مَنْ أنتَ كي تظلم الناس؟
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ
2020-06-25 05:00
اللهاث وراء المال السراب، مشكلة الإنسان منذ أن وطأ الأرض، فما أن يقوى على الحركة، ويشتدّ عوده، يبدأ التفكير بالمال يستحوذ على هواجسه، هناك ضوابط ذاتية وخارجية تقمع خروج الإنسان على المقبول في تحصيله للمال، والرادع الذاتي هو الأفضل والأقوى والأسلم للإنسان، فهو يمنعه عن ركوب الأساليب المحرّمة ويجعله أكثر شعورا بالآخرين واحتراما لحقوقهم.
الطبيعة التكوينية للبشر فيها حافز الفوز بكل ما هو مفيد للإنسان، ومن أهمها الفوز بالمال، لكن هناك حدود يجب الالتزام بها، منها أن لا يكون ذلك على حساب الآخرين، وأن لا يمتطي الإنسان دابّة الحرام حتى يحصل على الأموال، فمثل هؤلاء ليس لديهم حدود، ولا يراعون الآخرين، وكل ما يهتمون به هو فوزهم بالمال بعيدا عن طريقة أو أسلوب الحصول عليه!!
ولكن هل فكّر من يلهث وراء المال الحرام بالعواقب الوخيمة التي تنتظره؟، إننا راحلون جميعا، (كل ما عليها فان)، وملاقون يوم الحساب شئنا أم أبينا، هذا هو ما ينبغي التفكير به، لاسيما بعد أن تهدأ النفوس والعيون، وينهي الإنسان شوطا كبيرا من عمره وتجربته في الحياة، من الغريب حقا أن لا يفكر بملاقاة الله بعد أن يبدأ العد التنازلي لعمرهِ، فيواصل ظلم الآخرين، وينسى أن مصيره لا يختلف عن مصير من سبقه من ذويه، أجداده وآباؤه وأقرباؤه.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيمة:
(إذا خلونا بأنفسنا خاصة إذا هدأت العيون، فليفكّر كلّ منّا مع نفسه ويقول: من أكون لكي أظلم أو أأوذي الناس أو أفعل المحرّمات؟ ثم إلى ماذا سيكون مصيري؟ وأين أبي وجدّي وأقربائي وأصدقائي الذين عاشرتهم ثم مضوا؟ فهل سأبقى أم سأرحل مثلما رحلوا؟).
لا شك أننا جميعا راحلون، لكنّ الجشع يعمي البصائر والعيون، ويؤجج الأطماع في النفوس، لاسيما عند أولئك الذين يتخذون من رغباتهم وهواهم إلهاً لهم، هؤلاء لا عاصم لهم، حيث تقودهم أنفسهم إلى التهلكة، ذلك لأن المهم عنده ذاته وشخصه ومصلحته، وما عدا ذلك فليذهب للجحيم!!
مثل هؤلاء الأشخاص يأتون الحياة ويغادرونها، وعيونهم مفتوحة على الحرام، وعقولهم ونفوسهم مجبولة على ظلم الآخرين، بل مثل هؤلاء يظنون أن احترامهم يأتي من مواصلة ظلمهم للآخرين، وسرقة حقوقهم، والاستحواذ على أموالهم وممتلكاتهم بالقوة أو الاحتيال أو السرقة، هؤلاء لا يخطر على بالهم أن هناك يوم حساب إلهيّ بانتظارهم، لكن هذا اليوم العصيب لهم بالمرصاد.
بعضهم يتّخذ من هواه إلهاً
حينها تذهب أموال الحرام أدراج الرياح، والاحترام يصبح لحظتها احتقارا واستصغارا، حتى طلبهم للرحمة وهم في سقر يأتي متأخرا، كما جاء في القرآن الكريم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. [المؤمنون 99 - 100]. فمن يوغل بإذلال الناس كي يوقّر ذاته سينتهي به المطاف إلى الذل والاحتقار.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك في قوله: إنّ (الذي يتّخذ هواه إلهاً فإنه يهتمّ لذاته قبل كل شيء, ولا يكترث إن عصى الله في هذا السبيل، فالمهم عنده توفير ذاته وتلبية رغباتها وتحقيق احترامها!).
مشكلة الإنسان تبقى في لبّها ماديّة بحتة، إلا من ربّى نفسه على احترام حقوق الآخرين، وحرص على إطعام أولاده وعائلته من كدٍّ حلال، فكلما ازداد الإنسان في تجاهله لأحكام الله، زادت رغبته في الحصول على الأموال بأية طريقة كانت، معتمدا في ذلك مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، وإن كان هذا المبدأ سياسيا ميكافيليا، لكن هناك من يستعين به حتى يحصل على المال!
