ناصْفَة مُجْتَمعٍ يَدُبُّ فِي غَفْلَةِ جالِيَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ
كريم المحروس
2018-05-30 04:15
"النّاصْفةُ" مَشهدٌ ثقافيٌ اجتماعيٌ حضاريٌ يَجْمع بَيْن مُرادين: مُراد إِحْياء مُناسبة النّصفِ مِنْ شهر رَمضان المُبارك بِفَرحة مَولد الإِمام الحَسَن صلواتُ الله عليه، ومُراد يَحمِلُ فِي نَفْسه صِبغةً تَربويّة إذْ يَقتْرب بِه جِيْلا الشّباب والطُّفولة بِقلبيْهِما ومَشاعرِهما إلىٰ مَعْنى إِحْياء ذِكرْى المَولِد الشّريف.
مَشْهدُ "النّاصْفَة" الشَّعائري الرآئع فِي المُسلمين الشِّيعة حيويٌ جدا بِالإعْتِبارات المَذْكورة فِي الرّوايات الشّريفة، ومِنْ غَيْر المُناسب اخْتِزال لَيْلتِه المُباركة فِي "مُحاضَرة" اسْتِعراضيّة باهِتة تُنكَّس لَها رُؤوس الأَجْيال الثّلاثة إمْتِثالا وتَسْليما حتَى يَنقْضِي أجلُ النّاصْفة.
رُبَما كان مُقامُ جِيل الكِبار المُوَقَّر بَيْن جِيْلَيّ الشّباب والطُفولة المُوَقِّر يُنْسي أنَّ الواقِع هو تَفاعُلٌ بِثلاثة أَجْيال فِي صُورة اجْتِماعية تكادُ تكون قائمةً على صِفة الإِحْسان لا بِشَرط التَّوازن بَيْن الحُقوق والواجبات. وأَنّ مِنْ حُسْن جَمال التَّشيّع رِعايتَه لِكلِّ جِيْل مِنْ الأجْيال الثَّلاثة فِي صُورة كُلِّية تَكامَليّة لا تَفاضُل فِيها ولا اسْتِثناء أو تَميْيز.. فِلماذا يُصِرُّ البَعضُ فِي هذا الواقِع التَّفاعُلي علىٰ جَعْل "النّاصْفة" مُناسبةً ذاتَ بُعْدٍ مُنْفرد إِذْ يَنْهض لِتَكْدِيس الأَجْيال الثّلاثة بَيْن جُدِر حُسَينية أوْ مَسْجد وَيُخْضِعها لِمَجْلس "مُحاضرة" يَتخَلَّلَه استِعراضٌ لِلمراتِب والمَقامات الإجْتِماعية بَتَعسُّف شَدِيد كاتِمٍ لِلأنْفاس ولا رِعايَة فِيه لِاخْتِلاف مُستويات الإدْراك ولِبَهجَة المُناسبة.
كَجالِيَات تَعِيش فِي العاصِمة البِريطانيّة عانى المُسلمون الشِّيعة مِنْ هذا المَشْهد المُقْرِف حيثُ جُعِلَت "النّاصْفة" رَهْنَ أَمْزِجَة جِيْل الكِبار وإِملْاءاتِهم فِي المَساجِد والحُسينيات والمَنْتديات الثّقافية، وَما كان علىٰ جِيْليّ الشّباب والأَطفال إِلّا الإِسْتِسلام لِلَيلةٍ كَئِيْبة فِي أَوَّلِها "مُحاضرة" وفِي آخِرِها عَشاءٌ مُميزٌ لا يَفِيان بِفَرحَة المَلابِس الجَدِيدة إِذْ تَعْقُبها خَيْبةُ آمال بِحِصار يَشْتَرط الإِصْغاء علىٰ رَأسِ مَمْنُوعات لا حَصْر لها.
هَذا المَشْهدُ يَتَكرّر دائما وكأنّ الإبْداعَ فِي تَنْظِيم شَعائر فَرْحَة النّاصفة بَيْن الجالِيات مُوصَدُ الأبْواب ثَقافيّا خُضوعا عِنْد مُبَرِر أَفاد أنّ الجَالِيات ليْست كالمُجتمعات، وَأنّها تَفْتَقد إلىٰ صِفَة الأَصالَة والتَّكامُل فِي بِيْئة طَبيعية مُسْتقرة ذات امْتِداد تَأرِيْخي، فَتَضِيق بِهذا النَّقْص فُسْحةُ الفَرحة فَوق ضِيْق مَساحَةِ الحَسْينيات والمَساجد، وَضِيق فُرَص التَّنوع فِي "الإِحْياء" اسْتِرضاء لِجِيْل الكِبار المُؤسِس الوافِد المُضْطّرِب بِيْن ثَقافَة بِلاد المَنشأ "الوَطَن" وَثَقافة بِلاد المَهْجَر.
