الأسطرة في العقل العربي
قراءة في أحدث نموذجين
عريب الرنتاوي
2021-05-11 03:51
سنتوقف في هذه المقالة، أمام شخصيتين إشكاليتين، ملأت أخبارهما الأرض والفضاء، لعدة سنوات، سيما في الأسابيع الأخيرة، واحدة في الأردن، وبها ارتبطت أخبار "الفتنة" غير المسبوقة، التي ضربت البلاد مؤخراً ووضعت الأردن في بؤرة اهتمام الصحافة والإعلام والسياسة الإقليمية والعالمية... والثانية في فلسطين، وبها ارتبطت أخبار الصراع على السلطة والرئاسة، وأنباء التدخلات الخارجية في الساحة الفلسطينية، امتداداً لأدوار "إشكالية" بدأت في الهزيع الأخير لعهد ياسر عرفات، وتفاقمت في زمن محمود عباس، وكانت من بين عوامل أخرى، سبباً في تعطيل جديد للانتخابات الفلسطينية، المعطلة منذ أزيد من عشر سنوات.
يجادل كاتب هذه السطور، بأن باسم عوض الله ومحمد دحلان، حظيا بقدر كبير من "الأسطرة"، ونسب إليهما ما لا يحتملان، ولا قِبَلَ لهما به أو عليه... ومعاذ الله أن يكون هدف هذه المقالة، تبرئة أحدهما أو كليهما، فهما يتحملان قدراً كبيراً من المسؤولية عن "الخراب" الذي لحق بالنظام الاقتصادي الأردني، والنظام السياسي الفلسطيني، لكن الهدف من استحضار تجربة الرجلين، هو تسليط الضوء على جنوح "العقل السياسي العربي "نحو "الأسطرة"، وهو ميلٌ "تاريخي" على أية حال، ولا يمكن القول بأنه حديث وناشئ.
لـ"الأسطرة" جذور في الفكر السياسي العربي، مستمدة من بنيته الأبوية والقبلية، ومتكئة على مفاهيم "السمع والطاعة" و"البيعة" و"عدم الخروج على ولي الأمر" و"المستبد العادل"، وشيوع ظاهرة "هجاء البطانة الفاسدة"، وتبرئة الحاكم، حتى أننا في صلواتنا نكثر من الدعاء لحكامنا بأن يرزقهم الله، "البطانة الصالحة"، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتّباعا، وأن يريهم الباطل باطلاً، ويرزقهم اجتنابا... لا قيمة لـ"الرعية" ولا دور لها، لا في اختيار الحاكم ولا في تصويب مساراته... مسموح لنا أن نهجو البطانة، حتى وإن كنّا على يقين، بأن من جلبها إلى "بلاط" الملك أو الرئيس، هو الحاكم نفسه... وفي الدساتير الحديثة، يعاد صياغة الأحكام المتقادمة تلك، بلغة حداثية، تبرئ الحاكم من المسؤولية حتى عن قراراته الخطية، وتلقي بها على أكتاف رجال البطانة والحاشية، أياً كانت مواقعهم ومسمياتهم.
جديد ظاهرة "الأسطرة" في الحالتين الأردنية والفلسطينية، أمران: الأول؛ أنها تركزت حول صورة "البطل السلبي" بعد أن طغت عليها لعقود وقرون، صورة "البطل الإيجابي"... والثاني؛ أنها جعلت من شخصيات متواضعة في إرثها وموروثها، وبالأخص كارزميتها"، موضوعاً لـ"الأسطرة"، ربما انسجاماً مع حالة "التهافت" و"الخواء" التي يمر بها العالم العربي، وسقوط "السياسة" و"المؤسسة" و"النخب" في أكثر الامتحانات خطورة وحيوية، التي مرت، وتمر بها، أقطار عدة، من بينها الأردن وفلسطين، سواء بسواء.
