أرشيف الإنترنت الهشّ: التخلي عن أدوبي فلاش
علي عواد
2023-06-04 06:31
أوائل التسعينيات، مع بدء توسع الإنترنت واستخدامه من عموم الناس، طوّر المبرمج الأميركي، جوناثان غِي، برنامج رسوميات يدعى «سمارت سكتش»، سمح للمستخدمين بالرسم على شاشة الكومبيوتر باستخدام قلم إلكتروني، وإنتاج رسوميات متجهية (Vector graphics). وفي عام 1995، أراد غِي إضافة ميزة الرسوم المتحركة إليه، فأسس شركة تدعى «فيوتشر ويف سوفت وير» (FutureWave Software)، وأصدر البرنامج الجديد «فيوتشر سبلاش انيميتور». في حينها، كان التطبيق حدثًا مذهلًا، كان متوافقًا مع كل من نظامي التشغيل «ويندوز» و«ماكنتوش»، ومكّن المستخدمين من إنشاء رسوم متحركة للويب قائمة على الرسوميات المتجهية (Vector). ولزيادة الدهشة، دعم البرنامج مزامنة الصوت والتفاعل مع الصور، ما سمح للمستخدمين بإنشاء محتوى متعدد الوسائط وجذاب، دون الحاجة إلى سعة تخزينية كبيرة، لتتغيّر معه كيفية تفاعلنا مع الويب إلى الأبد.
لكن بداية، ماذا تعني الرسوميات المتجهية؟ تتكون الصور التي نشاهدها في أغلب الأحيان على الشاشات من نقاط مبنية من وحدات البكسل «Pixels». وكلما كانت وحدات البكسل أكثر، ارتفعت جودة الصورة وبات يمكن لنا تكبيرها. في حين أن الصور المتجهية تتكون من أشكال يتم تخطيطها باستخدام معادلات رياضية تحسب مكان تواجد حواف الأشكال بالنسبة إلى بعضها البعض، ويمكن إعادة تحجيمها وتدويرها كما نريد دون فقد الجودة. وعلى سبيل المثال، نستطيع تكبير صورة نقطة أنشئت عبر الرسومات المتجهية لتصبح بحجم مبنى كامل ولن تفقد جودتها.
الطريق إلى أدوبي فلاش
بالعودة إلى قصتنا، انتشر برنامج «فيوتشر سبلاش أنيميتور» كالنار في الهشيم، واستخدم على نطاق واسع لإنشاء وتسليم الرسوم المتحركة والألعاب وتطبيقات الويب ومحتوى الفيديو على الإنترنت. وكذلك للإعلانات التفاعلية والتجارة الإلكترونية. ومع تعاظم شعبية البرنامج واستخداماته، لفت انتباه شركة «مايكروسوفت»، التي استخدمته لإنتاج مكونات جذابة وتفاعلية على موقع «MSN» الإلكتروني. كما جذب التطبيق اهتمام شركة «ماكروميديا»، وهي شركة برمجيات متخصصة في أدوات تطوير الويب. علمت «ماكروميديا» أهمية البرنامج وإمكاناته، واستحوذت على الشركة المالكة له «فيوتشر ويف سوفت وير» عام 1996. وأعادت تسمية البرنامج ليصبح «ماكروميديا فلاش» ووضعته إلى جانب برمجيات تطوير الويب الأخرى. وفي تلك اللحظة تحديدًا، سرت حياة مختلفة في أسلاك الانترنت.
سرعان ما أصبح «فلاش» البرنامج الأساسي المهيمن على عالم الرسوم المتحركة على الويب، حيث قدم العديد من المزايا مقارنة بالتقنيات الأخرى وتميّز بحجم ملف صغير، ووقت تحميل سريع، وتوافق مع أنظمة التشغيل.
سرعان ما أصبح «فلاش» البرنامج الأساسي المهيمن على عالم الرسوم المتحركة على الويب، حيث قدم العديد من المزايا مقارنة بالتقنيات الأخرى مثل تطبيقات «جافا» والرسوم المتحركة «غيف». تميّز بحجم ملف صغير، ووقت تحميل سريع، وتوافق مع أنظمة التشغيل الأساسية بالإضافة إلى واجهة سهلة الاستخدام. وكانت لديه أيضًا لغة برمجة نصية قوية تسمى ActionScript، مكنت المطورين من إنشاء رسوم متحركة وألعاب وتطبيقات معقدة وتفاعلية. كان العمل على فلاش ممتعًا وسهلًا، إذ كان المستخدم يرسم الأشياء التي يريدها ثم يجعلها تتحرك عبر بضعة نقرات.
