أسطورة التيار السائد

شبكة النبأ

2024-11-12 03:43

بقلم: ماركوس كولينز 

مطاردة السوق الشاملة اقتراحٌ خاسر للمسوِّقين في ثقافة مُستقطَبَة. أما التحالف مع الثقافة الفرعية التي تحبكم فأفضلُ طريقة لدفع نجاح العلامة التجارية.

على مدى سنواتٍ بدا ماكدونالدز يجسد كل ما هو خطأ في النظام الغذائي الأمريكي. أصبحت العلامة التجارية رمزاً للخيارات الغذائية التي كانت تؤدي إلى تصاعد معدلات السمنة وارتفاع ضغط الدم.

أمضت الشركة أكثر من عَقد في محاولة محاربة هذا التصور بين المستهلكين الأمريكيين من خلال استهدافهم برسائل حول قائمتها المحدثة، التي قدمت بدائل صحية أكثر انسجاماً مع اتجاهات النظام الغذائي المعاصرة – لكن من دون جدوى. عاماً بعد عام، انخفضت مبيعات ماكدونالدز، وتزايدت النظرة السلبية لعلامتها. 

أخيراً قررت الشركة المُضي قدُماً. بدلاً من محاربة كراهية المعارضة ومحاولة كسب من هم في الوسط، قررت ماكدونالدز التركيز على معجبيها – الأشخاص الذين يعرفون أنفسهم على أنهم من محبي ماكدونالدز على الرغم من النقد اللاذع الموجَّه إلى العلامة التجارية. وتضمنت تكتيكات الشركة إطلاق حملة الطلبات الشهيرة Famous Orders خاصتها، التي احتفلت بعناصر القائمة المفضلة لعشاق النجوم (مثل قطب الهيب هوب ترافيس سكوت ونجوم البوب الكوريين الأعضاء في فريق بي تي إس BTS)؛ وإنشاء وجبات سعيدة تستهدف البالغين؛ والترويج لقائمة المعجبين الخاصة بهم. 

من خلال الاضطلاع بذلك استفادت مما يحبه هؤلاء المُخلصون في ماكدونالدز، ولم تُنشط استهلاكَهم الجماعي فقط بل أيضاً ألهمتهم نشرَ الثناء نيابة عن العلامة التجارية. كانت نتيجة هذه الاستراتيجية زيادة بنسبة 10.4% في الإيرادات العالمية لماكدونالدز من العام 2018 إلى العام 2021، وعودة العملاء الخاملين: أكثر من ربع أولئك الذين جاؤوا لشراء وجبة ترافيس سكوت، مثلاً، لم يكونوا قد زاروا السلسلة منذ أكثر من سنة. على ما يبدو بين عشية وضحاها تحولت ماكدونالدز من كونها قصة تحذير إلى محبوب في تسويق العلامات التجارية ودراسة حالة لفاعلية الإعلان.

ما الذي يجري هنا؟ قد تخبرنا الحكمة التقليدية أنه في عالم يتزايد فيه استقطاب الآراء، فإن أفضل رهان لدينا هو استرضاء الوسط، فقط لأن هذا هو المكان الذي توجد فيه أغلبية السوق. يبدو هذا أيضاً رهاناً آمناً لعديد من الشركات، إذ من غير المرجح أن يؤدي الموقف في منتصف الطريق إلى تنفير العملاء المحتملين. لكن ماكدونالدز أظهرت ما يمكن أن يحدث عندما ترفض هذا النهج التقليدي. بدلاً من محاولة التحدث إلى السوق الشاملة، اختارت جانباً منها. اختارت احتضان الحب بدلا من ذلك، ومحاربة الكراهية، وتخلت عن فكرة إغراء وسط السوق الكبير لكن غير المبالي. بذلك نشَّطت جهود ماكدونالدز التسويقية عدداً كبيراً من المعجبين الذين لم يستهلكوا فحسب، بل جاؤوا أيضاً بآخرين. ما حققته ماكدونالدز هو درس مهم للمسوقين المعاصرين: إذا كنتم ترغبون في تحريك الجمهور، يجب عليكم اختيار جانب. ذلك أن فكرة أنكم يمكنكم الفوز من خلال اللعب بالوسطية هي أسطورة مضللة.

اختيار جانب

تتمثل الوظيفة الأساسية للتسويق في التأثير في الناس لتبني سلوك مطلوب. وهذا يعني أننا نذهب إلى السوق لجعل الناس يتحركون – للشراء، والتصويت، وإعادة التدوير، والاشتراك، والتنزيل، والمشاهدة، والتبشير، وارتداء كمامة – ولدفع مجموعة من النتائج السلوكية المرغوب فيها الأخرى التي ستفيد مؤسستنا أو مصالحنا. 

