من هدير الشوارع إلى صياغة الأقدار: لماذا ينخرط الشباب في الحركات الجماهيرية؟

شبكة النبأ

2025-09-02 05:26

في كل عصر، ومع كل تحول، يبرز الشباب كقوة دافعة لا تُلْوى لها ذراع. إنهم طاقة متجددة، وشرارة لا تنطفئ، تُشعل جذوة التغيير في المجتمعات التي تئن تحت وطأة الظلم، أو اليأس، أو الركود. من ميادين التحرير التي ارتفعت فيها أيادي الأمل، إلى قاطعي الطرقات في احتجاجات المناخ، مرورًا بالطلاب الذين قادوا حركات الحقوق المدنية، يظل السؤال يتردد: ما الذي يدفع هذه الكتلة البشرية الهائلة، بكل زخمها وأحلامها، للانصهار في بوتقة الحركات الجماهيرية؟ إن فهم هذا الانجذاب ليس مجرد تحليل سوسيولوجي عابر، بل هو مفتاح أساسي لقراءة خريطة المستقبل الاجتماعي والسياسي، واستشراف مسارات الأجيال القادمة.

أولاً: دوافع الانخراط.. بحثًا عن المعنى، الانتماء، والفاعلية

تتشابك الأسباب التي تدفع الشباب للانتماء إلى الحركات الجماهيرية في نسيج معقد من الحاجات الإنسانية الأساسية، خاصة في مرحلة الشباب التي تتسم بالبحث عن الذات، تحديد الهوية، والرغبة في ترك بصمة.

1. ظمأ الانتماء والهروب من العزلة: في عالم تزداد فيه الفردانية وتتفكك الروابط الاجتماعية التقليدية، يجد كثير من الشباب فراغًا هائلاً. الحركات الجماهيرية تُقدم لهم ملاذًا آمنًا ومجتمعًا بديلًا يوفر لهم الدعم والتقبل. إنهم ينصهرون في "نحن" أكبر من "الأنا"، مما يمنحهم هوية جماعية قوية ويُعزز شعورهم بالهدف والقيمة. 

يؤكد المفكر الأمريكي إريك هوفر في كتابه الرائد "المؤمن الصادق" على هذه النقطة الحاسمة. يرى هوفر أن الأفراد الذين يشعرون بالإحباط أو عدم الرضا عن حياتهم الشخصية هم الأكثر قابلية للانضمام للحركات الجماهيرية، إذ يقول: "الشخص الذي يائس من ذاته، يصبح مستعدًا للانصهار في كيان جماعي، وأن يجد فيه القوة والهدف الذي فقده كفرد. اليأس هو التربة التي تنمو فيها الأفكار المتطرفة والحركات الجماهيرية". 

هذا التحليل يُشير إلى أن الحركات الجماهيرية ليست مجرد تجمعات سياسية، بل هي -في كثير من الأحيان- استجابة لحاجات نفسية عميقة لتجاوز الفراغ الشخصي، والانتقال من شعور العزلة إلى قوة الانتماء الجماعي.

2. شوق التغيير ورفض السكون – البحث عن الفاعلية: الشباب، بطبيعتهم المتطلعة، أقل قبولًا للجمود وأكثر حساسية للظلم والفساد. عندما تتفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية (كالبطالة وانعدام العدالة) أو تتزايد مظاهر الاستبداد، يصبحون قوة دافعة لا يمكن تجاهلها. 

الحركات الجماهيرية توفر لهم منصة قوية لتحويل هذا الغضب والإحباط إلى فاعلية ملموسة، إنهم يبحثون عن فرص لترك بصمة، وإحداث فرق حقيقي، لأنهم يؤمنون بأنهم ليسوا مجرد متفرجين. الفاعلية هنا هي ترجمة الرغبة في التغيير إلى عمل مؤثر.

3. فورة التعبير وكسر القيود: تُعد مرحلة الشباب فترة حيوية لتأكيد الذات وتجربة الحدود. عندما تُقمع حرية التعبير في الأطر التقليدية أو السياسية، تصبح الحركات الجماهيرية متنفساً حيوياً. إنها تتيح للشباب فرصة كسر حواجز الصمت، وتحدي الوضع الراهن، والتعبير عن أفكارهم وقيمهم بطرق مبتكرة، سواء عبر الشعارات، أو الفن، أو حتى الوجود الجسدي في الشوارع. هذه الأشكال من الفاعلية التعبيرية تُشبع حاجتهم للتفرد والمساهمة في تشكيل المشهد العام.

ثانياً: الحركات في الميدان.. تفاعل الدوافع مع الواقع

لا تقتصر دوافع الشباب على كونها مجرد أسباب للانضمام؛ بل تُشكل هذه الدوافع، بمجموعها، شخصية الحركة ذاتها وتُؤثر في مسارها، أساليبها، وحتى مدى استدامتها.

حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة (الخمسينات والستينات): استندت هذه الحركة بقوة إلى دوافع الرغبة في التغيير والتأثير إنهاء الفصل العنصري والتعبير عن الذات المطالبة بالكرامة. قيادة مثل مارتن لوثر كينغ جونيور، ووجود هياكل تنظيمية قوية (مثل SCLC وNAACP)، سمحا بتحويل هذا الزخم الشبابي إلى فاعلية سياسية واجتماعية حقيقية. تنوع الأساليب، من المقاطعة إلى الضغط التشريعي، ضمن تحقيق إنجازات مرحلية عززت الروح المعنوية واستدامة الحركة على عقود.