استمرت «ماكروميديا» في تطوير وتوسيع قدرات «فلاش» على مر السنين، فأضافت دعمًا لتدفق الفيديو والرسومات ثلاثية الأبعاد والأجهزة المحمولة وتطبيقات الإنترنت الغنية. فأصبح البرنامج أداة شائعة لإنشاء تطبيقات سطح المكتب وألعاب وحدة التحكم، باستخدام أداة تشغيل تسمى «أدوبي أير» (Adobe AIR). في عام 2005، استحوذت شركة «أدوبي» على «ماكروميديا»، وأعادت تسمية «ماكروميديا فلاش» باسم «أدوبي فلاش». حينها، بات «فلاش» العمود الفقري الأساسي للبرامج الأكثر انتشارًا في العالم. في عام 2010، استخدمه أكثر من مليوني مبرمج، ووصل المحتوى الذي أنشئ عبره إلى 99% من أجهزة الكمبيوتر المكتبية المزودة بالإنترنت في الأسواق المتقدمة.
وبطبيعة الحال، لن ينسى جيل التسعينيات في العالم العربي تلك الفترة، حيث انتشرت المواقع التي عُرفت بالمنتديات، وأظهرت أشكالًا تفاعلية مميزة مستفيدة من تلك التقنية.
الرهان الخاسر
كل تلك الميزات البراقة التي قدمها «فلاش» والتي غيّرت تفاعلنا مع الويب، كانت بحاجة إلى أمر سبب صداعًا وأوجاعًا في رأس كل تقني عمل في صيانة الحواسيب. لنستطيع مشاهدة محتوى مصنوع عبر «فلاش»، كان علينا تنصيب برنامج يُشغل هذه التقنية على الحاسوب، وتحديثه باستمرار وإلا توقف عرض المحتوى. كانت بداية الألفية الثالثة، ولم تكن المتصفحات (Browsers) قادرة على دمج فلاش كـ«إضافة» (Plugin) مثل اليوم، فكان على المستخدم أن يذهب بنفسه إلى موقع الشركة الإلكتروني لتحميل برنامج «أدوبي فلاش بلاير».
عمليًا، عنى هذا سيطرة غير مباشرة من برنامج تحتكره شركة واحدة على محتوى الويب. شركة واحدة لديها القدرة على إملاء معايير وميزات الويب. وهذا بطبيعة الحال، سيخلق أعداء كُثُر.
ليس ذلك فحسب، كان لدى «فلاش بلاير» العديد من العيوب والقيود والثغرات البرمجية. كذلك، لم يكن متوافقًا مع الأجهزة المحمولة وشاشات اللمس، والتي أصبحت شائعة بشكل متزايد منذ عام 2007، مع صدور النسخة الأولى من هاتف «آيفون». كما أن تلك البرمجيات استهلكت الكثير من طاقة البطارية وموارد وحدة المعالجة المركزية، مما أثر على تجربة المستخدم. كذلك، كانت تقنية فلاش غير محبذة من المعلنين عبر الانترنت، فالإعلانات كانت بغالبيتها مصنوعة عبر «فلاش»، ولم تقم سوى نسبة ضئيلة من المستخدمين حول العالم بتحديث البرنامج على أجهزتها، ما منع وصول الإعلانات بالشكل المطلوب. وعندما عملت الإعلانات، كانت المواقع تضج بها وباتت تثقل الصفحات وبالتالي تجعل من عملية تصفح الويب أمرًا مأساويًا، حتى بمعايير ذلك الوقت. وبالإضافة إلى ذلك، منذ عام 2006 حتى عام 2020، سُجلت أكثر من 1100 ثغرة برمجية في برنامج «فلاش» جعلت حواسيب المستخدمين عرضة للقرصنة الرقمية.
نتيجة لذلك كله، واجه «فلاش بلاير» منافسة ومعارضة متزايدة من التقنيات البديلة، وخاصة من «إتش تي إم إل 5»، وهي لغة تسمح بتكوين صفحات المواقع الإلكترونية. لا تعد «إتش تي إم إل» لغة برمجة، إنما لغة برمجة نصية (Scripting language)، مفتوحة المصدر، لا يملكها أحد، وتضمنت ميزات مثل تضمين الفيديو والصوت ومزايا أخرى في مواقع الويب. وأجمل ما فيها أنها سمحت بإنشاء ذلك كله دون الاعتماد على مكونات إضافية خارجية، أي أن المستخدم لا يحتاج إلى تنصيب أي شيء على جهازه. كذلك، دعمت جميع المتصفحات والأجهزة الحديثة، وقدمت أداءً وأمانًا وإمكانية وصول وتوافقًا أفضل من «فلاش بلاير».
