كيف نصل إلى أعلى مراتب الصوم؟
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2022-04-07 06:50
(يمكن أن يغيّر الإنسان نفسه خطوة خطوة. وشهر رمضان مناسبة جيّدة للتغيير)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
كل إنسان غير محصَّن من الخطأ، لكن الأخطاء تكون على درجات، من حيث حجم تأثيرها، وما تعود به من أضرار على من يرتكبها، وكلما كانت أخطاء الإنسان أكثر وأكبر تأثيرا عليه وعلى الآخرين، تكون حاجته للتغيير أكبر وأشد، وعليه أن يغتنم الفرص المواتية لكي يخلّص نفسه من خطاياه وذنوبه، وهناك سبل معروفة لهذا النوع من الخلاص.
هذه السبل والفرص متوافرة في كل حين أمام الإنسان، وبإمكانه استثمارها في كل حين لتنظيف نفسه (أفكاره وأقواله وسلوكياته) من الأدران، ولكن تبلغ الفرص قمة ذروتها في شهر رمضان، فهو الوقت المناسب بشكل كبير جدا لكي يغير الإنسان من نفسه، ويتصدى بقوة وثقة لكل العادات والسلوكيات والأفكار المنحرفة التي تتسلل إليه.
شهر رمضان له ميزة خاصة من حيث الأجواء والمناسبات الدينية، ومن حيث إجلال الناس له، وإيمانهم به وبقدرته على مضاعفة الفرص والرحمة، وهناك شعور وجداني جماعي يتكون في هذا الشهر يساعد الإنسان الخطّاء على كبح أخطائه والتقليل من سطوتها وغلوائها، وإيقافها عند حدّها، وكلما بلغ الإنسان مرتبة جيدة من الصوم، كانت قدرته على التغيير أفضل، وكما هو معروف أن هناك مراتب للصوم، والتقوى هو المعيار على حقيقة صوم الإنسان من زيفه، فمن بلغ التقوى يبلغ الدرجة الحقيقية للصوم.
هناك من يسمّى صائم وهو أيضا يسمي نفسه صائما ويظن أن الصوم هو الامتناع عن الطعام والشراب، ولا تعنيه الشروط الأخرى للصيام، وهذا النوع من الناس وإن كان يظن بأنه يؤدي المطلوب منه، لكن صومه بهذه الطريقة لا يكتسب درجة الصوم الحقيقي، فهو إن لم يُكمل الضوابط الأخرى فسوف يبقى صيامه ناقصا وليس له من صومه (إلا الجوع والظمأ)، أما الضوابط الأخرى التي تكمّل الامتناع عن الطعام والشراب، فهي (صوم الجوارح).
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيّمة، حول التغيير ومراتب الصوم:
(لا يخفى أن للصوم مراتب، والصائم الذي يبلغ التقوى هو الذي يكون صائماً حقيقة، لا الذي تقول عنه الروايات كحديث الإمام علي سلام الله عليه: «كم من صائم ليس له من صومه إلا الظمأ والجوع»).
كل شيء في الإنسان يجب أن يصبح تحت جناح الصوم، مشاعر الإنسان المختلفة يجب أن تبقى نقية، السمع يجب أن يصوم، وهذا يعني عدم الاستماع لكل ما يقود الإنسان إلى فقدان أو إبطال صومه، وكذلك الحال بالنسبة للبصر، فلا فائدة في أن يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب ويسمح لبصره برؤية وإبصار ما لا يصح النظر إليه.
منفعة متبادلة بين الصوم والتقوى
حتى شَعر الإنسان يقع ضمن ضوابط الصوم، وكذلك جِلده، وهذا هو الصوم الحقيقي الذي تتحقق به أعلى مراتب الصوم، والذي لا يمكن بلوغه ما لم يكن الإنسان متَّقيا، فالتقوى حين يحصل عليها الإنسان، سوف تمهّد له بلوغ المرتبة الأعلى للصوم، لأن التقوى تحسم مسألة الصوم الحقيقي الذي يصوم فيه الإنسان عن الطعام والشراب وعن المحرمات الأخرى، أي أن جوارحه وحواسه كلها تصوم معه، وبهذا يتحقق الصوم الصحيح.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يفسّر الصائم بالقول التالي:
(الصائم هو الذي يصوم وتصوم جوارحه أيضاً، كما في الحديث عن الإمام الصادق سلام الله عليه: «اذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك». فصيام كهذا لا شك سيكون سبباً لأن يصير الإنسان متقياً).
ومثلما للصوم مراتب ودرجات، فإن للتقوى درجات أيضا، وكلما بلغ الإنسان مرتبة أعلى في التقوى، سوف يبلغ مرتبة أعلى في الصيام، أي أن التقوى والصوم حالتان متلازمتان، وفيما بينهما علاقة طردية تصاعدية، فحين تعلو وترتفع مراتب تقواك، فإن مراتب صومك سوف تعلو بشكل متلازم، ومما يمنح الإنسان فرصة أكبر بتحقيق المرتب الأعلى، أن هذا الأمر موكول له، ويعود لإرادته، وتصميمه على التغيير.
وهذا التصاعد في جودة الصيام يحدث تدريجيا وليس دفعة واحدة، مما يجعل الأمر أكثر سهولة ويسرا للإنسان، فاليوم الأول للصيام يحقق درجة معينة، واليوم الثاني للصيام يجب أن يحقق درجة أعلى، صعودا إلى الأيام التالية من شهر رمضان، فالأمر متروك للصائم نفسه، وعليه أن يبادر ويسعى لاستثمار شهر رمضان لتحقيق الهدف الأهم الذي يرومه، وهو هدف التغيير والانتقال من حالة الخطأ إلى الحالة الأصحّ.
ومما يجعل الأمر أكثر سهولة على الإنسان الصائم، أن الله سبحانه وتعالى، زرع في التركيبة التكوينية للإنسان قابليات كبيرة، من بينها قدرته على الارتفاع بمراتب صومه، بعد أن يعلو بمراتب تقواه حتى تبلغ قمتها، وحينئذ تصبح ملَكة، أي أنها تصبح جزء لا يتجزّأ من شخصية الإنسان وطبيعته وتفكيره وسلوكه، فتكون التقوى ملازمة له في كل شيء يقوم به أو يتكلم به، أو يفكر فيه، أو يعلنه للآخرين.
ارتقاء الصوم المتدرّج
التنبّه إلى قضية التصاعد المتدرّج في مراتب الصوم مهمة جدا للتغيير، وقد يسأل سائل، كيف يمكن أن نميز مراتب الصوم من يوم إلى آخر، وهذا يعني أن اليوم الأول للصائم يختلف عن الثاني من حيث التطبيق والشعور النفسي، والإيمان، ودرجة الالتزام بمتطلبات الصيام الحقيقي الذي يجمع بين شروط الصوم (البايلوجي/ الصيام عن الأكل والشرب)، وبين شروط الصوم الجوارحي (وهو صوم الحواس والمشاعر والنيات والأفكار غير السليمة).
وهكذا لابد أن يرتقي الصائم يوما بعد آخر في شهر رمضان، إلى مرتبة أعلى من الصوم، بدعم تام من ملَكة التقوى التي تدفع به خطوة بعد أخرى إلى قمة الصوم الحقيقي، وهو الهدف الذي يتحقق معه تغيير الإنسان بشكل حاسم نحو الأفضل.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(كذلك للتقوى مراتب، ومفتاح ذلك كله بأيدينا، فإن الله تعالى قد خلق فينا القابلية لأن نستفيد من الصوم أكثر، وذلك بأن يكون صومنا في اليوم الثاني من الشهر أفضل من صومنا في اليوم الأول، وهكذا).
من العوامل المساعدة للإنسان كي يبلغ هدفه ويحقق أعلى مرتبة بالصوم، أن يمتنع عن ارتكاب محارم الله تعالى، وهذه المحارم مشخّصة ومعلَنة ومعروفة للجميع، ولا تحتاج إلى عناء التفكير والبحث إلا بمقدار ما يجهل الإنسان بعضها، فكل محارم الله تعني أن لا يرتكب الإنسان ما يضرّ الآخرين ويتجاوز على حقوقهم بشكل حرفي وشامل.
ومن يتمكن من تقييد نفسه ومنعها عن محارم الله في شهر رمضان، فإنه يكون قد حقق أفضل الأعمال التي ترضي الله تعالى وتبارك في مسعى الصائم الذي يبتغي الرضوان الإلهي قبل أي شيء آخر، لذا من المهم جدا أن نتدبر هذه الملاحظة المهمة وندقق فيها، ونجعلها معيارا ودرجة لنجاحنا في هذا الشهر المبارك.
(من الخُطَب المشهورة التي رواها الإمام أمير المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وآله، والتي يسأل فيها الإمام عن أفضل الأعمال في هذا الشهر، فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وآله بأنها الورع عن محارم الله تعالى. فحريّ بنا أن نقرأها ونتدبر في معانيها ونعمل بها ما وسعنا، والله سبحانه وتعالى يعيننا على ذلك(.
إذاً فإن الصوم مراتب، وأعلاها، تلك التي تسمح للإنسان وتساعده على بلغ مرتبة الصيام الحقيقي، وليس صيام (الجوع والعطش)، بل الصوم عن المحارم، في تعامل الإنسان مع الآخرين، وفي كلامه معهم، وفي سلوكياته، بل حتى في نيّته يجب أن يكون سليما حتى يضمن مرتبة صوم عالية في هذا الشهر الكريم، ويقطف ثمار مسعاه المكلل بالنجاح بإذن الله تعالى.