في تاريخنا العربي المعاصر، جرت "أسطرة" شخصيات عديدة، وتنميطها في صورة "البطل الإيجابي"، عبد الناصر في مصر، وبورقيبة في تونس، وصدام حسين في العراق، والملك فيصل في السعودية، وغيرهم كثر، وفي الأردن جرت "أسطرة" الملك حسين، وبدرجة أقل، وصفي التل وهزاع المجالي وسليمان النابلسي، وفي فلسطين، تمحورت "الأسطرة" حول شخصية الراحل ياسر عرفات، وتوقفت عنده، وعند حفنة من جيل "الآباء المؤسسين" للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وإن بدرجة أقل من "التفخيم" و"التعظيم"...الشخصيات المذكورة جميعها، حملت ملامح صورة "البطل الإيجابي"، ومن أحاط بهم من مساعدين عسكريين وأمنيين وسياسيين واقتصاديين، حُمّلوا وزر كل الأخطاء والخطايا التي ميزت حقبهم ومراحلهم، وبأقدار متفاوتة بالطبع، وبمستوى أعلى أو أدنى من الضجيج والتركيز الإعلامي (تجربة الحقبة الناصرية في مصر، غنية بالأمثلة عمّا نريد قوله، ولا مجال للاستزادة).
في السنوات العشر الأخيرة، غابت صور "الملائكة" و"الأبطال الإيجابيين" عن مخرجات "العقل السياسي العربي"، لتحل محلها صور "الشياطين" و"الأبطال السلبيين"، ولم يعد الحاكم محصناً "فوق النقد" كما كان عليه الأمر من قبل... لكن ذلك، لم يمنع من تركيز سهام النقد و"الشيطنة" الأشد مضاءً، على شخصيات القصور الملكية والرئاسية، بوصفها مسؤولة، أكثر من غيرها، وبدلاً عن غيرها، عن "الخراب المقيم" في سياسات هذه الدول واقتصاداتها، فكانت بمثابة "أكياس ملاكمة" يستعملها المتدربون الغاضبون والهواة، لتفريغ طاقاتهم، وليس لاكتساب مهارات جديدة، فـ"الكيس" مهما بلغت "جودته"، لا يمنح مهارةً لأحد... البعض يفضل القول بأن هذه الشخصيات، بدأت تأخذ دور "أكباش الفداء"، والحقيقة أنها لا أكباش، ولا يمكن للآلهة أن تقبل بها كـ "فداءً" عن الأخطاء والخطايا، فـ"كبش الفداء" في تاريخ الديانات السماوية والوضعية، يستبطن معاني "البراءة" و"التضحية"، في حين أن "أكباشنا" التي نتحدث عنها، أكلت الزرع وجففت الضرع، وهي إن تمت التضحية بها، فعقاباً لها على ارتكاباتها، مع أنها ليست وحدها، من المرتكبين.
"الأسطرة" في السياق الأردني
ربما نكون استطردنا بأكثر مما ينبغي في التقديم للتجربتين الأردنية والفلسطينية في "الأسطرة"، وربما نكون قد وضعنا المسألة في سياقها الأوسع، توخياً لتوفير فهم أعمق وأدق للظاهرة... لكن ما ينسب لباسم عوض الله، ابن البلاط الملكي الأردني ورئيسه، ورجل البلاط في السعودية (رسمياً) وفي الإمارات Informal، الوزير العابر للحكومات والبرلمانات، من أنه مسؤول عن "الخراب الاقتصادي" و"بيع مقدرات البلاد والعباد"، و"تعميم الفساد والإفساد"، و"إضعاف الحكومات والمؤسسات"، وصولاً للتآمر بقصد إثارة الفتنة، وزعزعة الأمن والاستقرار، وتغيير النظام، يدفعنا للتساؤل: كيف أمكن لرجل واحد، أن يتولى أدوار "البطولة المنفردة" في هذا المسلسل الطويل، وكيف أمكن لرجل جاء من خارج "المصادر التقليدية" لإنتاج النخب في الأردن، أن يصبح بذاته، مصدراً لإنتاج نخبٍ على صورته وشاكلته؟... هل هي مسؤولية عوض الله أم مسؤولية الـ“System”، الذي فتح له كافة الأبواب على مصاريعها؟...هل كان عوض الله يصدر عن مواقف ومصالح خاصة به، ويعمل لحسابه، أم أنه كان ناطقاً باسم الـ “System” المذكور، عاملاً لحسابه ولحساب الغير في الوقت ذاته؟
