في حضرة الرجل الحكيم
عبد الامير المجر
2023-06-06 05:52
قررت أن أذهب إليه، بعد أن سمعت عنه قصصاً متناشزة وغريبة .. وواقعية أيضاً! .. البعض يقول إنه فيلسوف، أصيب بالجنون وهو في منتصف مشواره الدراسي فصار ينطق بالحكمة، والبعض الآخر يقول؛ إن هذه إشاعة بثها هو ليحظى بعطف الآخرين، فيما قال آخرون إنه ساحر ودجال يخدع الناس بما يسميها نصائح، ليحل مشاكلهم.. شخصياً كان فضولي لمعرفة هذا الشخص أكثر من رغبتي في الحصول منه على نصيحة، بعد أن ضقت بالناس وكرهت نفسي بسبب كثرة ما يسمعوني عن بعضهم من أقاويل وما أسمع عن نفسي على ألسنتهم..!
لم يتحدث معي طويلاً .. حتى ظننت أن أحداً أخبره بما أعاني، وما أن جلست قربه ونظر في وجهي، قال؛ أمامك جولتان .. هززت رأسي بالموافقة، وأردف هو؛ تحدثني بعد عودتك من كل جولة عما رأيت من دون زيادة أو نقصان ..! قلت نعم .. كان هذا الحوار بعد أن جعلني طويلاً جداً، حيث مرر يده على رأسي وأنا جالس، ثم قال؛ انهض .. نهضت ووجدت نفسي بطول عشرة أمتار تقريباً ... وأشار لي أن أخرج لأتجول بين الناس وأعود إليه بصيدي من تجوالي ..
كنت مندهشاً وأنا أقف، إذ بدا الأشخاص القريبون مني أصغر من حجومهم بكثير، وصرت لا أرى أكثر الناس وأنا اسير في الشارع موجهاً بصري إلى الأمام، فيما كان رأسي هادئاً وأشعر بشيء من الزهو، على الرغم من إن أحداً لم يلفت انتباهه طولي، ولم تنظر لي الناس بغرابة .. مرّ وقت غير قصير، تجولت خلاله في الأسواق وجلست في المقاهي، ودخلت أماكن عامة كثيرة، ووجدت كل هذا على غير ما كنت أراه سابقاً.. وكان هذا حافزي على التجوال أكثر، إذ عدت مساءً إلى الرجل او إلى مجلسه الذي لم اجد فيه الكثير من الناس حين دخلت عليه .. لكني شعرت ببعض الحرج حين قال لي تحدث عن رحلتك!.
مسحت وجهي من بعض العرق، لكنه وقبل أن أتحدث إليه، قال ستكون رحلتك القادمة صعبة بعض الشيء، وأردف؛ هل أنت مستعد؟! كنت قد قلت له أشعر اليوم بأني مرتاح كثيراً، لكنه قال؛ لابد من أن تعرف سبب الراحة لتتعلم أكثر! .. وحين مدّ يده الى رأسي شعرت بأن كل ما حولي كبير وصرت أسمع أصواتاً كثيرة تدوي في أذنيّ .. حاولت أن أعتذر لكنه لم يسمع صوتي، أو إنه تجاهل سماعه وقال لي انطلق الآن! .. كنت أسير في الشارع وأنا بطول شبر أو أقل ربما.. الغريب هو إن أحداً لم ينتبه لي أيضاً.. لكني صرت أرى أشياء كثيرة جداً وأسمع أصواتاً غريبة وكثيرة ومتداخلة.
كنت أشم روائح الجوارب وأتطلع من أسفل ملابس الناس الذين لم يروني، فأرى أشياءهم الداخلية، أشكال اقدامهم النحيفة والسمينة وأنفذ ببصري إلى ما بين أفخاذهم، وإلى مؤخراتهم التي صرت أسمع أصواتاً تخرج منها وكذلك روائح كريهة .. وأيضاً أخذت أرى كائنات كثيرة بأشكال لم أنتبه لها سابقاً، تسابق خطو الناس، سلاحف وقنافذ وصراصر وأشكال مختلفة من عضايات وأفاعٍ مختلفة الأحجام .. حتى صرت كما لو أني أشاركها حياتها من دون أن تنتبه لوجودي هي الأخرى .. دوي الأسواق والشتائم التي يطلقها البعض على البعض الآخر بأصوات خافتة، كانت تدخل أذنيّ وأسمعها بوضوح حتى شعرت بالتخمة من أشكال الشتائم والسباب .. بعدما شعرت بالإعياء من فرط ما سمعت وشممت، رغبت بالعودة إلى الرجل الحكيم لكي يعيدني إلى وضعي الطبيعي.
حين دخلت لم أجده. فأصبت بالفزع وخشيت أن يكون قد حصل له ما يمنع عودته اليوم .. لكني وجدت رجلاً كبيراً في الزاوية البعيدة من المجلس .. كان يدخن وينظر في الفراغ .. ثم بادرني بالقول؛ لا أعتقد أنه سيعود ..!! شعرت بالخوف حقا.. وقلت؛ وماذا أفعل بحالي الذي لن يعود الاّ بواسطته.. ! ضحك الرجل ووقف وكإنه يهم بالمغادرة .. ثم قال؛ هل تريد أن تعود الى وضعك السابق؟ قلت وبلهفة؛ نعم، واردفت؛ هل تريدني أن أبقى بطول دون الشبر كل حياتي ..؟! قال؛ أنت الآن بطولك الطبيعي .. صرخت كيف ...؟! ردّ عليّ وهو يغادر المكان .. هل كنت طويلاً حين مدّد جسمك لتكون بطول عشرة أمتار؟ قلت له؛ نعم .. ضحك وقال؛ لو نظرت الى المرآة وأنت تغادر المجلس لأدركت أنك لم تزدد طولاً ولم تنقص! .. قلت وأنا أرتجف؛ والأشياء التي رايتها في الحالتين ..؟
نظر لي بعينين خالطهما بعض الحزن .. إنها موجودة في رأسك ولو أدركتها من قبل لما جئت الى هنا .. خرجت من المكان وأنا أتلفت .. سألت أحد الناس القريبين مني .. متى يعود الرجل الحكيم إلى مجلسه ... نظر لي باستغراب وقال؛ عن أي رجل حكيم تتحدث؟ .. لا وجود لمجلس هنا .. لقد كنت تتحدث مع مجنون وقد غادر المكان بعد أن أخذ قنينة ماء وبعض الطعام وغادر الى مقبرة المدينة التي يسكنها منذ سنين ..!