لماذا نحتاج إلى ثورة ثقافية؟
علي حسين عبيد
2020-07-08 08:41
ماذا يُقصَد بالثورة الثقافة، وقبلها ما هي الثقافة ومن هو المثقف وما دوره في تطوير العقلية الفردية والجمعية؟
الثورة الثقافية هي تلك الحركة الفكرية التي يطلقها قادة نخبويون مبدئيون هدفهم تغيير المرتكزات الثقافية التي لم تعد مناسبة للعصر، وليست لها القدرة على التغيير الديناميكي في المجتمع، وقد أطلق قادة ثقافيون ومفكرون ثورات كبرى على مر التاريخ، واستطاعت تلك الثورات تغيير المجتمعات من خلال التغيير الثقافي الذي يؤدي إلى استنبات قيم جديدة أو تطوير القيم السابقة وجعلها قادرة على نقل التفكير الجمعي بما يضمن سلوكا جمعيا يتناسب والثورات التكنولوجية الانفجارية.
الثقافة إذن ليست أقوال ولا هي كلمات ولا أشكال مظهرية، إنها قيم تتغلغل في روح المجتمع، وتؤثر في العقول، وتطور السلوك الأخلاقي، وتشجع استنهاض القيمة الجيدة واستنبات المفقود منها، مع نبذ متواصل للقيم التي يمررها أصحاب النفوس المريضة كي يطيحوا بالنسيج الاجتماعي، ويخلخلوا القيم الجيدة التي تضمن وحدة الرؤى وتنمّي الروح الأخلاقية والسلوك العقلاني المتوازن، وهذه الخطوات ليست في صالح المتلونين المتملقين المتربصين الذين لا تردعهم قيم ولا أخلاق بسبب إيمانهم القاطع بالفكر المادي الخالي من القيم الإنسانية النبيلة.
الثقافة الرصينة تمحو القيم الدخيلة
الثقافة بحسب متخصصين تدعم القيم الإنسانية، وتساعد على نشرها وترسيخها، هذا هدف أساسي من أهداف الثقافة، يجري وفق طرائق وأساليب ثقافية متعددة، قد تختلف في المسارات والإجراءات، لكنها تلتقي بالنتيجة، في دعمها للقيم التي تقلل من العادات والتقاليد والقيم غير الجيدة في المجتمع، ومن المعروف أن المثقف أداة الثقافة، من خلال فكره وإبداعه ونشاطه في ميادين متعددة أيضا، إذ لابد من دحض الفكرة التي تقول أو تؤكد على أن المثقف إنسان يختلف عن الآخرين، ويعلو بمستواه عليهم.
من هنا نجد أن معظم المثقفين العرب ينظر إلى نفسه على أنه مختلف، وأن الثقافة محصورة به وأنه لا يتشابه مع الآخرين، لذلك عليه أن ينعزل في برج عال!! هذه النظرة خاطئة بطبيعة الحال، المثقف الجيد، هو إنسان يتميز بقدرته على التأثير في الآخرين، وهذه السمة او الميزة، تتطلب أن يكون المثقف مثل غيره، من حيث الانسجام والتناغم وإقامة العلاقات الاجتماعية الناجحة، حتى يكون مؤثرا بفكره على الجميع، لاسيما في هذه المرحلة التي ينظر إليها المراقبون على أنها نقطة تحول في تاريخ المجتمعات العربية.
العراقيون لا يختلفون عن الآخرين، إنهم يحتاجون إلى ثقافة نقية، ومثقفين لا ينزّهون أنفسهم بأنفسهم، فمن ينزّهك هو الآخرون وليس أنت الذي تنزّه نفسك، كما أن الثقافة لا تعني الكتابة ولباقة اللفظ والشكل الظاهري المختلف، الثقافة تعني الجميع، وهي منظومة سلوك جمعي، والمثقف بحسب غرامشي هو جزء مهم من المجتمع ولا يختلف عن الآخرين بشيء، إنه المثقف العضوي الفاعل وهذا ما يحتاجه العراقيون اليوم.