باسم عوض الله، شاب ذكي، طموح، نشيط، مبادر، متعلم جيداً في أحسن الجامعات، من أسرة متواضعة، استُدعيّ إلى مؤسسات الدولة كموظف، سيلمع نجمه لاحقاً، هبط على هذه المؤسسات الخارجة من أسوأ أزماتها الاقتصادية (1989)، المنهكة بالترهل والمحسوبيات، تنامى دوره في لحظة استثنائية: انتقال العرش وبداية المملكة الرابعة، لم يكن مُنشئاً للخيارات الكبرى للدولة الأردنية، لا سياسياً ولا اقتصادياً... برامج التصحيح الاقتصادي في الأردن بدأت في العشر الأواخر من المملكة الثالثة، وقبل أن "يتأسطر" باسم عوض الله، والخصخصة بدأت قبل "عهده" في الحكومة والديوان، وهو مؤمن بالليبرالية الاقتصادية ومناهض لليبرالية السياسية، موقفه عدائي من "الإسلام السياسي"، وأكبر خلاف دار بيني وبينه، أعقب فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية، إذ كان من المراهنين و"العاملين" على ألا يستمر حكمها للقطاع لأكثر من ستة أشهر، وبعض منتقديه اليوم، لاشك يستذكرون ذاك النقاش مع رئيس الديوان في "ديوانه".
قلنا إنه ليس مُنشئاً لأي من الخيارات الكبرى للدولة الأردنية، بل محفزاً ومسرعاً لتلك الخيارات، كان بمثابة "بلدوزر" يشق الطريق بسرعة فائقة لاستكمال التحولات في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الأردنية، في حين كان من سبقه، يعتمد الأدوات البدائية لشق الطرق وتعبيدها، وقد كنت وغيري شهوداً على احتشاد كبار المسؤولين، ومن مختلف المواقع والمؤسسات، السياسية والاقتصادية، الاجتماعية والبيروقراطية، الأمنية والعسكرية، وهو يتقدم الصفوف شارحاً على "الباور بوينت"، أداته المفضلة للتعبير عمّا يجول بخاطره، وسط إعجاب وتصفيق من الحضور، وجُلّهم من منتقديه هذه الأيام، وأحياناً وسط إنحناءات مفرطة، تعكس التزلف والتذلل، أكثر مما تعكس من مشاعر التقدير والإعجاب بما يقدمه الرجل.
باسم عوض الله، كان ناطقاً بلسان حقبة لم تنته بعد، فليس ثمة ما ينبئ بأن الدولة تخلت عن "لَبلَرة" الاقتصاد، ولا على أنها تنتوي المزاوجة بين ليبرالية اقتصادية وأخرى سياسية... مشكلة عوض الله، أنه "كان أعوراً بين عميان"، فالرجل لا يتوفر على مؤهلات "زعامية" ولا على "كاريزما"، تجعل منه قائداً... عوض الله سقط "على حكومات موظفين، فكان من أنشطهم وأكثرهم ابتكاراً، عوض الله سقط على برلمانات هشة، فردانية، "زبائنية"، فكان مقصد نواب الصوت الواحد، عوض الله عرف من أين تؤكل الكتف، فمضى في طريقه بسرعة الصاروخ، حتى وإن كان صاروخاً من النوع الصيني "الطائش"، الذي يتهددنا بالسقوط فوق رؤوسنا.
ذهب عوض الله وبقيت "العوضية"، مع الاعتذار من سلام فيّاض و"الفيّاضية"، و"العوضيّة" بهذا المعنى، ليست شخوصاً ومسؤولين، بل هي مدرسة فكرية، سياسية–اقتصادية–اجتماعية... والعوضيّة" بهذا المعنى، لا تحتاج لاستعادة تجربة العراق في "اجتثاث البعث"، بل لقرار سيادي، بإعادة تعريف و"دسترة" نهج الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي... نقول ذلك وفي أذهاننا الحملة التي بدأت بقوة، مع صدور الإرادة الملكية بتعيين الدكتور جعفر حسان مديراً لمكتبه، باعتباره تلميذاً في مدرسة عوض الله، والحقيقة أنني قرأت كتاب حسان الموسوم: "الاقتصاد السياسي الأردني: بناء في رحم الأزمات"، ووجدت فيه مراجعات بالاتجاه الصحيح، دون أن تصل إلى خواتيمها المأمولة، ولقد أبلغته "ذات عشاء" على مائدة السفير الياباني في عمان، بأنني أرغب في مناقشته بملاحظاتي على الكتاب وخلاصاته، إلا أن الوقت لم يسعفنا لفعل ذلك.