لا شيء يضمن بقاء محتوى الويب الذي نتصفحه اليوم خلال قادم السنوات. هو أمر يعتمد على مشاريع تعمل على أرشفة الويب، وعلى صانعي المحتوى أنفسهم.
بدأ الانتقال من «فلاش بلاير» إلى «إتش تي إم إل 5» منذ العام 2007، عندما بدأ اللاعبون الرئيسيون في صناعة الويب في اعتماد «إتش تي إم إل 5» والترويج له على أنه المستقبل. في عام 2007، أعلنت شركة «آبل» أن جهاز «آيفون» لن يدعم «فلاش»، مشيرة إلى عيوبه، وأشادت بـ«إتش تي إم إل 5» كبديل ممتاز. في عام 2010، نشر ستيف جوبز، خطابًا بعنوان «أفكار عن فلاش»، كان بمثابة أول مسمار في نعش البرنامج. كرر فيه انتقاده له وشرح سبب عدم سماح شركة «آبل» باستخدامه على أجهزتها. في عام 2011، أعلنت «مايكروسوفت» أن متصفح «إنترنت إكسبلورر» الخاص بها سوف يدعم «فلاش» فقط على مواقع محددة، وأنها تفضل «إتش تي إم إل 5». في عام 2012، أعلنت «موزيلا» مالكة متصفح «فاير فوكس» أنها تفكر بإيقاف عمل «فلاش» على المتصفح الخاص بها، وستترك للمستخدمين حرية تشغيله. في عام 2015، أعلنت «غوغل» أنها ستتوقف عن دعم «فلاش» على متصفح «كروم»، وأنها ستحول إعلانات «فلاش» تلقائيًا إلى «إتش تي إم إل 5».
أجبرت تحركات عمالقة التكنولوجيا هذه العديد من مواقع الويب والمطورين على الانتقال إلى «إتش تي إم إل 5»، أو المخاطرة بفقدان إيراداتهم. وقررت بعض مواقع الويب التخلي عن «فلاش» تمامًا وإعادة بناء محتواها باستخدام «إتش تي إم إل 5» كليًا. على سبيل المثال، تحول يوتيوب إلى «إتش تي إم إل 5» في عام 2015، بعد سنوات من الاختبار والتجربة بتنسيقات مختلفة. قررت مواقع الويب الأخرى استخدام كل من «فلاش» و«إتش تي إم إل 5» في وقت واحد، والسماح للمستخدمين بالاختيار بينهما.
المسمار الأخير في نعش «فلاش» وضع في عام 2017، عندما أعلنت «أدوبي» أنها ستنهي دعم البرنامج بنهاية عام 2020. كذلك شجعت الشركة المستخدمين على إلغاء تثبيت «فلاش» من أجهزتهم وحثت المطورين على تحويل المحتوى الخاص بهم إلى «إتش تي إم إل 5» أو تنسيقات أخرى مفتوحة المصدر. وتعاونت أدوبي أيضًا مع مالكي المتصفحات مثل «غوغل» و«مايكروسوفت» و«موزيلا» لتنسيق إزالة «فلاش» من منتجاتهم. وفي 31 كانون الأول 2020، أوقفت أدوبي رسميًا «فلاش» وتوقفت عن تقديم تحديثات أو تصحيحات أمان له. وفي 12 كانون الثاني 2021، حظرت «أدوبي» تشغيل أي محتوى «فلاش» عبر «فلاش بلاير». لتنتهي بذلك حقبة ألهمت الملايين لإنشاء محتوى مذهل، وتحل محلها في النهاية تكنولوجيا أكثر انفتاحًا وحداثة وفعالية قدمت تجربة مستخدم أفضل.
كيف يمكن لنا مشاهدة محتوى «فلاش» اليوم؟
لا يزال هناك إرث كبير صنع عبر «فلاش»، مواقع الكترونية ومحتوى من ألعاب وفيديوهات وتطبيقات والكثير من النوستالجيا. لكن من غير المحبذ فعل ذلك لما تنطوي عليه المهمة من مخاطر فتح ثغرات برمجية في الحواسيب التي نستعملها، ما تجعلها عرضة للقرصنة وسرقة البيانات. لكن هناك مشاريع عملت على حفظ أرشيف المحتوى الذي صنع عبر «فلاش»، مثل برنامج BlueMaxima’s Flashpoint، وهو متوفر بنسختين: الأولى حجمها 500 ميغا بايت، والثانية حجمها أكثر من 500 غيغا بايت وتعمل دون اتصال بالانترنت بعد تنزيلها. ويمكن تشغيل محتوى فلاش ضمن تلك البرامج بحيث لا تضر بكومبيوتر المستخدم.
كذلك، يسمح موقع archive.org للمستخدمين بتصفح ما استطاع تخزينه من محتوى مصنوع عبر «فلاش»، ويمكن للمستخدمين الوصول إليه من هنا.
أرشيف الويب
في عالم الديجيتال، لا شيء محصن أمام التطوير. على سبيل المثال، انهزام ياهو أمام غوغل، ولغات برمجية كانت الحجر الأساس لبناء بروتوكولات الإنترنت والويب، اندثرت ونُسيت ليأتي بديلها الأحدث والأفضل والأكثر أمانًا. حتى الأجهزة كذلك، فالجيل الجديد من الشباب لا يعرف ما هو الفلوبي ديسك، والكومبيوتر الحديث بات يأتي من دون جهاز قراءة الأقراص المدمجة.
محتوى الويب وأرشيفه يتعاظمان باستمرار، 90% من كل البيانات الموجودة اليوم أنشئت خلال السنتين الماضيتين فقط. وهذا يطرح أسئلة كبرى من مثل إلى متى يمكن الاستمرار في توسعة السعة التخزينية لحفظ البيانات؟ وهل التكنولوجيا الحالية قادرة أساسًا على هذا الأمر؟ من هنا، لا يمكن لنا التنبؤ بما سيكون عليه شكل الويب في المستقبل بشكل دقيق. فمنذ عام 1989 إلى عام 2005، كان الويب بنسخة 1.0، حيث لم يكن باستطاعنا أن نتفاعل معه أو أن نضيف محتوى عليه.
محتوى الويب وأرشيفه يتعاظمان باستمرار، 90% من كل البيانات الموجودة اليوم أنشئت خلال السنتين الماضيتين فقط.
منذ عام 2005 إلى اليوم، الويب يعمل بنسخة 2.0، والتي أمنت للمستخدمين القدرة على التفاعل مع المحتوى، وتعديله وصنعه، وبات هناك منصات تواصل اجتماعي ومدونات، بمعنى أن المستخدم بات جزءًا من صناعة البيانات والمحتوى. واليوم، العمل جارٍ على صنع الويب نسخة 3.0، والتي سيتغير معها كل شيء. إذ من خلال الويب نسخة 2.0، احتكر عمالقة التكنولوجيا بيانات المستخدمين في خوادم شركاتهم ومنصاتهم، باعوها من أجل الإعلانات الموجّهة وراكموا مليارات الدولارات على حساب المستخدم. لكن، في النسخة الجديدة من الويب، ستكون البيانات محفوظة بشكل لامركزي يعتمد على تقنية «بلوكتشاين»، كذلك، كل محتوى رقمي من صورة أو نص أو فيديو، سيكون موثقًا باسم المستخدم الذي صنعه عبر تقنية «NFT». كما أن طريقة تصفحنا الويب ستكون داخل الميتافيرس. بكلمات أخرى، الويب الحالي سيكون بمثابة الكتاب الورقي لحظة ظهور الكومبيوتر اللوحي.
نظريًا، لا شيء يضمن بقاء محتوى الويب الذي نتصفحه اليوم خلال قادم السنوات. هو أمر يعتمد على مشاريع تعمل على أرشفة الويب، وعلى صانعي المحتوى أنفسهم، إذ إن المحتوى كما بتنا نعلم، يملكه أفراد أو مؤسسات وشركات، وهو عبارة عن ملفات محفوظة في خوادم. وقد تأتي تقنية جديدة مثلًا وتستبدل لغة التصميم «إتش تي إم إل» بأخرى، وبالتالي سيتوجب على قبائل الانترنت كلها أن تنتقل تدريجيًا إليها. وسيتكرر الأمر كما حصل مع «أدوبي فلاش». إلا أن المفارقة هنا، أن فلاش كان مملوكًا من شركة حاولت احتكار تصفحنا الويب كي يتم عبر برامجها فقط. في حين أن «إتش تي إم إل» معيار مفتوح (open standard).