دولة ضد مجتمعها

قراءة في كتاب (ثورة في العراق 1958-1963)

عبد الحميد الصائح

2020-07-13 08:45

(نقد تجربة الدولة العراقية في العهدين الملكي والجمهوري) عادةً ما تُرافق القارئ العراقي شحنة من عدم الثقة بالمعلومة التاريخية التي تتناول تاريخ العراق السياسي الحديث، ربما يبدو ذلك صفة عامة، لكنها رافقتني مع أي كتاب تناول هذه الفترة الحرجة؛ وقليلٌ جداً من كثير الكتب هذه أكملتُ قراءته حتى الغلافِ الأخير، ليس الأمر متعلقاً بانتقاء جانب من الحقيقة حسبْ، أو عملياتِ التجميل التي تَحفل بها المذكرات الشخصية، أو الشراسة العراقية المعتادة في مهاجمة الخصوم والغلو في إعلاء شأن الحلفاء، ليس ذلك فقط، بل هي حالُ الإنقسام التقليدية التي عرفت عن العراقيين حولَ كلِ شيء أنظمةً وروايات ورموزاً، انقسامٍ متطرف يعمي الأبصارَ عن قراءة الاحداث والتحولات وخَلفياتِ أبطالها بحياديةٍ ومنهجيةٍ وتحليلٍ متشعب الخواص، سياسي – نفسي – اقتصادي – اجتماعي وما الى ذلك من تصنيفات يحتمها البحثُ الرَصين .

إلى ذلك ظلت الكتاباتُ التي تحدثتْ عن الحكم الملكي والثورات والمواجهات التي شهدها حتى ثورة تموز 1958 ومالحقها؛ عبارةً عن مساجلاتٍ وميادينَ للإنحياز، توظِفُ المعلومةَ حسب هوى كاتبها وانتمائه والزاوية المحددة التي ينصب عندها مجساته وشباكه، وعلى الرغم من ان موقف الباحث واستناجاتِه بناءً على المقدماتِ والعينات التي يبحث فيها؛ أمرٌ مفروغٌ منه، لكنّ ذلكَ لايبيحُ التوظيفَ الصارخَ لصالحِ مُعاداة ِمَرحلةٍ دون أخرى.

الدولة والثورة

الهواجس الآنفة جميعها كانت حاضرة قبل البدء بقراءة كتاب الاستاذ جعفر الحسيني (ثورة في العراق 1958-1963 نقد تجربة الدولة العراقية في العهدين الملكي والجمهوري) من إصدارات دار الروسم – بغداد، لاسيما البيئة السياسية والتاريخية والإجتماعية التي عرضها وحللّها باسهاب وتفصيل حول واقع الحكم الملكي والإزدواجية التي حفل بها الأداء السياسي لأركانِه؛ وتغذيتهِ بمبرراتِ ماحدثَ لاحقاً من تذمرٍ منهُ وانقلاباتٍ عليه.

ويقيناً؛ أن تلك الهواجسَ كانتْ حاضرةً حتما مع الأستاذ الحسيني خلال مراحلِ البحث والتقصي والتوصلات النهائية ؛وهو يحاول بحَذرٍ وبراعة التحرر من الحُكم الكلي على المرحلة وأشخاصِها، وذلك بتفحص المبرر التاريخي و( الحدثي) لكل موقف سياسي أو تحول؛ سواء كانَ احتجاجاً عابراً أو فعلاً جدياً يُهدّدُ مصيرَ الدولةِ الناشئة، ويأتي ذلك من خلال استعراضِ تاريخِ العراق الحديث ودهاليزِ العائلة الحاكمة التي ذبَحَها العسكر مستغلين تراكم الأخطاء والإرتجال السياسي والقراراتِ الخارجية ِوالظروف الداخلية الضاغطة ِعلى الشعب العراقي؛ أو مفاصل الجيش والإدارة التي تسند ذلك العهد، فضلا عن إنصافِ ما يجب إنصافه لمؤشرات سياسية وأشخاص وقرارات، وهو ما يسري على ثورة تموز وقادتها فيما بعد.

مما يتيح للقاريء العراقي المعتاد على الغلو في التمجيد او التطرف في النقمة، مهما كان ميوله أن يجد ضالته في الكتاب لكنه لايجدها تامة كاملة، فيما يتوصل القاريء غير العربي الى منظومة متوازنة من التصنيف والبحث والتحليل والأسانيد والمصادر والإشارات التي تبدو مهملة تاريخيا، فضلا عن شجاعة الإستناد الى جميع وجهات النظر التي تصل حد التناقض في المؤلفات والروايات التي نسجت عن تلك المرحلة.

وهو ماجعل المؤلف محصنا الى حد ما من الاندفاع الى تسويق العواطف على حساب المواقف ونتائجها بإسلوب علمي منهجي أمين من الصعب مسك لجامه في دراسة مقدمات وحيثيات وآفاق ثورة الرابع عشر من تموز، التي لايمكن الحكم عليها دون دراسة الدوافع والاسباب والحتمية التارخية التي ادت اليها، وايضا نتائجها اللاحقة على الواقع المجتمعي والسياسي العراقي فيما بعد.