أجازف بالقول، أن جعفر حسان، وحتى باسم عوض الله، لربما كانا من أنشط الداعين لـ "اقتصاد السوق الاجتماعي" و"الديمقراطية الاجتماعية" والانتقال من دولة الريع إلى دولة الإنتاج، ومن الاعتمادية إلى الاعتماد على الذات، لو أنهما حين توليا مواقهما القيادية، حظيا بالتوجيه الواضح والحازم باعتماد هذه المدرسة الفكرية في الاقتصاد السياسي–الاجتماعي، وفي أسوأ تقدير، لربما كان اعتذرا عن منصبيهما، في حال تعذرت عيلهما فرص التأقلم والتكيف مع توجه الدولة... من هذا المنطق، لا أرى مبرراً للحملة المبكرة على جعفر حسان، ولست من أنصار نظرية "الاجتثاث"، لا في العراق ولا في الأردن.
واختتم بتوجيه النصح، للكتاب (المخضرمين منهم) وبالذات من معسكر اليسار الحالي والسابق، بالعودة على كتاباتهم في حقبة التسعينات، لاستجماع ما قالوه في هجاء الصندوق (النقد الدولي) والصندوقيين، وفي التحذير من وصفات البنك الدولي، ومن بكائيات على أطلال القطاع العام وأصوله، وما أبدوه من حذر وقلق من البرجوازية الكمبرادورية وتفشي الفساد وشيوعه... من سخريات القدر، أن نفراً من هؤلاء، ارتأى التحالف مع "البرجوازية البيروقراطية" في مواجهته مع "الكومبرادور والنيوليبرالية"، واستمعت شخصياً لنصائح وشروحات في أهمية دعم مدير المخابرات الأسبق محمد الذهبي في مواجهة باسم عوض الله، كان ذلك قبل أن تنكشف "لائحة الذهبي للمؤلفة جيوبهم"...أما سخرية القدر الثانية، فقد جاءت بعد حين: كلاهما، الذهبي وعوض الله، في السجن، الأول استقر فيه لسنوات، أما الثاني، فلا نعلم إن كان سيلقى المصير ذاته، أم أن "معادلات الإقليم وحساباته" ستخرجه سريعاً إلى فضاء الحرية.
"الأسطرة" في السياق الفلسطيني
قصة دحلان، تلتقي وتفترق عن حكاية عوض الله، هما يتشاركان في الذكاء والطموح والمبادرة، وهما جاءا من أسرتين متواضعتين، الأول من أزقة مخيم في غزة، والثاني من أسرة احترفت تأجير السيارات في واشنطن، كلاهما سقط على مؤسسات مفرغة ونخب مهترئة، وعرضا خدمات، لم يمتلك كثيرٌ من أقرانهما "موهبة" تقديمها، وكلاهما برزا في لحظة انتقال تاريخية نادرة، "بين عهدين"، عوض الله بين مملكتين، ودحلان بين عهدين: عرفات وأبو مازن.
دحلان مثل عوض الله، نُسِبت إليه أدوار لا قبل له بها ولا طاقة له عليها، فهو المتآمر في ليبيا مع الجنرال حفتر، وهو الداعم والمحرض على انقلاب 2016 في تركيا، وهو مهندس الانتقال في سودان ما بعد عمر حسن البشير، وهو من يقف وراء حرب المياه على مصر والسودان، وهو الحاضر في مالي وصربيا وأذربيجان... خرافات وأساطير يجري تطييرها من دون تدقيق أو تمحيص، و"أسطرة" تجعل من رجل عادي، أقرب إلى "القدر الذي لا رادّ له"؟
وفيما كانت لعبة عوض الله، المال والأعمال والبنك والصندوق والسياسات والباور بوينت و"دافوس" والعلاقات العامة، كان الأمن والاستخبارات والقنوات الخلفية والمكائد وحتى الاغتيالات والتصفيات، لعبة دحلان المفضلة، والملعب الوحيد الذي يبرع فيه، من دون منازع... عوض الله، بنى شبكة إقليمية وعالمية في عالمه، ودحلان بنى شبكة إقليمية إخطبوطية، في علاقاته مع أجهزة المخابرات والأمن، بما فيها الأجهزة الإسرائيلية والأميركية والعربية.
أحلام كلا الرجلين، و"شبقهما" لامتلاك ناصية الثروة والسلطة، جعلت منهما لقمة سهلة في أيدي قوى إقليمية، طامعة وتدخلية، ولديها جدول أعمال حافل بالمغامرات و"الأكشن"، كلاهما وجد في الرياض وولي عهدها، وفي أبو ظبي ورجلها القوي، ضالته لاختصار الوقت والجهد، حتى وإن كان الثمن لذلك، "التآمر" على بني قومه، وأصحاب الفضل الأول، في صعودها إلى عوالم الاقتصاد والاستخبارات.
صعد نجم دحلان في مواجهة مهمتين، لم يكن الرئيس محمود عباس بعيداً عن كلتيهما: الأولى؛ التصدي لـ"بقايا الثائر" في شخصية الراحل ياسر عرفات، الذي حاول الجمع داخل ضلوعه بين "نقيضين": السلطة والثورة، وبقية القصة معروفة، وضغوط جورج بوش للمجيء برئيس للحكومة (عباس) وتمكين دحلان من دور أساسي، يخصم من صلاحيات الراحل صاحب النفوذ المتفرد، معروفة للجميع، ولقد كنت شاهداً في شرم الشيخ والعقبة على الاهتمام الذي أولاه الرئيس الجمهوري لرئيس الوزراء محمود عباس، وفي البحث عن دحلان والتعرف عليه... أما الثانية؛ ففي مواجهة حماس الصاعدة، ويومها لم يجد الدحلان دعماً من عباس فحسب، بل وحظي بدعم من "الرباعية الأمنية العربية" آنذاك، التي وضعت لنفسها هدف مواجهة إيران والتصدي لـ"هلالها الشيعي"، وقد عُدّت حماس من ضمن هذا "الهلال"، وبات إسقاطها متطلباً من متطلبات "الأمن القومي العربي"... يومها كان دحلان حاضراً على موائد تلك الرباعية، وبمعرفة عباس وتشجيعه، حتى وهو يمثل "نصف الجهاز الأمني الفلسطيني"، وليس بعيداً عن غزة، كان الراحل وسام الحسن، حاضراً على موائد الرباعية ذاتها، وبهدف تطويق إيران في لبنان، وحصار حزب الله.
قطع الرجلان (عباس ودحلان) شوطاً كبيراً في تحقيق المهمة الأولى، وعمل شارون على تسهيل مهمتهما بتفعيل "العناية الإلهية" ومساعدتها" للخلاص من ياسر عرفات، كما قال ذات يوم لجورج بوش، فأصبحت الساحة خالية للعهد الفلسطيني الجديد، قبل أن يندلع الصراع على السلطة والثروة (وليس الثورة) بين الرجلين لاحقاً، ليبلغ حد القطع والقطيعة، عندما اقترب دحلان من خطوط عباس العائلية الحمراء، فتندلع "حرب إلغاء" بين الرجلين، ما زالت فصولها متوالية.
على أنهما أخفقاً أيما إخفاق، في التصدي للمهمة الثانية: حماس ما زالت موجدة وتتمدد، ولحظة "الحسم/الانقلاب" في غزة، أظهرت أن رهان "الرباعية الأمنية" على حصان دحلان، كان رهاناً على حصان خشبي، ونجحت حماس في تنفيذ "انقلاب استباقي على للانقلاب المنتظر"... أما في لبنان، فالحكاية التي بدأت فصلوها باغتيال الحريري الأب، باتت مروية ومعروفة.