إِحْياءُ الشّعائر فِي بِلاد المَهْجر يَخَتلف عَنْه فِي بِلاد المَنْشأ حيثُ يَسْتقر المُسلمون الشّيعة مُجْتمعات أَصِيلة مُتجذِّرة فِي بِيئتِها الإِجْتِماعية الطَّبيعية وامْتِدادها التَأريخي الثّقافي.. مُجْتمعات تَتَميز بِكِثرة المَساجِد والحُسينيات الشعبية المُؤيَدة بالأَوقاف. فلِماذا لا يُرفع الحِصار عنْ هذه الكَثْرة فَتُصبح قاعِدة لِبَث الإرشاد وفْق مَنهج تَكامُلي يَعنى بِالأجْيال الثّلاثة: الكِبار، الشّباب، الأَطْفال ..لِماذا تَبقْى هذه الكَثْرةُ حَكرْا علىٰ هَمِّ تَنْمِية ثَقافة جِيْل الكِبار وَوقْف الآمالِ علىٰ دَوْر مُمّيز لهُ فِي رِعاية مُباشِرة لِجِيْلي الشّباب والطُّفولة بالإنابة؟! .. لِماذا لا يُصار إلىٰ تَحْويل المَناطق كُلها بِمُناسَبة النّاصْفة إلىٰ مَسْرح مُفْتُوح لِتُعبّر فِيه الأجْيال الثّلاثة عَنْ فَرْحَتها بِما يُوقِّر النّاصفة وَيَرفَع مِنْ وَجاهة المُجتمع كُلّه؟.. لِماذا النُكوص علىٰ الأَعْقاب بِالحثِّ علىٰ تَعْطِيل دَور مَضايِف "النّاصْفة" فِي دَعْوة صَريْحة إلىٰ تَحْويل مُجَتمع أَصِيل مُتكامِل الثّقافة في مَوطِنه إلٰى حَركة ثَقافيّة قاصِرة لِجالِية تَدُبّ فِي بِلاد غُرْبة؟! .
إِنّ إحْياء الشّعائر فِي مُجَتمع أَصِيل يَتفاعَل ثَقَافيّا فِي موطنه يُمَثّل سِعةً فِي نِعْمَة تُفتَقد فِي أَوْساط الجالِيات في البلاد المستضيفة. فَلْنَحمد الله تعالىٰ علىٰ تَوافر هذه النِّعمة بَيْن مُجتمعاتِنا، وَلِنُسخِّرها لِصالح الأَجْيال الثّلاثة بإِحْسان.
كلُّ مُبررات تَضْييق شَعيرة "النّاصْفة" وَحَصرِها فِي مَجلس "مُحاضرة" مُغلقة علىٰ جِيْل الكِبار يُمثِّل تَقصيرا وتَراجُعا عنْ عادَةٍ اجْتِماعية ثَقافيّة "حَضارِيّة"رآئعة وَهَبت لِكُل جِيْل حَقه فِي "الإِحْياء" بِما يُناسِب إِدراك فئته العُمْرية. وإنّ التَّراخي فِي مُعالَجة مُنَغّصات "النّاصْفة" والعَجْز عنْ تَذلِيلها لا يُبُرّر الإِنْغِلاق فِي الحُسينيات والمَساجد على جيل واحد وتكديس الجيلين الآخرين بين جدر المجلس وسَدّ الأبْواب علىٰ "المَضايِف" التي تأويهما وتشاركهما الفرحة.
الوَقائِع السَّلبية المُنفِّرة الطارئة علىٰ وجوه شَعِيرة "النّاصْفة"كافة يُمكْن مُعالجتها كَحالٍ مُنْفردة وكدَلالة علٰى تَقْصير مهين مِمَّن شَأنِهِ الإِرْشاد التَّربوي. وإنّ ما نُحَقِّقه كَمُجتَمع شِيْعي مِنْ نُموّ وتَطوّر فِي النِّظام الشّعائري المَوروث لَهُو قابلٌ لِلتّفاعل مع طَبِيعة مُجتَمعنِا المُؤَلف مِنْ أَجْيال ثلاثَة مُنْسجِمة، وليْس فِيه مَحلٌ لِلمُساومة أَو التَّفريط. فَما كانَ عِندنا مِنْ مَوروث شَعائري فَهو يُوجب العَملَ علىٰ تَنْمِيته والإِبْداع فِيه والزِّيادة عليه بَعد تَجْريده مِنْ نَواقِصه وَتَحصِينه، فإنْ قَصُرنا عنْ ذلك فالعِلَّةُ فِينا!
إِنّ جِيل الكِبار مُحصّنٌ بِعقيدة وتَضحِيات الماضِين، لذلك يَعمد الأعداءُ إلىٰ نَصْب الفِخاخ الملتوية لِلإجهاز علٰى جِيْلي الشّباب والطُفولة عبر مَناهِج التَّعليم الإِلَزامي العام ودعايات أَجهزة الإعلام في غفلة من جيل الكبار. فَلِمَ هذه الأنانِيّة عِند الكِبار إِذْ يَشتركون مع عَدوهم فِي تَضْييق الحِصار علىٰ جِيلي شَبابهم وأَطفالهم فيَحرِمونهما مِنْ مَعاني فَرحة الشَّعائر!ِ
لَو طَلبنا مِنْ جِيْل الِكبار إخْلاء الحُسينيات والمَساجد لصاِلح جِيلي الشّباب والأطفال فتُحْيا فِيها فَرْحة "النّاصْفة" بِما يُناسِب سِنَّهما وإِدراكَهما الذِّهني، فَهَل يَسْجِيب جِيْل الكِبار فَيَجْعل مِنْ بُيوتِه سكنا لأَداء الأعْمال المُسْتحبة في المُناسبة.. إِنّه مُقترحٌ يَسْتحقّ التَّضحية!.. فالشّباب والأطفال أَولىٰ بِإحْياء النّاصْفة امْتِثالا لِلذّكرى، صِيانة لِعُقولهم وإثارة لدفائِنها، ولِلكبار مَنازلُهُم!