الصحة النفسية في عالم المظاهر والمثالية
د. جمانة جاسم الاسدي
2025-09-20 04:43
في عصر تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتشابك فيه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، أصبحت الصحة النفسية في صدارة التحديات التي تواجه الأفراد والمجتمعات، فالمظاهر البراقة التي تُعرض يوميًا على الشاشات، وصور المثالية التي تروَّج عبر المنصات الرقمية، خلقت واقعًا مغايرًا للحقيقة، يضغط على الإنسان ويستنزف طاقته النفسية، لقد باتت المقارنة المستمرة، والشعور بالنقص، والقلق المزمن سمات متكررة في حياتنا اليومية، وهو ما يجعل دراسة العلاقة بين الصحة النفسية وعالم المظاهر ضرورة ملحة.
أصبحت المثالية في العصر الحديث ليست مجرد رغبة شخصية، بل معيارًا اجتماعيًا مفروضًا، فمعايير الجمال والنجاح والسعادة لم تعد تنبع من التجارب الواقعية، بل من صور مُصممة بعناية ومفلترة لتظهر بلا عيوب. هذا الواقع جعل كثيرًا من الأفراد يسعون جاهدين للوصول إلى هذه النماذج المستحيلة، مما يولد ضغوطًا نفسية هائلة تؤثر في الثقة بالنفس وتزيد احتمالات الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب.
إن ثقافة المظاهر تُدخل الفرد في دوامة من المقارنات الاجتماعية غير العادلة، فحين يرى الشخص حياة الآخرين تبدو مثالية على الشاشات، يبدأ بالشعور بأن حياته تفتقر إلى الإنجاز أو المتعة، هذا الشعور يضاعفه السلوك الاستهلاكي المرتبط بالمظاهر، حيث يسعى كثيرون إلى شراء ما لا يحتاجونه أو عيش أنماط حياة فوق طاقتهم لمجاراة المثالية الاجتماعية، فيتحول الأمر إلى عبء نفسي ومالي في آن واحد.
الشباب هم الفئة الأكثر هشاشة أمام هذه الظاهرة، لكونهم في مرحلة بناء الهوية والسعي لإثبات الذات، الصور المتدفقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تفرض عليهم مقاييس قاسية للجمال والنجاح، وتجعلهم عرضة لمشاعر الإحباط أو القلق بشأن المستقبل، كما قد تؤدي هذه الضغوط إلى نتائج سلبية مثل العزلة الاجتماعية، اضطرابات الأكل، أو التعلق المفرط بالمظاهر على حساب القيم الحقيقية للحياة.
لمواجهة هذه التحديات، هناك حاجة إلى استراتيجيات واضحة لحماية الصحة النفسية، ومن أبرزها:
1. الوعي بالمصادر: إدراك أن كثيرًا من الصور المثالية مزيفة أو معدلة تقنيًا.
2. إدارة وقت الشاشة: تقليل ساعات استخدام وسائل التواصل، والتركيز على محتوى يبعث على الإيجابية.
3. الدعم الاجتماعي: التحدث مع الأصدقاء أو الأسرة أو المختصين حول الضغوط النفسية بدلًا من كبتها.
4. تعزيز القيم الداخلية: التركيز على الإنجاز الحقيقي، والتعلم، وبناء العلاقات الإنسانية العميقة بعيدًا عن المظاهر.
ختامًا- إن الصحة النفسية في عالم المظاهر والمثالية باتت رهينة لثقافة المقارنة والصور المصطنعة التي تفرض على الإنسان مقاييس بعيدة عن الواقع، غير أن الوعي والقدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم يمثلان خط الدفاع الأول لحماية الذات، فالإنسان لا تُقاس قيمته بمظهره أو بما يملكه، بل بما يحمله من قيم، وبما يقدمه من أثر حقيقي في حياته وحياة الآخرين، إن التوازن بين الاستفادة من العالم الرقمي والحفاظ على جوهر الإنسان هو السبيل نحو حياة أكثر صحة وسلامًا نفسيًا.