بالطبع توجد مشكلات وعقبات كبرى في هذه المرحلة الصعبة التي يحاول أن يتخطاها العراقيون والدولة العراقية بأقل الخسائر، هناك مخاطر واضحة تتعرض لها منظومة القيم، إذ نلاحظ وفود وظهور قيم خطيرة تحاول أن تزرع نفسها بين أوساط المجتمع العراقي، وقد اشرنا لهذا الأمر في مقالات سابقة، من هذه القيم ما يشكل خطرا جديا على المنظومة الأخلاقية والعرفية التي يؤمن بها المجتمع العراقي، كون معظمها يتجذّر منذ مئات السنين في المجتمع، حيث تنتقل هذه المنظومة من جيل الى جيل، مع الحفاظ عليها وإضافة ما يدعمها، ولكن ظهرت مجموعة من القيم تحاول أن تزعزع البناء القيمي للمجتمع، منها على سبيل المثال قبول الخطأ على انه حالة طبيعية او قيمة مقبولة مثل (تمرير الرشوة) على انها هدية، والاختلاس والتجاوز على المال العام، بأنه (شطارة) لبناء وتكوين الحاضر والمستقبل للأفراد، مثل هذه الظواهر والقيم لم تكن موجودة في المجتمع العراقي، لماذا تغلغلت الآن في نسيجه؟ ومن هو المسؤول عن ذلك؟
لابد من إطلاق مبادرات ثقافية مائزة
المثقف هنا يتحمل جانبا من المسؤولية في هذا المجال، لذا هناك عجز في الثقافة والمثقفين للقيام بدورهم في تعزيز القيم الأصيلة ونشرها وتثبيتها أكثر فأكثر داخل الأوساط الاجتماعية المختلفة، التي تنعكس على الحركات السياسية وغيرها، فعندما يظهر سياسيون فاشلون أنانيون، هذا دليل على أن الحاضنة الاجتماعية فاشلة، وفشل هذه الحاضنة يعود الى فشل منظومة القيم، وفشل هذه المنظومة يعود الى فشل الثقافة والمثقفين في القيام بدورهم كما يجب، وهو أمر لا يمكن نفيه أو إنكاره، إذا توخينا الدقة وقررنا وضع النقاط على الحروف.
من هنا لابد من بوادر تعزز القيم، تتبناها الثقافة، ويخطط لها المثقفون، وتنفذها المؤسسات والمنظمات المعنية، وفق خطط دقيقة، من حيث الأفكار والإجراءات، فقضية تعزيز القيم لا يمكن أن تكون في الهامش، ولا يصح الانشغال بالشكليات وترك الأهم مما يحتاجه المجتمع، كي يحافظ على نسيجه ومزاياه، لذا ليس أمام المثقفين سوى التصدي الفاعل لهذه القضية، ليشترك الجميع في وضع السبل والآليات التي تسهم في الوصول الى هذا الهدف.
ربما يتحجج بعضهم، أن الثقافة غير معنية بالأخلاق!، وقد يذهب بعضهم الى نبذ القضية الرسالية للمثقف والثقافة، فهناك من أعلن انه غير معني بالقيم ولا الأخلاق، مدعيا أن مهمته إبداعية بحتة، لكننا نظن غير ذلك، وندعو أن تتصدى الثقافة لكل القيم الدخيلة التي تحاول خلخلة البناء المجتمعي، وتسعى لبث سموم خبيثة على شكل قيم وافدة لا تتسق مع التكوين القيمي (الأخلاقي الديني العرفي)، لمجتمعنا، لذا يتوجّب أن التنبيه على هذا الأمر، والشروع الثقافي (ثقافة ومثقفين)، لتعزيز وإطلاق المبادرات الهادفة الى حفظ القيم وحمايتها، ونشرها بالوسائل المتاحة، ونبذ ما هو دخيل منها.
خلاصة القول، نحن نحتاج إلى ثورة ثقافية من خلاب تصميم وتحريك مبادرات ثقافية فعالية ومستمرة، تتداخل مع النسيج المجتمعي، وتنفتح على جميع العقول، وترتقي بها إلى مستوى يضمن التفكير السليم المتوازن، القادر على مواكبة مستجدات العصر، بهذا النوع من العقول يمكننا بلوغ مرتبة متقدمة من التغيير، والثقافة هي المهماز المتحرك الفاعل الذي يمكنه فتح الطريق لنا كي نلتحق بالبلدان المتقدمة، يتم هذا عبر التخطيط العلمي المتخصص مع إطلاق مبادرات ثقافية لتطوير العقل الجمعي.