مشروع الإصلاح النفسي
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2022-01-06 02:25
(ما دام ابن آدم حيّاً، فإنّ باب التوبة مشرع لديه).
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
مشروع الإصلاح النفسي يهدف إلى تصحيح مسيرة الإنسان، وعدم الإيغال في ارتكاب المحرّمات بكل أنواعها، وهذا لا يتحقق من دون إعلان التوبة، ليس كمفردة ينطقها اللسان وينتهي الأمر، بل يجب أن تقوم التوبة على الإيمان الراسخ بعدم التقرّب من الحريم، والسعي للتكفير عن المعاصي والأعمال الخاطئة التي ارتكبت فيما مضى.
إعلان التوبة يحتاج إلى مقومات، أولها القناعة بهذه الخطوة، بعد أن سار الإنسان في الطرق الأخرى الضارّة، وإذا توافرت القناعة بالتوبة، لابد أن تكون درجة إيمان الإنسان كبيرة وقوية، بحيث شجّعته وأهّلته لإعلان التوبة، والبدء بمشروع (الإصلاح النفسي)، وهذا ما يحتاجه جميع الناس في حياتهم، فحين يبقى الإنسان موغلا في المحرمات والانحرافات، فإنه سوف يخسر فرصا كثيرة للتوبة، لاسيما أن أبوابها مفتوحة له.
كل إنسان يمتلك العقل الراجح، والإرادة الصُلبة، يحتاج إلى وقفة حقيقية مع النفس، وكلما كانت مسؤوليات الإنسان كبيرة وحساسة، ومركزه الاجتماعي والديني والوظيفي أكبر، كانت حاجته للتوبة أكبر، لأن قرارات وأعمال المسؤول الكبير لا تتساوى من حيث التأثيرات مع الأقل مسؤولية، وإن كان الجميع يحتاج إلى تعديل مساراته المسيئة، لهذا يجب استثمار أي فرصة للتوبة على أن لا تقع ضمن إطار التباطؤ والتأجيل، كذلك يجب أن لا تخضع التوبة للتسويف والتكاسل، والعودة إلى المسارات الخاطئة مرة أخرى:
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يذكر في كتابه القيّم الموسوم بـ (يا أبا ذر):
(الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يقول: «إيّاك والتسويف» فلْيمتنع من يظنّ في نفسه العقل والإرادة عن التباطؤ في إعلان التوبة ومشروع الإصلاح النفسي).
الإنسان بطبيعته يأمل الكثير ويطمح بالوصول إلى ما يروم، ويطمع لكنز الأموال والأطيان، ويسقط في حبائل الاستحواذ حتى لكأنه باقٍ في الدنيا إلى الأبد، وأن الموت لا يدنو منه مطلقا، هكذا يظن ويشعر الإنسان الذي تأخذه خطايا البشر ويسيطر عليه الشيطان، فيكون التفكير بالتوبة أبعد القرارات عنه، بل هو لا يظن بأنه آثم حين يرتكب الانحراف والذنوب، وهذه مشكلة لا يكتشفها الإنسان وهو غاطس في بحيرة الحرام.
خطورة مجاراة الفساد الاجتماعي
البشر حين يضيع في دوامة مغريات الدنيا لا يرى عيوبها، ومن يكون في قلب المعركة لا ينتبه لكثير من فوضاها وأحداثها، كذلك الحال مع الإنسان حين يغطس في الانحراف، لا يرى انحرافه، ولا معاصيه ولا ذنوبه، إنما يظن أنها من الأعمال المشروعة، لاسيما حين يجرفه التيار العام في هذا الاتجاه، فالفساد إذا كان يحدث في البيئة الاجتماعية، من الصعب على الفرد أن يتخلص من مجاراة الفساد الاجتماعي.
لابد في هذه الحالة عن السبل التي تقي الناس من مثل هذا الاعتقاد أو الظن، فحين يكون الجميع أو الأغلبية خاطئين، هذا لا يعني أنه يسيرون في الاتجاه الصحيح، التفريق بين الصحيح والخطأ هنا، يجب أن يقوم على معايير القيم والأعراف والقوانين والفطرة البشرية، ولهذا يجب على الإنسان أن ينقذ نفسه من الانحراف بالاستعانة بوسائل وسبل عديدة.
منها على سبيل المثال أن يزور القبور بشكل دائم، كي يرى الآلاف من البشر وهم ينامون تحت طبقات الرمال، لا حول لهم ولا قوة، ولم تنفعهم أموالهم ولا ممتلكاتهم، ولا أبناءهم، لقد انطفأت شمعة حياتهم وانتهى الأمر، وباتوا بانتظار لحظات الحساب المكشوف، وتلقي النتائج التي لا يُستثنى منها أحد.
هؤلاء النائمون في القبور كانت لهم شخصيات مختلفة، وأهداف وأمنيات، ومنهم من له سلطات كبيرة، ونفوذ وجاه وأموال طائلة، لكنه حين أصبح تحت التراب فقد كل شيء، ولم تعد مكاسبه الدنيوية تحت تصرفه، ولا تعينه بشيء، الآن وهو تحت التراب ليس معه سوى أفعاله الصالحة، وتوبته النصوح إنْ كان من الذين أنقذوا أنفسهم بمسارعتهم إلى إعلان توبتهم، وأعلنوا قبل موتهم عن مشروعهم لإصلاح النفس، وترك الانحراف وانعكاساته المختلفة عليه، وعلى الناس الذين يعيش معهم.
ما فائدة أن تربح العالم وتخسر نفسك
كم من الحقوق تُنتهَك بارتكاب الحرام، وكم من البشر من تجاوز على حقوق غيره، دون أن يفكر بأنه يرتكب الحرام، وكل ما كان يعنيه هو الكسب والثراء حتى لو تحقق له من التجاوز على الآخرين وحقوقهم، يمكنك الآن إذا كنت قويا أن تفعل كل شيء، وأن تنتهك كل الحقوق محتميا بأموالك وقوتك وسلطتك، لكنك حين تصبح تحت تراب المقبرة، آنذا ستكون وحيدا فريدا، لا يقف معك سوى أعمالك!!
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(من المستحسن أن يزور الإنسان القبور، ليعلم أنّ أهلها نائمون تحت أكداس من التراب، وكان فيهم من هو أعلم وأذكى وأغنى وأقوى وأكثر ـ أو أقلّ ـ عمراً منه. فكلّ واحد منهم كان يمنّي نفسه بالعديد من الأماني، ولكن ما هي النهاية التي انتهى إليها؟ وهل حقّق جميع الموتى أمانيهم؟).
إذاً توبة الإنسان مقبولة عند الله في أية لحظة، ولكن لهذه التوبة شروطها، وأهم هذه الشروط أن تقع التوبة تحت فعل (التسويف) والإرجاء والمماطلة، وما على الفرد إلا أن يحسم أمره ويكفّر عن سيئاته، ويعلن بشجاعة وصدق وإخلاص وإيمان حقيقي، عن توبته الصادقة، وأن لا يرجئ ذلك بسبب ضغط المصالح والانتفاع من هذا المشروع أو ذاك.
فكل المشاريع خاسرة وغير رابحة إذا خسر الإنسان مشروع الإصلاح النفسي الخاص به، وهذا يكرنا بالقول ذائع الصيت (ما فائدة أن تربح العالم وتخسر نفسك)، بمعنى أن نفس الإنسان هي الكنز الأعظم له، وما عداه هو شيء عابر لا يساوي شعرة أو ذرة من (مشروع الإصلاح النفسي) الذي يجب على كل أن إنسان أن ينخرط فيه بجدية تامة ليقطف ثماره الناضجة، وهي كبيرة وكثيرة جدا، سواء في هذه الحياة أو في الدار الأخرى.
ليس صحيحا أن يسوّف الإنسان، ويؤجّل، بسبب ظنونه بأن حياته مستمرة إلى الأبد، أو أنه يجري الفاسدين والمنحرفين بمثل أفعالهم، وأنه لا يختلف عنهم، كلا هذا ليس تخريجا سليما للأمور، لأن الإنسان هو وحده المسؤول عن أفعالة وأقواله الصحيحة والخاطئة، (وكل نفس بما كسب رهينة)، ولا أحد يعلم متى ينتهي أجله، فليسارع الناس إلى اغتنام فرص التصحيح والتوبة والعودة إلى رحاب الله.
باب التوبة لن يُغلَق
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ الله تعالى يقبل التوبة من العبد حتى قبيل نظره إلى عالم الآخرة بلحظة، ولكن لا ينبغي التسويف في التوبة وإيكالها إلى الغد وما بعده، إذ ما هي الضمانة لديه في أن يبقى حيّاً إلى الغد؟ وهل الذين ماتوا كانوا يعلمون بموعد انقضاء آجالهم؟).
من أعظم ما منحه الله للبشر، أن أبواب التوابة مشرعه أمامه حين يقرر ذلك، وما عليه سوى أن يبادر اليوم قبل الغد بإعلان توبته، والشروع الفوري بإصلاح ما ارتكبه في الماضي من أخطاء ومعاصٍ، فهو قادر على ذلك، بالإرادة المتوفرة لديه، وبالعقل الرصين الذي وهبه الله تعالى له.
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين يقول: (ما دام ابن آدم حيّاً، فإنّ باب التوبة مشرع لديه، فيمكنه أن يصلح ماضيه ويضع نفسه في طريق السعادة والتكامل).
إذاً مشروع الإصلاح النفسي موقف يتخذه الإنسان بنفسه، ويجب أن يتم تحت ضغط القناعة بصحته، والإسراع بالبدء في هذا المشروع قبل أن تضيع الفرصة، أما النتائج التي سوف تتمخض عن مثل هذه الخطوة (إعلان التوبة) فهي كبيرة جدا، منها يعود على الإنسان نفسه، ومنها ما يعود على الآخرين، حين يقتدون به ويتوبون، فنكون في رحاب مجتمع فائز في الدنيا وما بعدها.