بعضهم لا يتوانى عن اللهاث وراء مال وضيع، لا يستحق أن تبذل من أجله أيّ مجهود كان، لكن نفسه الوضيعة تدفع به نحو هذا المال القليل، ولن يتردد في ظلم الآخرين كي يحصل على غايته الوضيعة، وحين يُقال له بأن هذا الفعل الذي تقوم به لا يتوافق مع أحكام الله، ينظر إليها هازئا ويقول لك: هل هذا كل ما في الأمر؟!!
مستغربا ما تخبره به، إذ أن أمثال هؤلاء لا يخطر الحرام في بالهم، بل لا يعدّونه عقبة أمام الوصول إلى أي مبلغ من المال حتى لو كان وضيعا، فمن نفسه وضيعة يرى أقلّ الأثمان كبيرة، فيلهث وراءها حتى انقطاع الأنفاس، ساحقا في طريقه الكثير من الفقراء والمتعففين، فالمهم لدى هؤلاء الفوز بالمال، ولا يعنيه إن كان حراما أو حقا من حقوق الآخرين.
فرصة التصحيح لا تزال متاحة
هذا ما يحصل للأسف في عالم اليوم على مستويات مختلفة، فهناك مسؤولون لا يتورعون عن الكسب الحرام، وهناك أناس من مختلف الأصناف، لا يعنيه مفردة الحرام ولا يرى في أحكام الله موجبا أو رادعا يوقفه عند حده، ولا يثني هؤلاء عن اللهاث وراء المال حتى احتمالية عدم الحصول عليه، إنهم يتحركون وفق رغبات نفوسهم الضعيفة، ويغذون مبدأ السحت باحتمال ضعيف في الفوز بالمال الحرام.
مثل هؤلاء نجدهم في المجتمع، والكارثة حين يكون بعضهم مسؤولين وأصحاب قرار، وحين يهبط سلوك المسؤول إلى هذا المستوى، فهذا يعني أننا أمام مشكلة كبيرة ومعقدة لا يمكن حلّها إلا بإرجاع النفوس إلى صفائها، وتنقيتها من الأدران المادية التي تعلق بها بسبب الأطماع والجشع المنفلت في عصرنا المادي.
يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(هل نقيم لأحكام الله وزنا كما يقيم بعضنا للدرهم والدينار؟، إن بعض الناس لو سمع بوجود مال وضيع مرمي في مكان ما، بحث عنه وسعى للحصول عليه! ولكن إذا قيل له أن الشيء الفلاني حرام أجابك: هل هذا كل ما في الأمر؟. فهو لا يقيم وزنا لأحكام الله حتى بمقدار عشرة دنانير يركض خلفها ويبحث عنها حتى لمجرد احتمال حصوله عليها).
الغريب في الأمر، أن هنالك شخصيات بدأت طريقها بالشكل الصحيح، وتدرّجت في اعتلاء المراتب الجيدة، مرتبة بعد أخرى، حتى أنها كسبت احترام الناس وثقتهم، ولكن بعضها في آخر المطاف، وبعد رحلة النجاحات سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الدين، ينزلق للأسف في هاوية (النفس الضعيفة)، فيضيع ذلك التاريخ الناصع، ويتلطخ بالأدران، بعد أن كان نظيفا ونموذجا للآخرين.
لماذا يحدث ذلك لبعض الناس، لماذا هذا الضعف؟، لماذا ينسى بعضهم رحلته العصامية ونجاحاته، لينتهي إلى رجل ظالم، يفخر بمنصبه، ولا يعبأ بمظالم الناس وحقوقهم، هذا يدخل في باب (سوء العاقبة) التي لا يعصمنا منها إلا الله، الخلاص إذن هو أن لا ننسى الموت ونحن أحياء، وكلما ارتقينا في مرتبة أعلى يجب أن لا يغيب الموت عنّا.
مرة أخرى يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(أكُتب الموت والحساب للآخرين دوني أم كلنا ملاقٍ هذا المصير؟، هذا التفكير هو خلاصة مواعظ القرآن الكريم، وحقّاً إن من يصبح عنده وجداناً كهذا، أي يجد الشيء من نفسه، ويفكّر بهذه الصورة قد يستحيل أن يقدم على المعصية).
هناك من يبدأ حياته منحرفا، وقد يكون ظالما، لكن مع تقادم العمر تتوفر له أسباب التصحيح، ويعود إلى جادة الرشد، وهناك من يحدث معه العكس، يبدأ مستقيما، لكن المادة ومغريات الدنيا والمناصب تطيح به، هذان النوعان من البشر موجودان وينشطان في المجتمع، فرصة التصحيح متاحة لهما، عليهما التفكير بحتمية ملاقاة الموت، والإيمان بأن يوم الحساب بانتظارهما حتماً.