وما الذي يؤثر في الناس أكثر؟ حسناً، وفق ما نعرفه كله عن السلوك البشري، نتأثر أكثر بأشخاص آخرين – ليس الإعلانات، وليس القيم المقترحة، بل الآخرين. وبنمط أكثر تحديداً نحن أكثر تأثراً بناسنا: الأفراد الذين يلتزمون بالاتفاقيات والتوقعات الراسخة ثقافياً نفسها التي تُملي ما يعتبر سلوكاً مقبولاً لأشخاص مثلنا. وعادة ما يشترك هؤلاء الأفراد في نظرة متشابهة للعالم، ومن ثم يلتزمون بطريقة حياة مشتركة في محاولة لتعزيز التضامن الاجتماعي فيما بينهم – ثقافتهم الفرعية. إنهم يستهلكون الطريقة التي تستهلك بها الثقافة الفرعية، ويصوتون بالطريقة التي تصوت بها، ويتصرفون بالطريقة التي تتصرف بها، لأن هذا هو المتوقع من أشخاص مثلهم.

إذا كان هؤلاء الأشخاص ضدكم بسبب الاتفاقيات والتوقعات المشتركة لأشخاص مثلهم (ثقافتهم)، سيكون احتمال حثهم على اتخاذ إجراء نيابة عنكم ضئيلاً. هذا هو السبب في أن الجمهوريين اليمينيين لن يكلفوا أنفسهم عناء محاولة تحويل الديموقراطيين ذوي الميول اليسارية. بدلاً من ذلك يتحدث الجمهوريون إلى قاعدتهم – مجموعة من الأشخاص الذين يرون العالم بشكل مشابه، ويعبرون عن مجموعة مماثلة من الخصائص الثقافية مثل العلامة التجارية، وهم أكثر ميلاً إلى التحرك مع العلامة التجارية كعمل من أعمال التضامن الاجتماعي. يعرفون أنفسهم على أنهم أعضاء في هذه المجموعة ويتبعون معاييرها السلوكية.

من ناحية أخرى يكون أولئك الذين يعيشون في وسط الكتلة السكانية غير المنتسبين بطبيعتهم غير مبالين ويتجنبون المخاطرة. وفي حين أنهم قد يملكون آراء، هم يفتقرون إلى اقتناعات قوية في أي من الاتجاهين ومن ثم هم أقل عرضة لاتخاذ إجراء. في السياسة لا يصوتون في الانتخابات التمهيدية أو يشاركون في الحملات الانتخابية للمرشحين؛ بدلاً من ذلك يجلسون على الهامش وينتظرون ليروا كيف تتبلور الأمور. سلوكهم هو نفسه عندما يتعلق الأمر بالعلامات التجارية.

لا يتبنى الوسط منتجات جديدة بأي إلحاح. ليس الوسطيون أول من يستجيب للتواصل التسويقي، وليس من المحتمل أن يؤثروا في النقاش بين المدافعين والمنتقدين. إنهم يخففون من مخاطر خروجهم عن المسار مع ما يمكن اعتباره مقبولاً بوجه عام من خلال التراجع ومراقبة استجابات الآخرين أولاً.

الإشارة المضللة هي أننا ندرك هذه اللامبالاة كفرصة لإقناعهم بجانب أو آخر. لكن الحقيقة هي أنهم غير مقتنعين عادة بأي تواصل تسويقي. بدلاً من ذلك هم أيضاً يأخذون إشارات من أشخاص آخرين – أحياناً أولئك الذين يؤيدونك، وفي أوقات أخرى أولئك الذين يعارضونك.

مع وضع ذلك في الاعتبار يصبح من الواضح تماماً أنه في سيناريو الاستقطاب، تكون فرص المسوقين في جعل الناس يتحركون أكبرَ بكثير عندما ننشط مجموعة الراغبين بدلاً من محاولة إقناع المنتقدين أو حتى إقناع غير المبالين. ومع ذلك، تاريخياً، يركز المسوقون جهودهم على الوسط لأنه يمثل أكبر فرصة في السوق. وعلى الرغم من ذلك تزداد فرصنا في التأثير في السلوك بنجاح عندما نختار مخاطبة الأشخاص الذين من المرجح أن يتخذوا إجراء. عندما نفعل ذلك بنمط فاعل، نحفز تأثير الانتشار الذي يسبب تعميم المنتج أو السلوك أو الفكرة في أنحاء الكتلة السكانية كلها، وذلك بفضل عملية العدوى الاجتماعية – انتشار التأثيرات والسلوكيات والإدراك والرغبات بسبب تأثير الأقران المباشر أو غير المباشر في أشخاص ”مثلنا“.

