لِمَ اتخذ بعض الأدباء موقفا معاديا لكرة القدم؟
من جورج أورويل إلى أمبرتو إيكو..
الجزيرة
2022-12-14 06:16
بقلم: آية ممدوح
"لا بد أنك مشهور جدا يا سيدي"، كان هذا هو ما قاله الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس متحدثا إلى سيزار لويس مينوتي مدرب كرة القدم الأرجنتيني الذي كان قد فاز بكأس العالم في العام نفسه -عام 1978-، وبينما ترددت إجابة مينوتي وهو يهمس "بعض الشيء" و"نعم"، أكمل بورخيس كلامه قائلا: "لأن مساعدي طلب مني توقيعك". (1)
لم يكن الأمر مصادفة، وبورخيس لم يكن فقط يتجاهل كرة القدم، فلطالما كان الروائي الذي يُعَدُّ أحد أشهر كُتَّاب الأدب الإسباني ألدّ أعداء كرة القدم، حتى إنه في مباراة نهائي كأس العالم 1978 التي أُقيمت في العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيرس، بين الأرجنتين وهولندا، وفي أجواء يمكن تخيل صخبها في المدينة التي تترقب الحدث، كان مُصِرا على إقامة ندوة حول "الخلود" في التوقيت ذاته؛ ليمتلئ الملعب عن آخره، وتمتلئ مكتبته أيضا، كان الرجل يقاوم ذلك الولع بكرة القدم ويرسم حدا فاصلا بين المثقفين وهؤلاء الذين انجرفوا إلى تشجيع الكرة على كثرتهم، "لأن الغباء شائع" كما يفسر بنفسه تلك الجماهيرية التي تحظى بها الكرة.
بين بعض الكُتَّاب والمفكرين تُعَدُّ الكرة عدوا لأسباب مختلفة، إنها متهمة بينهم بالتسبب في الاغتراب والعدوانية، وهي أسوأ طريقة للترويج للقوميات، في المقابل، يراها بعضهم "الساحرة المستديرة" التي تمهد بحركتها طريقا نحو عالم موحد، الكاتب الأوروغوياني إدواردو جاليانو مثلا يضع مع بداية كأس العالم كل أربع سنوات لافتة على باب منزله تقول: "مغلق لكرة القدم" (Cerrado por fútbol). هذا يخبرنا أن الكتاب العظماء في الغالب إما مشجعون متعصبون، وإما أعداء ألداء للكرة، فلماذا اتخذت كرة القدم هذا المكان بين الأدباء والكُتَّاب؟ وهل مصدر إلهام وولع أو عدو يستحق الكراهية؟ (2)
هذا لأنه "لا شيء أكثر شعبية من الغباء"
إنها حقا مفارقة أن يكون أكبر أعدائها كاتبا أرجنتينيا هو خورخي لويس بورخيس، الذي وصفها بازدراء بأنها "شيء إنجليزي غبي"، ولم يُبالِ بالشعبية الكاسحة لكرة القدم في العالم كله وفي بلده خاصة، فقد فسَّر هذه الشعبية ببساطة بأنه "لا شيء أكثر شعبية من الغباء"، قائلا إن هناك أحد عشر لاعبا يركضون خلف الكرة، دون أن يعبأ بمراجعة الأمر ليعلم أن حارس المرمى لا يركض، إنه التجاهل الشديد الذي جعله يجهل أبسط قواعد اللعبة، ثم يكمل ساخرا: "ليست بهذه الروعة، مصارعة الديوك أجمل بكثير". (3)
أما عن السبب وراء هذا الازدراء فقد صرَّح الكاتب أنها تثير أسوأ المشاعر، وتستدعي فكرة السيادة والسلطة بشكل رآه مروعا، الجماهير لا تهتم بمشاهدة رياضة جميلة بقدر ما تهتم بالمكسب والخسارة، وهذا أكثر ما أزعجه، يتساءل هل حدث وأشادت الجماهير بذلك الصبح الجميل الذي شاهدوا فيه مباراة رائعة رغم خسارة فريقهم؟
لكن بورخيس قال ذات مرة إنه لم يشاهد كرة القدم في حياته، مفسِّرا ذلك بالقول: "أولا لأنني شبه أعمى، وثانيا لأنها قطعة من الملل"، وثالثا، كما أكمل بورخيس، فلأن "الأشخاص الذين يحضرونها لا يذهبون لمشاهدة اللعبة نفسها، ولكن فقط لرؤية فريقهم يفوز".
هناك واقعة طريفة يرويها بورخيس في هذا الصدد. في ذات يوم، ذهب الروائي الشهير إلى الملعب بصحبة الكاتب الأورجوياني إنريكي أموريم لحضور مباراة بين الأرجنتين وأوروغواي، وكلاهما لم يكن مهتما في الحقيقة، بعد مرور بعض الوقت همّا بالمغادرة، ليخبرهما بعض الحضور أن المباراة لم تنتهِ، لقد انتهى الشوط الأول فقط، لكنهما مضيا على أية حال، بينما أخبره أموريم أنه يتمنى لو تفوز الأرجنتين لكي يراه سعيدا، فأخبره بورخيس أنه أيضا تمنى لو تفوز الأوروغواي، ولم يعرف الرجلان نتيجة المباراة مطلقا، لكن بورخيس روى لاحقا كيف كانت هذه المرة كافية ليعرف موقفه من كرة القدم، ومن الإنجليز الذين وضعوا قواعدها المعروفة اليوم، لقد اعتبرها إحدى جرائمهم. (4)
إنها حرب دون رصاص
في إنجلترا كان هناك مَن يتفق مع بورخيس، لم يقتنع الروائي البريطاني جورج أورويل بوجود روح رياضية تلف أرجاء الملعب الأخضر، بل إنه تحت العنوان ذاته، "الروح الرياضية"، كتب مقالا يوضح أن طبيعة التنافس الذي يميز اللعبة يتحوَّل ما إن تُستحضر الروح الوطنية إلى شعور بالحنق، يُصدِّق الجمهور ولو لفترة من الزمن أن الركض وركل الكرة معيار لقياس الفضيلة القومية، ويؤكد أورويل أن كرة القدم أسوأ من غيرها في هذا الصدد بسبب إصابات اللاعبين.
’’ أستغرب دائما حينما أستمع إلى ما يُقال عن إن الرياضة تخلق نِيّات حسنة بين الأمم، جورج أورويل ’’
في ديسمبر/كانون الأول عام 1945، بدأت جولة رسمية لفريق كرة قدم سوفيتي في بريطانيا، في محاولة لتوظيف الكرة في تهدئة حِدَّة الأجواء المتوترة بين البلدين، لعب الفريق أربع مباريات مع فرق مختلفة وحقق فيها جميعا الفوز، لم يتقبل آلاف المشجعين في المدرجات هذه النتائج، وبعد مغادرة الفريق كتب جورج أورويل في جريدة تريبيون مقاله الذي قال فيه إنه بعد الزيارة صار بالإمكان الحديث علنا عما قاله الكثيرون سِرا؛ وهو أن الرياضة سبب دائم للضغينة والكراهية، والزيارة لن تضيف إلى العلاقات السوفيتية الإنجليزية إلا مزيدا من العداء.
’’ حالما تحضر قضية الوجاهة وتشعر أنك -ومعك كيان أكبر- مُعرَّض لـ«الخزي» حال الخسارة، تستيقظ داخلك أكثر الغرائز القتالية وحشي-جورج أورويل ’’
رصد أوريل مظاهر توتر في المباريات تحدثت عنه الصحف الإنجليزية، وأشار إلى اختلاف توجهات الصحفيين -السوفييت والبريطانيين- في الكتابة عن المباريات وتشكيل الفرق، واعتبره أورويل جدلا سيستمر لسنوات، ورأى فيها حربا دون رصاص، ليس بسبب اللاعبين وإنما بسبب موقف الجمهور.
وعموما كان أورويل يرصد هذا الهوس بالكرة في إنجلترا، لكن ما أقلقه حقا كانت هي المشاعر الأكثر "شراسة" التي يتبنَّاها عاشقو الكرة في "بلدان شابة" مثل الهند وبورما، حسب وصفه، حيث تتطلب إقامة مباريات كرة القدم وجود وحدات قوية من رجال الشرطة لمنع الحشود من اقتحام الملعب، مشيرا إلى أن روح التنافس القوية حين تظهر يختفي مبدأ اللعب النظيف، وترغب الجماهير في رؤية أحد الجانبين متوجا والآخر مهزوما.
رأى أورويل أن هناك من أسباب الخلاف ما يكفي، وأننا لسنا بحاجة إلى زيادتها عبر "بعض الشباب" الذين يركلون سيقان البعض الآخر على أنغام صيحات الجماهير الغاضبة، وببساطة كان يؤكد أنه إذا كان لا بد من إرسال فريق بريطانيا لمنافسة السوفييت، فيمكن إرسال فريق من الدرجة الثانية التي لا شك في خسارتها ولا داعي لاعتبارها ممثلا عن بريطانيا كلها. (5)
أفيون الشعوب.. إنه عصر القدم
بدوره، لدى الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو أسباب متعددة للعداوة مع الكرة، فهو يتفق مع مقولة إنها "أفيون الشعوب"، ويقول إنه يحترم الرياضة لكن ما يؤرقه هو الاستبداد المعنوي الذي تتعرض له تلك الفئة التي تكتفي بالمشاهدة ويُفرض عليها "نسيان أجسامها، لتعجب بأجسام أقلية"، يرى إيكو في كرة القدم طريقةً لإلهاء الناس عن الحياة الاجتماعية والسياسية، هذه الملايين تبدد طاقات كان الأجدر توظيفها في حل مشكلات مثل إدارة الاقتصاد، هذا ما يقوله المثقفون اليساريون عموما عن العمال "المُنوَّمين بالكرة". (6)
يشرح إيكو وجهة نظره ببساطة، لا يعتقد الرجل أن كرة القدم مؤامرة، لكنه كان يرى أن وجود مليارات البشر يتطلب أن تكون هناك قنوات أخرى تُوجَّه إليها الطاقات السياسية، وأنه سيكون من المزعج أن يشترك الجميع في الحياة العامة، وهكذا وُجِّهت هذه الطاقات إلى الرياضة. (7)
’’ لا أكره كرة القدم؛ أكره المولعين بها-أمبرتو إيكو ’’
في كتابه "كيفية السفر مع سلمون"، يقدم إيكو رؤية نقدية مغلفة بسخرية لاذعة من محبي كرة القدم وطريقتهم في إقحام الحديث عنها في أي حوار مهما أبديت لهم عدم اهتمامك، وفي مطلع حديثه عن "كيفية عدم الحديث عن كرة القدم" يؤكد أنه يؤمن بفضائلها النبيلة، وقد يتابع إحدى المباريات باهتمام لكن في المنزل، بعيدا عن صخب المولعين بها. (8)
هذا نفسه ما أشار إليه الكاتب والشاعر البريطاني روديارد كبلنغ حين سخر من الجماهير أو من "الأرواح الصغيرة التي ترتوي برؤية الحمقى الذين يلعبون الكرة" على حد وصفه. وبحسب إدواردو غاليانو، يُعبِّر إيكو عن رأي فئة كبيرة من المثقفين ممن يرون أن "عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب، فالغوغاء المُصابة بمسّ كرة القدم تفكِّر بأقدامها". (9)
كان هذا تحديدا ما أسِف له الكاتب المصري توفيق الحكيم قبل عقود حين بدأ يلاحظ صعود نجم لاعبي كرة القدم والمبالغ الضخمة التي يتقاضونها، فحين علم أن أحد النوادي اشترى لاعبا بمبلغ ثلاثة ملايين جنيه، كتب يقول: "جميع الذين أمسكوا قلما منذ أيام الكاتب المصري -جالس القرفصاء- لم يتقاضوا مثل هذا المبلغ، لقد ذهب عصر القلم وجاء عصر القدم". (10)
في أسباب المحبة
كان يَعتبر كرة القدم إلى جانب المسرح أعظم جامعتين، وكانت كرة القدم هي الأقرب إليه. (مواقع التواصل الاجتماعي)
لكن العداء لم يكن موقف جميع الأدباء الذين اهتموا بكرة القدم. فعلى الجانب الآخر هناك الذين عشقوا الكرة ورأوا فيها الكثير مما لم تلتقطه أعين الكارهين، تُفسِّر كتابات الفيلسوف والكاتب المسرحي الفرنسي ألبير كامو -الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1957- أسباب المحبة، فقد كان يَعتبر كرة القدم إلى جانب المسرح أعظم جامعتين، وكانت كرة القدم هي الأقرب إليه، وحين سُئل ذات مرة أي شيء أحـب إليك؛ كرة القدم أو المسرح؟ رد كامو دون تردد: كرة القدم، لقد رأى كامو أن الوطن هو فريق كرة القدم الذي اخترت تشجيعه. (11)
والحقيقة فلقد نزل كامو في أول حياته إلى الملعب ليكون ضمن فريق كرة القدم، اللاعب رقم واحد، حارس المرمى، قبل أن يضطر إلى التخلي عن لعب الكرة في سن السابعة عشرة بعد إصابته بالسل، ليفقد فريقه رياضيا واعدا ويكسب العالم كاتبا استثنائيا، لكن ظلت بقيت الدروس التي تعلمها في الملعب حاضرة في كتاباته وجزءا لا يُنسى من خبراته.
حمل كامو الرقم واحد وكان الأكثر وحدة بالفعل، في الملعب كان هو ذلك الفرد المنعزل الذي تقيده ضوابط أخرى أكثر من باقي الفريق، إذا سجل فريقه أهدافا فهو يعرف أنه لا علاقة له بالأمر، وإذا سجل الخصم هدفا فهو قطعا خطؤه، لأنه حارس المرمى، كان كامو يتأمل كثيرا في طبيعة اللعبة واقترابها من الحياة، قال عن الفترة التي قضاها في المرمى: "تعلمت أن الكرة لا تأتي أبدا عندما تتوقعها". (12)
’’ لقد ساعدني ذلك كثيرا في الحياة، خاصة في المدن الكبيرة حيث لا يكون الناس كما يدّعون-ألبير كامو ’’
الشاعر الفلسطيني محمود درويش كذلك كان من المولعين بالكرة، رأى أنها تروي "عطـش الحاجــة إلــى بطـل نصفــق لــه، ندعــو لـــه، ونخـاف عليـه وعلـى أملنـا فيـه مــن الانكســار"، ورأى فيها أحد حقوقنا. في "ذاكرة النسيان" يكتب درويش عن حقنا في أن نحب كرة القدم، وأن نشاهد المباراة ونخرج قليلا من "روتين الموت"، ويكتب وقت حصار بيروت كيف "استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة في أحد الملاجئ، وسرعان ما نقلنا باولو روسي (لاعب كرة القدم الإيطالي السابق) إلى ما ليس فينا من فرح"، ويتساءل: "ما هذا الجنون الساحر القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟". (13)
’’ وكرة القدم هي التي حققت المعجزة خلف الحصار حين بثَّت الحركة في شارع حسبناه مات من الخوف ومن الضجر-محمود درويش ’’
مشجعون أوفياء
أما الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا فكان وجها معروفا في مدرجات الجماهير، وفي كأس العالم عام 1982 الذي أُقيم في إسبانيا كان يركض بين الملاعب ليسجل بقلمه أحداث المباريات ويرسلها إلى الصحف، وقد تحدث عن هذا ضاحكا عندما فاز بجائزة نوبل عام 2010.
ظل فارغاس يوسا مشجعا متحمسا للكرة، يهوى متابعة المباريات في الملاعب، ويحمل الأعلام وينضم إلى آلاف المشجعين في المباريات، ويرى في اللعبة مصدر إبداع، وأشار إليها في أعماله فقال: "يمكن أن تكون المباراة رواية، لأن لها بداية وتطور ولحظات عاطفية مع نهايات سعيدة ومأساوية في بعض الأحيان". (14)