ثورات الربيع العربي 2011 وما بعدها: اندلعت هذه الثورات بدوافع جارفة للتغيير والتأثير إنهاء الاستبداد والتعبير عن الذات كسر حاجز الخوف. الشباب كان الوقود الأول، مستفيدًا من وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن غياب الأطر التنظيمية الموحدة، وتعدد الأجندات، والصراعات الداخلية بعد المرحلة الأولى، أعاق قدرتها على تحويل الفاعلية الثورية الأولية إلى استدامة سياسية مؤسسية. هنا يتجلى الفارق بين الفاعلية اللحظية (الاحتجاج) والفاعلية المستدامة (بناء الدولة).

الحركات البيئية العالمية من السبعينات حتى اليوم: تُعد مثالاً على الاستدامة. جذبت هذه الحركات الشباب بدافع الرغبة في التغيير والتأثير إنقاذ الكوكب. نجاحها يكمن في تأسيس منظمات عالمية راسخة مثل "غرين بيس"، تحديد أهداف متجددة وواقعية (مثل مكافحة تغير المناخ)، والاعتماد على البحث العلمي والتوعية المستمرة، مما حافظ على فاعليتها وتجددها عبر الأجيال.

إن قوة الشباب في الحركات الجماهيرية ستظل محركًا رئيسيًا في المستقبل، خاصة مع تزايد التحديات العالمية. ومع استمرار الأزمات الاقتصادية والبيئية والسياسية، ستظل الحركات الجماهيرية حاضرة كمتنفس ومحفز للتغيير.

تكهنات المستقبل:

عصر الفاعلية الرقمية: ستصبح وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية أكثر حيوية في تعبئة الشباب وتنظيمهم، مما سيسهل ظهور حركات عابرة للحدود الجغرافية، لكنها قد تواجه تحدي بناء الروابط العميقة التي توفرها التفاعلات الواقعية.

تزايد التخصص وتعمق المطالب: قد تتجه الحركات نحو مطالب أكثر تخصصًا (كالصحة النفسية، الحقوق الرقمية، أو العدالة المناخية)، مما يؤدي إلى حركات أكثر تخصصًا لكنها متصلة بشبكات أوسع.

الموازنة بين السرعة والاستدامة: ستظل الحركات تواجه تحدي الموازنة بين سرعة التعبئة العفوية عبر الشبكات الاجتماعية، وضرورة البناء التنظيمي البطيء لضمان استدامة الفاعلية.

توصيات للفاعلين

لضمان استدامة تأثير الحركات الجماهيرية في المستقبل، واغتنام طاقة الشباب الكامنة، نقدم التوصيات الاتية:

1. تعزيز الوعي والبصيرة: يجب على قادة الحركات والمربين تركيز الجهود على تنمية الوعي النقدي والبصيرة الشاملة لدى الشباب. هذا الوعي هو ما يمنحهم القدرة على التمييز بين الشعارات البراقة والمطالب الحقيقية، وتحويل العاطفة إلى فعل واعٍ ومسؤول.

2. بناء القيادات الشابة: الانتقال من فكرة "الجماهير التابعة" إلى "القيادات الناشئة". يجب توفير التدريب المستمر على القيادة، إدارة المشاريع، الاتصال، وصنع القرار، لخلق جيل من القادة القادرين على حمل الراية وتطوير الحركة، وضمان استمرارية الفاعلية.

3. ترجمة الدوافع إلى إنجازات ملموسة: يجب على الحركات تحديد أهداف واقعية وقابلة للتحقيق، والاحتفال بالإنجازات الصغيرة. هذا يغذي رغبة الشباب في التغيير، ويُثبت لهم أن جهودهم تُحدث فرقاً، مما يُعزز من التزامهم بالفاعلية المستدامة.

4. تطوير استراتيجيات مرنة ومتعددة الأبعاد: عدم الاقتصار على شكل واحد من أشكال الاحتجاج أو العمل. يجب أن تكون الحركات قادرة على التكيّف، وتوظيف الفن، والثقافة، والتكنولوجيا، والعمل المدني، والضغط السياسي لتحقيق أهدافها، بما يعكس تنوع دوافع الشباب.

5. التأصيل الفكري والقيمي: ربط الحماس الشبابي بأطر فكرية وقيمية راسخة تمنحهم مرجعية قوية وتُجنبهم الانجراف وراء الأفكار العابرة أو الهدّامة، مع الحرص على أن تكون هذه الأطر محفزة للفاعلية لا الجمود.

إن الشباب هم قوة التغيير الجذري، ووقود المستقبل. وكيفية توجيه هذه القوة، واستثمار دوافعها العميقة، وتحويلها إلى طاقة بناءة ومستدامة، هو التحدي الأكبر والفرصة الأعظم لصناعة مستقبل أفضل للمجتمعات.

ذات صلة

في ذكرى استشهاده: الإمام العسكري يُعيد الأمة الى الإسلامماهية الغرب ومحدداتهنَوْحٌ من القرن الثالث عشر يتماوج عند ضفاف الطفقطع العلاقات التركية الاسرائيلية عملية استباقية حمائية أم مناورة مصالح غير متفق عليها‏غزة.. الدم الذي لايبكيه احد