وعليه أن فشل الدولة العراقية في أنْ تكون دولة حديثة مستقلة تنمو بشكل طبيعي، يجعل جميع تلك المراحل خائبة وغير راشدة في بناء دولة، بل بقيت حسب تعبيرالكاتب الفرنسي بيير لويزار (دولة ضد مجتمعها) العبارة التي رسّخها المؤلف رغم تغير الأسباب ونمط النظام السياسي والمعسكرات الدولية التي كانت من المحركات الرئيسة لذلك، معللا في استنتاج حاسم منذ البداية الى أنّ توارث العقلية العثمانية لدى قادة الدولة الجديدة المنشأة بعد الحرب العالمية الأولى عسكريين ومدنيين يُعدّ من أبرز أسباب انتكاستها طويلةِ الأمد، وهو مايراه مُجَسّداً بالتفصيل في أمرين: (تداخل العلمانية بالطائفية)، و(انعدام ترسيخ تقاليد سياسية محترفة في الدولة) يتعاقب عليها قادتُها مهما تنوعت خلفياتهم السياسية ومشاريعهم ورؤاهم. وهو استنتاج مثير يصلح للقياسِ حتى يومنا هذا.

جينات الانتقام السياسي

يقسّم المؤلف السيد جعفر الحسيني كتابه (ثورة في العراق) الى ثلاثة اقسام، (اسباب سقوط العهد الملكي ) و( ثورة 14 تموز 1958) و( عهد عبد الكريم قاسم )، ولعل هذه العناوين التي تبدو فرعية في تاريخ العراق السياسي الحديث، أجملت بالتفصيل حيثيات تاسيس الدولة العراقية وسلوك قادتها باسلوب تفصيلي متسلسل غير منفعل، شخّص في الأول منها اسبابا شتى لانهيار الدولة الملكية، أبرزها الفقر والتمايز الاجتماعي.

واستشراء النفوذ البريطاني والفساد والتآمر وعدم الانتماء للأرض حيث تعدد الولاءات والاستبداد والإجهاز المستمر على المجتمع المدني، وانعدام الركائز السياسية للدولة لاسيما مع التناقضات ورؤى الأشخاص المتباينة وفي مقدمتها الإهمال المتعمد للجيش الذي أخذ يتفرج على سياسة مضطربة وشعب محتج على ذلك كله.

لكن الحسيني وهو يستعرض ذلك لايقف عند تشخيص هذه المرحلة حسب بل يرى أن هذه المؤشرات تسربت الى الثوار والأنظمة المضادة للحكم الملكي، وظلت العقلية العثمانية والغرور السياسي ولعبة التآمر والثارات الشخصية والتطلع الى السلطة بسحق رفاق الامس بمثابة جينات سياسية تنتقل من مرحلة سياسية الى أخرى حتى وإن كانت ثائرة عليها وسحلت في الشوارع الدامية اجسادهم الممزقة، مشيرا بالدلائل والحوادث الى الاستثمار الخارجي لهذه النزعة وهو مايستعرضه المؤلف في الفصل الثاني المخصص لثورة الرابع عشر من تموز.

محصِنا بحثه من أن تأخذه حادثة او معلومة او مذكرات على حين غرة دون سواها، فتراه في الوقت الذي ينتقد فيه ما اسماه ( دولة الضباط) التي استمرت من 1958-1968 ومحاولة العسكريين فيها الإستعانة بالأحزاب التي امتلأ بها البلد؛ واللعب على خلافاتهم وقواعدهم المتحمسة اثنى على التحولات الاجتماعية ومتغير المزاج الجماهيري الذي نتج عن ثورة 14 تموز وما أوجدته من متنفس للاختناق الجماهيري والانقلاب في القيم والمفاهيم والعادات والتقاليد التي حنّطها الحكم الملكي.

مثنياً على المبرّزين فيها لاسيما شخصية عبد الكريم قاسم حيث دافع ضد اتهامه بالشعوبية واثنى على الكثير من الانجازات التي حدثتْ في زمنه من عناية بالطبقات المهمشة الفقيرة وبناء الحواضر السكنية لهم والعفو المتكرر عن السجناء حتى أولئك الذين حاولوا اغتياله من البعثيين ودوره في حرب فلسطين 1948 وحفاظه على اللحمة العراقية لاسيما في وضع رموز العلم الذي اتخذه للثورة.

وكان احتفاؤه بالقادة الكرد والقومية الكردية التي تعلن للمرة الأولى قومية رئيسة وشريكة في الدولة العراقية قبل أنْ يشتعل التمرد في تلك المناطق ضد سلطته من المؤشرات التكوينية لجمهوريته وهو مايحمّل المؤلفُ تبعاته الى ذات الاضطراب البنيوي للدولة؛ مستشهدا برأي (حنا بطاطو) الذي يرى (ان الثورة بنسفها بنية السلطة القديمة والتركيبة الطبقية القديمة أخلت بالتوازن الدقيق القائم بين المجتمعات العرقية والطائفية المختلفة في العراق) حيث فشلت السلطة الجديدة في بناء دولة على انقاض الدولة التي حطموها على حد رأي المؤلف في صفحة ( 345.)، ساهم في ذلك ايضا تسرع قاسم وغروره وانفراده بقرارات كثيرة استفزازية وفردية غذت تمرد رفاقه وافسحت المجال للتدخلات الخارجية لتجعل من العراق ميدانا للتصفيات وساهمت في انتاج (دولة ضد مجتمعها) على مر المراحل المتعاقبة والانظمة المتحاربة.

(ثورة في العراق) كتاب يستعرض ويحلل بحرفية وإتقان وصبر أدق تفاصيل الإجتماعات والمساومات وغرف ودهاليز الحلقات التآمرية العامة والخاصة؛ الداخلية والخارجية؛ كذلك مواقف الأفراد والتكتلات في مناخ مدجج بالترقب والمغامرة والرعب، حصدها مؤلفه السيد جعفر الحسيني من أكثر من مئة وخمسين مصدراً تناول مراحل سياسية وثورات دامية في تاريخ العراق مازالت مبعث جدل وانقسام مجتمعي؛ تفعل فعلها في بِنية الدولة العراقية حتى يومنا هذا.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا