ صادق الطائي/ باحث اكاديمي:
تعد باكستان من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية والعسكرية الكبرى في العالم الإسلامي، فهي تمتلك ترسانة نووية تقدر بنحو 170 قنبلة نووية، إلى جانب 15 قاعدة للصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى، فضلا عن ترسانة متقدمة من الأسلحة المتنوعة التي حصلت عليها من الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، والولايات المتحدة الأمريكية. هذه القدرات جعلت من باكستان قوة ردع مؤثرة، لكنها أيضا وضعتها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، التي باتت تنظر إليها كـ “العدو الثاني” بعد إيران.
قبل أسابيع قليلة، استضافت دولة قطر مؤتمر قمة إسلامي وفي هذا المؤتمر، طرح وزير الدفاع الباكستاني فكرة إنشاء تحالف عسكري إسلامي على غرار حلف الناتو، هدفه الأساسي مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة في المنطقة. ورغم أن هذا الطرح بدا في حينه أقرب إلى المزايدات السياسية أو التصريحات الإعلامية، إلا أن ما تلاه من أحداث أعطاه بعدا أكثر واقعية.
فبعد القمة مباشرة، تم الإعلان عن اتفاقية دفاع مشترك بين المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية، هذه الخطوة تظهر بوضوح أن الاعتماد على الحماية الأمريكية لم يعد كافيا بالنسبة لبعض دول المنطقة، خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي كشفت حدود الدور الأمريكي في حماية حلفائه. فالهجوم الإسرائيلي على الدوحة – عاصمة قطر، وما أسفر عنه من خسائر وسقوط ضابط قطري، شكل صدمة قوية للرأي العام العربي والإسلامي، وأكد أن واشنطن لم تعد الضامن الموثوق لأمن الخليج.
من هذا المنطلق، يمكن قراءة قبول الولايات المتحدة بهذا الاتفاق السعودي–الباكستاني من زاوية براغماتية بحتة: خشية واشنطن من أن يؤدي رفضها له إلى تقارب سعودي–باكستاني–إيراني محتمل، وهو ما لا ترغب به إطلاقا في ظل تنافسها الحاد مع محور الشرق.
من هواجس الردع الإقليمي إلى ملامح الصدام الحضاري
- الاستاذ حسن كاظم السباعي/ باحث اكاديمي:
رغم اختلال ميزان القوى الإقليمي لصالح إسرائيل بعد تراجع فاعلية محور المقاومة، فإن تجديد التعاون السعودي–الباكستاني لا يبدو نابعا من خشية المملكة من هجوم إسرائيلي مباشر كما حدث مؤخرا في قطر، بل من قلق أعمق يتعلق بتداعيات الصراع الإيراني–الإسرائيلي–الغربي وما قد ينجم عنه من انفلات أمني شامل في المنطقة، على غرار ما جرى في الجبهة اليمنية وسط خذلان أمريكي واضح.
يأتي هذا التحالف أيضا في سياق أوسع يتقاطع مع العلاقات السعودية المتنامية مع روسيا والصين، وطلبها وساطة بكين لتقريب وجهات النظر مع طهران، ومن هذا المنطلق، فإن التعاون السعودي–الباكستاني لا يمكن قراءته فقط في إطار إعادة ترتيب محاور الردع الإقليمي، بل كجزء من تحول عالمي نحو إعادة تشكيل موازين القوة بين الشرق والغرب، وهو ما يشير إلى دخول المنطقة في مرحلة جديدة من “الصدام بين الحضارات” كما تنبأ به صموئيل هنتنغتون.
في هذا السياق، يمكن القول إن التحالف السعودي–الباكستاني يمثل نواة لتحالف “إسلامي–شرقي” في مواجهة محور “غربي–إسرائيلي”، خصوصا بعد أن فقد الغرب مصداقيته في نظر كثير من الشعوب الإسلامية، تلك المصداقية التي كان يستند إليها حينما تحالف مع المسلمين في وجه الشرق الشيوعي سابقا.
ويستشهد هنتنغتون في كتابه بما نقله عن غراهام فوللر، الخبير في شؤون الشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، الذي قال:
“قد يتحقق تحالف كونفوشيوسي–إسلامي غير رسمي، لا لأن محمد وكونفوشيوس معاديان للغرب، بل لأن هذه الثقافات تعد وسيلة للتعبير عن الظلم الذي ينظر إلى الغرب باعتباره مسؤولا عنه، في عالم لم يعد يتقبل هيمنته السياسية والعسكرية والاقتصادية.”
ومع ذلك، فإن قوى الشرق نفسها ليست موضع ثقة مطلقة في بناء التحالفات؛ فالتجارب السياسية تؤكد أن التحالفات في الشرق تتبدل بتبدل المصالح، وما التجربة السورية ببعيدة عن الأذهان. من هنا، يبدو أن الرياض باتت أكثر وعيا بأن لا الشرق ولا الغرب يمكن الاعتماد عليهما في لحظات الخطر، فاتجهت نحو باكستان، بوصفها شريكا يشاركها الانتماء الفكري والعقائدي والإيديولوجي.
وإذا عدنا إلى التاريخ، نجد أن الهواجس السعودية ليست جديدة؛ فقد أرسل الملك فيصل في سبعينيات القرن الماضي مبعوثا إلى شاه إيران، محمد رضا بهلوي، مقترحا تحالفا مشتركا لحماية البلدين والمنطقة من الأخطار الدولية. لكن الشاه رفض قائلا إن وضع إيران مختلف، وإنها لا تحتاج إلى من يحميها (راجع مذكرات مسعود بهنود حول لقاء أسدالله علم بالشاه).
انطلاقا من ذلك، يمكن القول إن التعاون السعودي–الباكستاني خطوة ذكية في ظاهرها، تعكس قراءة استراتيجية للمشهد الدولي المتحول، لكنها تفتقر إلى ضمانات نجاحها العملي على المدى البعيد. فالسعودية – رغم ما تمتلكه من إمكانات مالية هائلة ومحاولات للانفتاح السياسي والثقافي – ما زالت تحمل صبغة سياسية ودينية يصعب تجاوزها، ولا يمكن للمال أو الانفتاح وحدهما أن يخفيا تلك الصبغة أو يلغيا تداعياتها في معادلة التحالفات الدولية والإقليمية.
وفي ختام الملتقى الفكري تقدم مقدم الورقة البحثية الاستاذ حيدر الاجودي بالشكر الجزيل والامتنان إلى جميع من شارك برأيه حول الموضوع سواء بالحضور او من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتوجه بالشكر الى الدعم الفني الخاص بالملتقى الفكري الاسبوعي.