على أن تطورات الإقليم اللاحقة ستوفر للرجل (دحلان) فرصة لإعادة ترميم دوره، واستعادة زمام المبادرة بعد الهزيمة النكراء في 2007، فحرب بعض الأنظمة على الإسلام السياسي زمن الربيع العربي، وفرت له منصة جديدة للانطلاق واستعادة "نسغ الحياة"، ورغبة دول أخرى في فتح ثغرة "دفرسوار" في النظام السياسي الفلسطيني، مكنته من استعادة بعضٍ من أدواره... عزلة حماس في غزة، وانتهازيتها، ورغبتها "تسوية بعض الحسابات" مع عباس وفتح، مكنت الرجل من العودة إلى القطاع، بدايةً تحت يافطة المساعدات الإنسانية والوعود بتسهيل الحركة على معبر رفح، وتالياً تحت رايات الانتخابات العامة، تشريعية ورئاسية.
دحلان مثل عوض الله، سقط على مؤسسات مهترئة، وقيادة جديدة، لا حول لها ولا قوة، ونخب متهافتة، وعلاقات زبائنية، الأقوى فيها لمن يمتلك المال والسلطة... دحلان مثل عوض الله، الأول ناطق بلسان عهد ومرحلة، وتيار "المفاوضات حياة" و"السلطة وجدت لتبقى" حتى وإن كانت بلا سلطة، ودرعاً واقياً للاحتلال والاستيطان، والثاني ناطق بلسان طبقة ونخبة وسياسة دولة، لا سياسة أفراد متفرقين... الأول، حلق على جناح محور إقليمي وسياسات تدخلية رعناء وكراهية مفرطة للإسلام السياسي، والثاني، طار بأجنحة المصارف ودافوس والصناديق، وتقلب من بين عهدين، وخدم أكثر من بلاط في المنطقة... الأول، بدأ يقدم حسابات البلاط الأميري بات مرتمياً في أحضانه، حتى وإن اختلفت حساباته ومصالحه، مع حسابات ومصالح من أوصلوه لمواقع السلطة والنفوذ، مرتضياً بدور "الدفرسوار"، أما الثاني، فلم يتوان على التورط في "مؤامرة الفتنة" حتى وإن أفضت إلى المس بأمن الأردن وسلامته، والتأثير على مواقفه من قضايا كبرى وفقاً لمفردات بيان الحكومة ومؤتمرها الصحفي الأول.
ولو قُدّر اليوم، أو غداً، السماح لدحلان بالانخراط في النظام السياسي الفلسطيني مجدداً، لصار طريقه نحو الخلافة والوراثة، مفتوحاً بلا عوائق، فلا أحد من "مؤمياءات" الأطر القيادية المتخشبة، بقادر على منافسته ومجاراته، وهذا ما يعرفه عباس وصحبه جيداً، وفي هذا السياق تحوّلت الحرب على "التجنح" إلى ما يشبه "اجتثاث البعث".
قد تطوي "الفتنة"، صفحة عوض الله، وقد يصبح ورقة محروقة لدى مشغليه...وقد تطوي تطورات الإقليم وسيولة التحولات الجارية فيه، صفحة الدحلان، كمحارب ضد الإسلام السياسي، لكن من الصعب أن يجري التخلي عن دوره بوصفه "دفرسوار" إماراتي في النظام الفلسطيني، فالإمارات بخلاف جميع الدول التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل، تنظر لهذه العلاقة، كمشروع حلف استراتيجي مستدام، عابر للإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية، ومن هنا، ستظل حاجتها قائمة لـ"رأس جسر" إلى الساحة الفلسطينية.
حكاية الدحلان وعوض الله، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لا في الأردن وفلسطين، ولا في غيرهما... ولا أدري لماذا تذكرني مروياتهما، بما كتبه كارل ماركس في العام 1852، بعنوان "الثامن عشر برومير لويس بونابرت"، وفيه يحكي عن الكيفية التي أوصلت ديكتاتوراً محدود المواهب، إلى موقع الحَكَم والحاكم بين الطبقات الاجتماعية الفرنسية، في لحظة توازن هش، لا الجهاز البيروقراطي العملاق للرأسمالية قادر على إدامة السيطرة بالأدوات القديمة البالية، ولا الخراب المقيم في حزب "البروليتاريا"، المسيّج بالأوهام والأكاذيب يساعده على الحسم الثوري.