قوة الانتشار

تتطلب فكرة الانتشار أن يترك المسوقون وراءهم النهج التقليدي المتمثل في استهداف الوسط، حيث تنتشر أغلبية الكتلة السكانية. إلى جانب كون الوصول إلى الوسط ذا فاعلية مشكوك فيها، كما نوقش أعلاه، هو يتطلب إنفاقاً إعلامياً مكلفاً (فكروا في إعلانات التلفزيون في وقت الذروة وإعلانات مباريات دوري كرة القدم الأمريكية سوبر باول)، ويضع الرسائل التسويقية في ساحة صاخبة ومشبعة بالرسائل المتنافسة. لا يولي المسوقون اهتماماً كبيراً للهامش، وهو كتلة سكانية تخبرنا الحكمة التقليدية بأنها صغيرة جداً ومتخصصة جداً. لكن كل ما هو سائد الآن بدأ ذات يوم على الهامش: بدأ داخل ثقافة فرعية، وانتشر ليصبح ثقافة شعبية.

مثلاً إذا كنتم مهتمين بالكتب المصورة قبل 20 سنة، لاعتُبِرتم مهووسين بها. وحالياً، مع ذلك، نشأ عديد من الأفلام الأكثر مشاهدة في أنحاء العالم كلها، مثل سلسلة آفنجرز (المنتقمين) Avengers من مارفل Marvel، من القصص المصورة. قبل 20 سنة، إذا كنتم من محبي ألعاب الفيديو، لاعتُبِرتم بالغين غير ناضجين. حالياً، لا تُعتبَر الألعاب رائعة فحسب، بل هي أيضاً صناعة ببلايين الدولارات. الواقع أن ما أصبح طبيعياً الآن كان هامشياً ذات يوم. وبفضل العدوى الاجتماعية تنتشر الخصائص الثقافية للمجتمع من الهامش إلى الوسط – من الثقافة الفرعية إلى الثقافة الشعبية. يحدث ذلك من الخارج إلى الداخل، وليس من الداخل إلى الخارج.

على عكس التواصل التسويقي التقليدي، لا يعتمد الوصول والتبني اللاحق الذي يُحقَّق من خلال هذا النوع من الانتشار على الأشخاص الذين يسمعون رسالة من شركة أو علامة تجارية. (هذا يساعد، لكنه ليس ضرورياً). بدلاً من ذلك يسمع الناس عن ذلك من شخص يثقون به –شخص مثلهم– ما يزيد من احتمال تبنيهم للمنتج. كما أكد عالما الشبكة نيكولاس كريستاكيس وجيمس فاولر، ”عندما تبدأ مجموعة صغيرة من الأشخاص في التصرف بنحو منسق – تظهر عليهم أعراض مرئية مماثلة – يمكن أن ينتشر الوباء على طول روابط الشبكات الاجتماعية عبر عدوى العاطفة ويمكن أن تصبح المجموعات الكبيرة متزامنة عاطفياً بسرعة“. هذا هو تأثير الشبكة الذي يُحفَّز عندما تُنشطون مجموعة الراغبين. لا تركزوا على الوسط: ركزوا على الأشخاص الذين يرون العالم بالطريقة التي ترونها أنتم. اختاروا جانباً، وسيقنعون المتفرجين، والسلبيين، وغير المبالين.

على الرغم من أن الرسائل العامة قد تجذب انتباهنا، فإن تأثير أشخاص مثلنا، والأشخاص الذين نتعرف عليهم، هو الذي يغير نظرتنا، ومن ثم سلوكياتنا. وهذا يوفر منظوراً جديداً، واستراتيجيات مقابلة، للمسوقين الذين يهدفون إلى التواصل مع المستهلكين في ثقافة يبدو فيها أن ثنائيات أيديولوجية تقسِّم السوق. كما فعلت ماكدونالدز يستفيد المسوقون من اختيار الجانب الذي من المرجح أن يتحرك، ومن ثم تنشيط أعضائه حتى يتمكنوا من تحويل الأشخاص نيابة عن العلامة التجارية. تُعتبر ممارسات الوضع الراهن الوسط رهاناً آمناً. ومع ذلك تفسد ديناميكيات الانتشار الثقافي هذه الممارسات الفضلى الطويلة المدى للتواصل مع المستهلكين والتأثير في تبني السلوك، وتطالب ممارسي اليوم بتطوير استراتيجيات جديدة وتكتيكات مصاحبة.

* ماركوس كولينز،أستاذ التسويق السريري في كلية روس للأعمال بجامعة ميشيغان والرئيس السابق للاستراتيجية في وايدين+كنيدي نيويورك. وهو مؤلف كتاب من أجل الثقافة: القوة الكامنة وراء ما نشتريه، وما نفعله، ومن نريد أن نكونه

** المصدر: مجلة إم آي تي سلون بالعربية

https://www.mitsloanar.com/

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي