صبي الاشارة الضوئية
اسماء محمد مصطفى
2019-05-08 08:06
اعتدتُ يومياً، أن امسح زجاج مقدمة السيارة الفارهة التي تمر بهذا التقاطع المروري، وأن أتأمل ذلك الفتى الوسيم الذي يجلس على المقعد الامامي الى جانب السائق الأنيق.
لم يقل الفتى عنه اناقة. حقيبته جميلة جدا. يغيرها كل شهر تقريبا.
بعد ان انتهي من تلميع الزجاج اناول السائق صحيفة، واحصل على رزقي لقاءها ولقاء تنظيف الزجاج.
كل صباح تملأ قلبي الامنية نفسها..أن أجلس مكان ذلك الفتى، وأعانق الحقيبة الجلدية الجميلة، وابتسم من وراء الزجاج.
*****
اعتدتُ يومياً، أن أمرَّ بهذا التقاطع، وأرى هذا الصبي الشاحب يمسح زجاج السيارة، ووالدي يسحب من جيبه ألف دينار، وأحيانا اكثر بقليل، ليضعها في يد الصبي قبل ان يوميء لنا شرطي المرور بالانطلاق بعد اصابة الاشارة الضوئية بالعطب منذ وقت طويل.
ما ان تنطلق السيارة حتى أجرّ الصحيفة من يد والدي، واتصفحها على عجل، وأسمع صوت والدي يتناغم الى سمعي:
لا تشغل رأسك بغير دروسك، اريدك متفوقاً دائماً.. اعطني التفوق مثلما اعطيك كل ما تريد.
انا احصل عادة على ما أريد، حاسوب، اشتراك بشبكة الأنترنت.. هاتف نقال بأحدث طراز.. ستلايت خاص بي اشاهد من خلاله قنوات الرسوم المتحركة.. العاب الكترونية مختلفة.. انا اريد.. انا اريد.. واريد.. ترى، ماذا اريد ايضا؟!
*****
اعتدتُ يومياً أن اقلَّ ولدي الجميل الى المدرسة قبل ذهابي لشركتي.
كلما رأيت ذلك الصبي البالي الثياب ينظف زجاج سيارتي، احمد الله، لأنّ ولدي ليس مضطراً ليكون بين (اولاد الشوارع) ، والدته تلبسه افخر الثياب وتطعمه اجود الاطعمة، وأنا لا أبخل عليه بشيء. هو سعيد جداً معنا.
*****
اعتاد صبي الاشارة الضوئية تحمل قسوة الشمس ووجع المطر. لم يسأله احد.. ماذا يريد؟ وحده كان يسأل المارين بسياراتهم الفارهة: أتريدون صحيفة..؟ أتريدون ان أنظف لكم السيارة؟
الفتى المدلل اعتاد مراقبة حركات صبي الاشارة وهي تمسح الزجاج.
ذات صباح، حينما كان الزحام على أشده، اخرج الفتى رأسه من نافذة السيارة، وقال للصبي:
- انا أحسدك.
- اندهش الصبي، وظل صامتاً.
استمر الفتى يقول:
- انت حر.. اما انا، فلا يُسمَح لي بالذهاب الى المدرسة وحدي، او لعب الكرة في الشارع مع الأولاد.
ثم أردف: هل قرأت قصة (الأمير والفقير) ؟!
كلا، عاد الفتى يسأله: ألم تشاهدها في فيلم كارتوني؟
النفي، كان جواب الصبي ايضا، لكنه استدرك:
- لم يكن لدي وقت لأشاهد التلفاز يوما ًمن الايام. ثم ان تلفازنا معطل.
في الصباح التالي، وحينما تسلم الصبي أجرة عمله من الوالد، ناوله الفتى كتيباً صغيراً، وهو يقول:
- خذ.. هذه قصة (الأمير والفقير)
أخذ الصبي الكتيب بفرح غامر، هذه هي المرة الاولى التي يمنحه شخص غريب شيئاً بلا مقابل.
أنشغل الصبي بعمله المعتاد طوال النهار، حتى اذا مازحف الليل على جبهة السماء، حمل الصبي ما رزقه الله به الى والدته واخوته الصغار. حاول مقاومة الانهاك، ليقرأ القصة.
أقترب الفجر، ولم يكن الصبي قد أنهى القراءة، اذ انه بطيء التهجي، لقد ترك المدرسة مبكراً جداً.
حين بزغ الفجر، استسلم الصبي للنوم.
*****
انه صباح آخر، لكنه ماطر بارد، لم أشبع نوماً، كما لم احصل على دينار واحد حتى الآن، لا احد يريد شراء صحيفة او تنظيف زجاجه المبلل!
لكن كالمعتاد توقفت قربي السيارة الفارهة، بيد أنً الفتى الجميل نزل منها وسألني غير آبهٍ بالمطر:
- هل قرأتها ؟
- نعم ، لكنني لم أنهها.
قال لي: اسمع..اريد القيام بمغامرة. اعطني الصحف وهذه الخرقة، واصعد الى السيارة.
فعلت ما طلبه مني بلا تردد او تفكير، وحده الشيطان يرفض الجنة.
اتخذت مكان الفتى في السيارة، ومسحت على وجه الحقيبة باصابعي الخشنة الباردة، نظرت الى الوالد الجديد الذي لم أحظَ َبه، لكنني شعرت بالخجل حينما ادركت انني بللت المقعد بثيابي، ولوثت الحقيبة بذرات الغبار الندية العالقة باصابعي.
*****
هذه هي المرة الاولى التي اشعر بحريتي، سافتقد هاتفي وحاسوبي وألعابي، وكذلك مدرستي، ورفاقي، غير انني ساقضي نهاري في الهواء الطلق وتحت المطر. لن تكون امي هنا، لتضع المظلة فوق رأسي.
*****
الآن، سأعرف كيف يعيش الآخرون.. سأتقافز كما يحلو لي.. ها انا امسح زجاج هذه السيارة. السائق ينهر بي ويقول انني ازيد من اتساخ الزجاج! وأما الصحف فلا يشتريها احد مني، لأنني وضعتها فوق رأسي، فتبللت تماما.
*****
شاهد بعض الصبية في الشارع الفتى الانيق حائراً، فقرروا مضايقته، اقتربوا منه.. تحلقوا حوله ، وهم ينظرون الى ثيابه وحذائه كأنه من كوكب آخر. ضرب احدهم صدر الفتى قائلا: افرغ ما في جيوبك ايها المخنث.
اخرج الفتى ما يملكه من مال، وأعطاهم اياه ، لكن صبياً ثانياً طلبَ منه نزع حذائه ،وثالثاً قال له: وكذلك سترتك الغالية هذه.
وضع الفتى في ايديهم ما أرادوا، فغادروه بعد أن رموا عليه بعض الطين البليل والملوث بالمياه الآسنة. استمروا يضحكون حتى غابوا عن عينيه، وهم يتقافزون ويضربون المياه الآسنة باقدامهم، بينما سالت على خدي الفتى قطرات من الدمع المختلط بالمطر.
*****
شعر الصبي بمتعة فائقة وهو جالس في السيارة، لم يكن يتوقع، وهو ينظف زجاج نوافذ السيارة ويتفحص دواخلها من الخارج، انه سيقتحم تلك الدواخل، ويستمتع هكذا.
سمع صوت الوالد الثري يقول له: هيا أنزل.. وصلت الى المدرسة.
ترجل الصبي من السيارة.. بينه وبين المدرسة بضع خطوات. ثمة ايادٍ قاسية سحبته من طريقه وألقته في صندوق معتم. عبثاً حاول الوالد المصدوم اتباع سيارة الخاطفين.. اطلقوا الرصاص على اطارات سيارته، وكذلك اصابت رصاصة الحقيبة الجلدية الجميلة التي كانت ملقاة على الطريق امام باب المدرسة.
*****
هذا صباح جديد، لكنه ليس كالأصبح التي مرّت بي..انهم يطلبون كذا دفتر من الدولارات لقاء اطلاق سراح الصبي !!انهم يريدون مبلغاًخيالياً.. ماذا أفعل؟!
ابلاغ الشرطة يعني نهاية الولد.. قلب امه- زوجتي- يتفطر، وكذلك قلبي.اذن، عليّ بيع كل ما أملك لقاء سلامته.
نظر الوالد الى المقعد الذي بجانب مقعده.. انتبه الى ذرات التراب المطبوعة على المقعد.. قال:
انه ليس ولدي.. ولدي انيق ولطيف.. كيف صعد هذا الرث الى سيارتي؟! لماذا ابيع كل شيء من اجل طفل شوارع ؟!
رنّ الهاتف النقال في السيارة. ضغط الرجل على الزر.. جاءه صوت خشن يطالبه بتسليم المال في موعد محدد، لكن الرجل رد عليه بقسوة ممزوجة بالسخرية:
- لا مال لكم عندي.
قال الصوت الخشن بانفعال حاد:
- لكننا، سنقتل الولد ايها الاحمق.
ردّ عليهم ببرود اعصاب:
- أقتلوه.
اغلق الرجل هاتفه، وأخذ يبحث عن ولده الضائع..
*****
عند الاشارة الضوئية المُطفأة، جلس الفتى المدلل تحت المطر يبكي بحرقة وقد آلمَهُ الخوف والجوع، حتى قفز من مكانه وهو يرى سيارة والده تقف عنده.. ارتمى على مقعده وهو يعطس وقال:
- أبي، انا خائف.. خائف جدا.
ظل الفتى يردد.. خائف جدا.. قبل ان يستفيق من نومه على المقعد في ذلك الصباح الماطر، بينما يد والده تربت على كتفه، وصوته يدعوه للهدوء قائلا له:
- لم تسمع كلامي ليلة أمس، فسهرت. والنتيجة انك نمت في السيارة.
احتضن الفتى حقيبته الجلدية الجميلة التي بدت صقيلة كالمرآة. نظر الى سترته وحذائه اللماع، وقال: اريد استعادة كتيب (الامير والفقير)، لأحرقه.. انها قصة مرعبة.
*****
بقي صوت الرجل الأجش.. اقتلوه.. اقتلوه.. يدق في رأس صبي الاشارة الضوئية حتى استفاق، ووجد نفسه عند الاشارة مبللاً والصحف بالمطر، ادرك انه لم يعمل اليوم، ولم يكسب شيئاً.
تحسس جيبه، فوجد كتيب الأمير والفقير ملفوفاً بخرقته، حمل الكتيب الى احدى المكتبات القريبة، وباعه بثمن شطيرة، وراح يقضمها بنهم. لقد كان جائعاً جداً.